أمريكا والصين صراع الهيمنة على مثلث القوة الاستراتيجي
فرع القاهرة

لم يعد النظام الدولي منذ مطلع العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين قائمًا على المنافسة التقليدية بين القوى الكبرى كما كان الحال خلال الحرب الباردة، أو حتى خلال لحظة القطب الواحد في التسعينيات، بل لم يعد هناك أي مجال للشك أو التأويل: المنافسة الأمريكية-الصينية لم تعد مجرد صراع اقتصادي أو تكنولوجي أو حتى عسكري تقليدي يمكن احتواؤه داخل حدود الحرب الباردة القديمة، بل تحولت إلى حرب وجودية شاملة متعددة الأبعاد على ثلاثة محاور مترابطة ترتبط ببعضها ارتباطاً عضوياً لا يمكن فصله أو تجزئته تحت أي ظرف من الظروف.

هذه الثلاثية ليست ثلاثة ملفات منفصلة يمكن التعامل معها بشكل مستقل كما كان يحدث في القرن العشرين، بل تشكل مثلثاً حديدياً متساوي الأضلاع، كل زاوية تغذي الأخريين وتقوّيهم وتحميهم، وفي الوقت نفسه يمكن أن تُستخدم أي زاوية لخنق الزاويتين الأخريين تماماً في غضون أسابيع أو حتى أيام. من يسيطر على اثنتين من الزوايا الثلاث يستطيع عمليًا أن يشل الزاوية الثالثة تماماً، ومن يسيطر على الثلاث يستطيع أن يفرض شروطه على العالم بأسره.

الصين: التي انتقلت خلال أربعين عامًا من دولة نامية تعتمد على العمالة الرخيصة إلى قوة صناعية وتكنولوجية متقدمة، أدركت منذ وقت مبكر أن القوة الحديثة لا تُكتسب فقط عبر المصانع والميزانية العسكرية، بل عبر السيطرة على “بنية العالم”: أين تمر التجارة؟ من يملك المادة الخام؟ من يكتب معايير التكنولوجيا؟ ومن يسيطر على البنية الرقمية التي تُدار من خلالها الدول، والمؤسسات، والاقتصادات، والجيوش؟

الولايات المتحدة: من جهتها، أدركت أن القواعد التي وضعتها بعد الحرب العالمية الثانية لم تعد تكفي، وأن قدرتها على الاحتفاظ بالهيمنة تحتاج ليس فقط إلى جيش متفوق، بل إلى إعادة ضبط كامل للمنظومة العالمية بحيث تظل هي مركز الممرات، ومركز التكنولوجيا، ومركز النظام المالي والرقمي.

حرب الممرات متعددة الأبعاد

يمكن فهم “الممرات البحرية” ليس كخطوط ملاحة، بل كأدوات للتحكم في تدفق الطاقة والسلع والمعادن والمكونات الصناعية. فالممر البحري اليوم هو مساحة نفوذ جيو–اقتصادي، وهو في الوقت ذاته مساحة نفوذ سيبراني، لأنه يحمل الكابلات التي تمثل العمود الفقري للإنترنت العالمي. ولذلك أصبحت السيطرة على المضائق والبحار المفتوحة مسألة تتجاوز البحرية العسكرية إلى بنية النظام الدولي كله.

كل يوم، وفي كل ساعة، وفي كل دقيقة تقريباً، تمر عبر مضيق ملقا أكثر من مائة وعشرين ألف سفينة تجارية وعسكرية، تحمل أربعين بالمئة من حجم التجارة البحرية العالمية وثمانين بالمئة من واردات الصين النفطية من الخليج العربي وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. تقديرات البنتاغون المسربة في تقريره السنوي لعام 2024 (الذي تم تسريبه جزئياً في أغسطس 2025) تؤكد أن إغلاق هذا المضيق لمدة عشرة أيام متواصلة فقط يكفي لإفراغ سبعين بالمئة من مخزونات الديزل الصناعي في شرق الصين، وأن ثمانية عشر يوماً تكفي لتوقف أربعة وتسعين بالمئة من المصانع الكبرى في دلتا نهر اللؤلؤ ومنطقة شنغهاي-نانجينغ ومنطقة بكين-تيانجين. هذا الرقم ليس نظرياً على الإطلاق، فقد تم اختباره جزئياً خلال أزمة كوفيد-19 عندما انخفضت حركة الشحن في المضيق بنسبة 3% لأسابيع قليلة فقط، مما أدى إلى نقص فوري في الوقود الصناعي وارتفاع أسعار الشحن العالمية بنسبة 420% في غضون أسابيع، وكاد يؤدي إلى توقف مصانع فوكسكون وتي إس إم سي جزئياً.

الرئيس "هو جين تاو هو" من صاغ مصطلح «معضلة ملقا» عام 2003 في خطاب سري أمام اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، ومنذ تلك اللحظة بالذات تحولت هذه المعضلة إلى البوصلة الاستراتيجية التي تحدد كل خطوة صينية في السياسة الخارجية والعسكرية والاستثمارية على مدى العقدين الماضيين. الصين لم تكتفِ بالشكوى أو التهديد، بل أنفقت أكثر من تريليون وثمانمائة مليار دولار حتى نهاية عام 2025 في بناء عالم موازٍ كامل من الممرات البديلة: خطوط السكك الحديدية الصين-أوروبا عبر كازاخستان وبيلاروسيا وروسيا ارتفع عددها من ثمانين رحلة سنوية عام 2011 إلى ثمانية عشر ألفاً وأربعمائة رحلة سنوية في 2025، وأصبحت تنقل بضائع بقيمة 74 مليار دولار سنوياً، وتقلص زمن الشحن من 45 يوماً بحراً إلى 12-14 يوماً براً.

ذوبان الجليد في القطب الشمالي فتح طريق الحرير الجليدي، فصارت الصين تمتلك تسع كسارات جليد نووية وغير نووية مقابل اثنتين فقط للولايات المتحدة، وتخطط للوصول إلى خمس عشرة كاسحة بحلول 2030، وتقلص المسافة بين شنغهاي وروتردام من 20 ألف كيلومتر إلى 12 ألف كيلومتر فقط. قاعدة جيبوتي العسكرية التي افتتحت عام 2017 تحولت إلى مركز لوجستي يدير استثمارات صينية بقيمة اثنين وتسعين مليار دولار في موانئ كينيا وتنزانيا وجيبوتي والصومال والسودان وموزمبيق. وفي أمريكا اللاتينية بدأ العمل الفعلي في أغسطس 2025 في مشروع قناة نيكاراغوا الجافة بتكلفة ستين مليار دولار، والذي سيربط المحيط الأطلسي بالمحيط الهادئ براً وسككاً حديدية عالية السرعة، ويُدار بالكامل من شركات صينية.

أما بالنسبة للولايات المتحدة، فإن السيطرة على الممرات البحرية ليست مجرد إرث بحري من حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بل شرط وجود. فاقتصادها يعتمد على سلاسل إمداد عالمية لا يمكن أن تستقر دون حرية الملاحة، وجيشها يعتمد على التفوق البحري لضمان تفوقه العالمي، وحلفاؤها في آسيا يعتمدون على وجودها البحري كضمانة ضد أي محاولة صينية لتغيير الوضع القائم.

لذا، لم تجلس واشنطن مكتوفة الأيدي أمام هذا التمدد الاستراتيجي المرعب. عمليات حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي وصلت إلى مائة وثمان وستين عملية خلال عام 2025 وحده، أي بمعدل أكثر من عملية كل يومين، وتشمل مرور مدمرات وغواصات وحاملات طائرات أحياناً. تحالف أوكوس في مرحلته الثانية سيضع ثماني غواصات نووية هجومية أسترالية تعمل باليورانيوم عالي التخصيب، تغطي مباشرة خط ملقا-الصين الجنوبي، وتستطيع البقاء تحت الماء لأشهر دون صيانة. اتفاقية سرية وقّعت في يوليو 2025 مع فيتنام تتيح للبحرية الأمريكية استخدام قاعدة كام رانه البحرية، وهي النقطة الأخطر على خط الإمداد الصيني الجنوبي بأكمله، ويمكن منها قطع كل الإمدادات الصينية في بحر الصين الجنوبي في غضون ساعات. برنامج الشراكة من أجل البنية التحتية العالمية ضُخَّت فيه ثلاثمائة واثنا عشر مليار دولار إضافية في عهد ترامب الثاني، مع تركيز خاص على موانئ سريلانكا (هامبانتوتا تم استردادها جزئياً) وجزر المالديف وجيبوتي وموزمبيق وكينيا وجزر سليمان، لتكوين حلقة خنق بحرية كاملة حول المصالح الصينية.

المعادن النادرة.. السلاح الخفي

في سبتمبر 2010 وبعد أيام قليلة فقط من اصطدام سفينة صيد يابانية بزورق دورية صيني قرب جزر سنكاكو، اختفت صادرات الصين من سبعة عشر عنصرًا نادرًا إلى اليابان تمامًا، فتوقفت مصانع تويوتا وهوندا وباناسونيك ونيكون تسعة وأربعين يومًا متواصلة، وارتفعت أسعار بعض العناصر أكثر من 800% في أسواق لندن وشيكاغو وطوكيو، واضطرت اليابان للتراجع السياسي الكامل. تكرر السيناريو جزئياً عام 2023 بحظر تصدير الغاليوم والجرمانيوم ردًا على قانون تشيبس الأمريكي، ووصل إلى ذروته في أبريل 2025 عندما فرضت بكين قيوداً جديدة على سبعة عناصر ثقيلة نادرة (الإيتريوم، الديسبروسيوم، التيربيوم، اليوروبيوم، اللوتيتيوم، السكانديوم، والجادولينيوم)، مما أدى إلى توقف خطوط إنتاج فورد وجنرال موتورز وتسلا للسيارات الكهربائية اثنين وأربعين يوماً، وارتفع سعر الإيتريوم 54% في أسبوع واحد، والديسبروسيوم 63%، والتيربيوم 71%

فالصين لا تمتلك كل المناجم في العالم، لكنها تمتلك سبعة وثمانين إلى اثنين وتسعين بالمئة من قدرة التكرير العالمية، وحتى منجم ماونتن باس الأمريكي الوحيد في كاليفورنيا لا يزال يرسل ثمانية وستين بالمئة من خاماته إلى الصين للتكرير النهائي لأن أمريكا لا تملك مصانع تكرير كافية. أكبر المناجم خارج الصين تعيش تحت ضغوط صينية مستمرة ومباشرة: منجم ماونت ويلد الأسترالي التابع لشركة ليناس يواجه محاولات استحواذ صينية متكررة، احتياطيات فيتنام الهائلة لا يتم تكرير سوى تسعة عشر بالمئة منها محلياً، مناجم الكونغو الديمقراطية تملك اثنين وسبعين بالمئة من إنتاج الكوبالت العالمي وثمانية وستين بالمئة منها مملوكة أو ممولة صينياً، مناجم مدغشقر وبوروندي وجنوب أفريقيا وأوكرانيا (دونباس) التي كشفت وثائق البنتاغون المسربة في سبتمبر 2025 عن احتياطيات ليثيوم ونيوديميوم ولانتثانوم تقدر قيمتها بأكثر من خمسمائة وأربعين مليار دولار، وأصبحت هدفاً للصين من خلال روسيا.

الغرب يركض للحاق بالقطار الذي فات منذ عقود: استثمار اثنين وثمانمائة وأربعين مليون دولار في شركة إم بي ماتيريالز جعل الحكومة الأمريكية تمتلك تسعة عشر ونصف بالمئة منها، صفقة بثمانية مليارات وأربعمائة مليون دولار مع أستراليا لتطوير منجم تحت الماء في المحيط الهندي، اتفاقية مع الدنمارك في أكتوبر 2025 لاستغلال منجم كوانفجيلد في غرينلاند، مشروع سري مع أوكرانيا لنقل احتياطيات دونباس إلى بولندا في حال سقوط المنطقة. لكن الحقيقة القاسية التي لا يحب أحد قولها بصوت عالٍ هي أن بناء مصنع تكرير كامل للمعادن الثقيلة النادرة يكلف ما بين مليار وثمانمائة مليون وثلاثة مليارات وأربعمائة مليون دولار، ويستغرق من أربع عشرة إلى تسع عشرة سنة بسبب الاشتراطات البيئية والتقنية المعقدة للغاية، وهذا يعني أن الغرب لن يتحرر فعليًا قبل 2040 على أقل تقدير.

إن الصراع على الممرات البحرية، إذن، هو صراع على “الهيمنة الجغرافية–التكنولوجية” في آن واحد. فهذه الممرات تحمل ليس فقط النفط والسلع، بل تحمل كذلك 98% من البيانات في كابلات بحرية تمتد عبر القارات، وهي الأخرى موضع تنافس شديد. فالكابلات التي تمر تحت البحر تحمل الأسرار العسكرية والمالية والتجارية للدول، ومن يسيطر على مساراتها أو على معداتها أو على البنية التي تديرها يستطيع التأثير على كل شيء: من الأسواق المالية في نيويورك إلى شبكات الكهرباء الذكية في أوروبا.

وفي هذا السياق نشأت موجة عالمية من السياسات الهادفة إلى “تحرير سلاسل التوريد من الصين”، من قانون الرقائق الأمريكي إلى الاتفاقات مع أستراليا، ومن محاولات الاتحاد الأوروبي لبناء صناعات معالجة مستقلة إلى دخول اليابان والهند سوق المعادن. لكن بناء شبكة عالمية بديلة يحتاج بين 10 و15 سنة، وهو إطار زمني يمنح الصين تفوقًا تاريخيًا إذا نجحت في الحفاظ على سيطرتها على المعالجة، خصوصًا مع توسعها في أفريقيا والتقاطها المناجم وحقول الليثيوم والكوبالت من خلال عقود طويلة الأمد.

البنية الرقمية.. معركة المصير

يُعدّ الانقسام الرقمي العالمي الذي اكتمل تقريباً بحلول ديسمبر 2025 النتيجة الطبيعية لسباق استمرّ عقداً ونصف العقد بين واشنطن وبكين على السيطرة على البنية التحتية الرقمية العالمية. لقد تشكّلت اليوم منطقتان رقميتان منفصلتان تكادان تكونان منعزلتين تماماً:

_ المنطقة الأمريكية-الغربية: تعتمد على مصانع تايوان لأشباه الموصلات (TSMC) التي تنتج 92% من الرقائق المتقدمة دون 7نانومتر)، وعلى معدات الطباعة الضوئية المتطرفة من شركة ASMLالهولندية، وعلى تحالف Chip-4(الولايات المتحدة، اليابان، كوريا الجنوبية، تايوان)، وعلى مبادرة الشبكة النظيفة Clean Networkالتي تضم 64 دولة وتمنع هواوي وزد تي إي تماماً.

_ المنطقة الصينية: تعتمد على هواوي (التي نفّذت 71,4% من محطات الجيل الخامس والسادس في العالم)، وعلى مصنع إس إم آي سي SMIC(الذي وصل إلى 5 نانومتر تجارياً في نوفمبر 2025 بعد اختراق تقني مفاجئ)، وعلى معايير صينية وقّعت عليها 87 دولة حتى الآن، تشمل كامل القارة الأفريقية تقريباً، و65% من دول أمريكا اللاتينية، ومعظم دول رابطة آسيان عدا الفلبين وسنغافورة.

سيناريوهات المستقبل بين الانفصال والتوازن

تقدم السنوات المقبلة حتى 2040 ثلاثة سيناريوهات رئيسية، لكنها ليست سيناريوهات مرسومة على الورق بقدر ما هي احتمالات تعكس اتجاهات قوة عميقة تتشكل أمام أعيننا.

_ السيناريو الأول (الانفصال الكامل): يتجه العالم إلى نظام ثنائي، ينقسم فيه الاقتصاد والتكنولوجيا إلى كتلتين منفصلتين: كتلة غربية تقودها الولايات المتحدة، وكتلة شرقية تقودها الصين. في هذا السيناريو، يصبح لكل كتلة نظام تشغيل وإيكو سيستم تكنولوجي خاص بها، وربما عملات رقمية منفصلة، وممرات بحرية محمية عسكريًا، ومنظومات إنترنت شبه منعزلة. قد يبدو هذا السيناريو جذابًا لصناع السياسات الراغبين في تجنب الاعتماد على الخصوم، لكنه يحمل تكلفة اقتصادية عالمية قد تكون الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية؛ إذ تشير التقديرات إلى أن الانفصال الكامل قد يخفض النمو الاقتصادي العالمي إلى أدنى مستوياته منذ سبعين عامًا، ويخلق حالة من “التضخم الأمني” الذي يستنزف الدول بدلًا من أن يدفعها إلى الابتكار.

_ السيناريو الثاني (الهيمنة الصينية غير العسكرية): فهو مبني على قدرة الصين على السيطرة على سلاسل المعادن النادرة، وتطوير صناعة الرقائق المحلية، وتعزيز شبكة الممرات البحرية التي تربط بين آسيا وإفريقيا وأوروبا عبر مبادرة الحزام والطريق. إذا استطاعت الصين خلال العقد المقبل زيادة قدرتها على إنتاج الرقائق المتقدمة وتوسيع نفوذها في الممرات البحرية، فإنها ستكون في موقع يسمح لها بفرض معايير التكنولوجيا العالمية، بحيث يصبح العالم مضطرًا لاستخدام منصاتها الرقمية ومنتجاتها الصناعية دون أن تخوض بكين حربًا واحدة. هذا السيناريو يتوقع تفوقًا تكنولوجيًا صينيًا بحلول 20352040، قد لا يكون ساحقًا لكنه كافٍ لخلق تحول في ميزان القوة.

_ السيناريو الثالث (التعددية القطبية التكنولوجية): فيفترض عالمًا يتراجع فيه نفوذ القطبين الأمريكي والصيني لصالح ظهور قوى جديدة قادرة على لعب أدوار متزايدة في النظام الدولي. الهند، بقوة سكانها وتعاظم صناعتها التقنية، قد تصبح منافسًا جادًا في مجال الرقائق والخدمات الرقمية. الاتحاد الأوروبي، بطاقته التنظيمية والتشريعية، قد يفرض قواعد جديدة تحكم البيانات والذكاء الاصطناعي. ودول الخليج، بما تمتلكه من موارد مالية وقدرة على الاستثمار في المعادن والطاقة المتجددة والذكاء الاصطناعي، قد تصبح محورًا رئيسيًا في إعادة تشكيل خريطة القوة التكنولوجية. هذا السيناريو يقدم توازنًا قد يخفف من حدة الصراع الأمريكي–الصيني لكنه لا ينهيه، بل يعيد صياغته ضمن شبكة أوسع من الفاعلين.

نختم بأن الصراع الأمريكي–الصيني، في جوهره، ليس سؤالًا حول من يحكم العالم، بل حول من يكتب قواعد الحياة الحديثة: من يضع المعايير؟ من يملك سلسلة الإمداد؟ من يتحكم في البيانات؟ ومن يحدد شكل التكنولوجيا التي ستستخدمها البشرية في العقود المقبلة؟ ومع ذلك، فإن هذا الصراع -رغم حدته- محكوم بمنطق يجعل الانتصار الكامل مستحيلًا، والهزيمة المتبادلة سهلة جدًا. أي محاولة لتعطيل أحد الأضلاع الأساسية للنظام الاقتصادي العالمي قد تؤدي إلى انهيار شامل يتجاوز قدرة القوى الكبرى على السيطرة عليه.

إن إدراك العالم لهذه الحقيقة سيدفعه — عاجلًا أو آجلًا — إلى البحث عن قواعد جديدة تنظم المجال البحري، وتؤمن تداول المعادن، وتحمي الفضاء الرقمي من الانهيار. نحن أمام عصر يحتاج إلى “ردع رقمي” يوازي الردع النووي، وإلى آليات مشتركة لإدارة الممرات البحرية، وتنسيق إنتاج وتجارة المعادن، وإلى ميثاق دولي جديد للفضاء السيبراني يمنع استخدام البيانات كسلاح مدمر.

المشكلة أن تحقيق هذه الآليات ليس سهلًا؛ فهو يتطلب ثقة مفقودة، وتنسيقًا معقدًا، ونظامًا دوليًا قادرًا على إدارة طموحات القوى الكبرى دون أن تنزلق إلى مواجهات مدمرة. لكن البديل -ترك الصراع دون ضوابط- قد يقود إلى صدمة جيوسياسية تهدد الأساس الذي تقوم عليه الحضارة التكنولوجية ذاتها. وفي النهاية، يبدو العالم وكأنه يتحرك بين صراع لا غالب فيه، وتوازن لا يمكن أن يتحقق دون إدارة عقلانية لمثلث الممرات البحرية والمعادن والبنية الرقمية الذي لم يعد مجرد قضية استراتيجية، بل أصبح أحد الشروط الأساسية لبقاء النظام الدولي واستمرار الحضارة الحديثة نفسها.

 

 

المصدر:  مجلة السياسة الدولية

الكاتب : أحمد ناجي قمحة

التاريخ : 14/12/2025

-------------------------------------------------------------------------------------------

المصدر: شفق نيوز

التاريخ : 13/12/2025

المقالات الأخيرة