رؤية عربية لمراكز الفكر في القرن الحادي والعشرين
فرع القاهرة


أصبحت مراكز الأبحاث والفكر العربية أمام متطلبات ومضمونجديد فرضته الثورة العلمية والتقنية، وطبيعة المتغيرات الدوليةوالإقليمية المتسارعة، والتي تفرض حالة اللايقين على مستوىالأفكار والقيم وهندسة النظام الدولي والإقليمي، وما تعكسهمسارات التحول المجتمعية وبالتالى يبقى التساؤل عن دور مراكزالفكر العربية، تساؤل تفرضه جملة التحولات المتسارعة وتقاطعاتهاالفكرية والقيمية وتأثيراتها على منظور الفكر الاستراتيجي وتحقيقالأمن القومي والمحافظة على الهوية والخصوصية، بدون أن يعنىذلك الانعزال أو الانكماش أو محاولات التحصين السلبية أو الإغراقفي مسارات المستقبل بدون بوصلة وطنية.

فنحن أمام مرحلة جديدة من الدورة الحضارية الغربية تتراجع فيهاالقيم الإنسانية، أو سنكون أمام  دورة حضارية تشهد صعودالمنظور الصيني/ الآسيوي إلى جانب المنظور الغربي، وهو مايفرض واقعاً عولمياً جديداً بتداعيات كبرى على مجتمعاتنا العربيةالتقليدية، ويلقى بظلالٍ كثيفة على مراكز الفكر العربية ودورهاالمستقبلي في ظل تنامي الاعتماد على الذكاء الاصطناعي.


دور مراكز الفكر في إنتاج المعرفة 

فحركة الأفكار التي تجاوزت الجغرافيا في زمن العولمة تفرض واقعاًجديداً، أكثر شراسة وخطورة على بنية الإنسان ومرجعيته وسبلالنهوض به، وهو ما يتطلب تحويل التحديات لفرص، لاسيما فيمنطقتنا العربية والبحث عن البدائل الأكثر قدرة على الحد منالمخاطر وتعظيم الفرص بما يتوافق مع حيوية المجتمعات وحركتهاوحسابات المصالح الاستراتيجية والأمن القومي.

وفي ظل ما تطرحه هذه القضية من إشكاليات كبرى تتعلقبمسارات التحولات الاجتماعية والثقافية في منطقتنا العربية،لاسيما تلك المتعلقة بالهوية والوعي والتطرف والإرهاب وغلبة الثقافةالتقليدية والصراعات العرقية والطائفية والضغوط الاقتصاديةوالتنموية، فإن هناك مسئولية كبرى تقع على عاتق مراكز الفكرالعربية من خلال دورها وأجندتها البحثية بإعطاء الاهتمام الكافيلدراسة العلاقة الارتباطية بين مخرجات الثورة التكنولوجية الرابعة(والخامسة المتوقعة) وتأثير ذلك على حركة المجتمعات، وخاصة معتنامى الرؤية الجيلية الرقمية في ظل ما أصبح متوافراً من قدراتكبيرة في جمع وتحليل المعلومات والقدرة على توظيف المعلوماتوقراءتها لذا، يبدو من الضرورى أن تكتسب مراكز الفكر مساحاتأكبر في علاقاتها بالدولة ومؤسساتها، والاستناد على المزيد منالدراسات الميدانية واستطلاعات الرأي للوقوف على عمق وتجذرالتحولات المجتمعية جنباً إلى جنب مع رصد وقراءة التحولاتالجيواستراتيجية. وهنا يمكن التأكيد على عددٍ من النقاط المرتبطةبطبيعة ودور مراكز الفكر العربية من خلال تفاعلها مع عملية صنعالقرار والسياسات، والتشارك المعرفي مع الهيئات البحثية والعلميةالمحلية والعربية، ورفع الوعي المجتمعي فدور مراكز الفكر فيتوظيف الذكاء الاصطناعي لتعزيز صنع القرار المستنير


توظيف الذكاء الاصطناعي لتعزيز صنع القرار

ترتبط مراكز الفكر وعلاقاتها بعملية صنع القرار أو السياسات فيالواقع العربي، وهي علاقة ما تزال قاصرة في غالبية البلدانالعربية وغير مكتملة بالنسبة للكثير من مراكز الأبحاث التي لا ترقىللقيام بدور مراكز الفكر؛ فغالبية المراكز لا تتوافر لديها البنيةالفكرية والبحثية التي تمكنها من القيام ببعض أدوارها الخاصةمثل: طرح تغذية الفكر الاستراتيجي، وبلورة الرؤى الاستراتيجيةللأفكار، وصياغة الأبحاث التي تساهم في صياغة السياساتالعامة، ورصد حركة المجتمعات من ناحية، أو يتوافر لها البياناتوالمعلومات والمعرفة الدقيقة القادرة على صياغة الرؤية والتوجهاتالاستراتيجية والسيناريوهات المختلفة لمواجهة أية قضية من ناحيةأخرى، وهي مسألة تحتاج لتصنيف المراكز البحثية، على شاكلةتصنيف جامعة بنسلفانيا (قبل توقفه).

فيتعلق مفهوم القرار المستنير أو الرشيد، ومعيارية الرشادةومرجعيتها في ظل الذكاء الاصطناعي الذي يعتمد على خوارزمياتوعمليات تغذية ومرجعيات قيمية وأخلاقية ليست محل إجماع،وطرحها كبديل عن الفكر الإنساني الذي يمكن أن يحكمه ميولوأهواء وعواطف كمحددات لاتخاذ القرار والحقيقة، أن المنظور ثلاثيالأبعاد الذي يطرحه عنوان المؤتمر يثير عدداً من التساؤلاتالإضافية المتعلقة بالسياق العربي، وموقع البنية التكنولوجية المتاحةومنظورنا كمستهلكين لهذه التكنولوجية، فضلاً عن التساؤلات التيشغلت فكر وعقل الجماعة العلمية والبحثية والأكاديمية عبر عقودعديدة عن موقع العلم والبحث العلمي، وموقع مراكز الفكر والأبحاثمن بنية عملية صنع السياسات واتخاذ القرار.

كما تستند إلى تأثير الثورة التكنولوجية الرابعة والخامسة المتوقعة،التي تذهب إلى أبعاد كثيرة تمس المرتكزات الخاصة بعلاقة الإنسانبذاته ورؤيته للمجتمع والدولة، وهو تغيير سوف يفرض نفسه علىالمجتمعات العربية التي يغلب عليها الثقافة التقليدية رغم مظاهرالحداثة والتحديث، لاسيما تجاه قضايا الهوية والوعي بالذات،والمنظور الجيلى لها، ومن ثم العلاقات والتفاعلات الاجتماعية التيمن شأنها أن تعيد هندسة المجتمعات ودرجة تماسكها، وامتدادهاإلى ماهية المؤسسات والبناء الهيكلى للمجتمع والدولة، الأمر الذىيتطلب بدوره رؤية مستقبلية تلعب فيها مراكز الأبحاث والفكر دوراًرئيسياً في رصد التحولات ومساراتها للوقوف على عمق تداعياتهاعلى الواقع العربي مع التحول إلى مجتمعات رقمية بثقافة تقليديةمحافظة. 


علاقة مراكز الفكر العربية بالمتغيرات الدولية

ترتبط حدود إمكانية تطوير دور مراكز الفكر والأبحاث كقاعدة فكريةداعمة في صناعة القرار والسياسات، فما تزال أعداد هذه المراكزقليلة وتأثيراتها تتباين بين المراكز داخل الدولة الواحدة وبين الدولالعربية، فضلاً عن تراجع دورها في تشكيل الفكر والعقل العربيوعلاقته بالمتغيرات الدولية والإقليمية كما كان متوافراً خلال عقودسابقة (فترتي الثمانينات والتسعينيات من القرن الماضي) والجديربالذكر أن التساؤل حول إشكاليات العقل العربي ومستقبل الدولةالعربية شغل الجماعة العلمية والأكاديمية طويلاً، الأمر الذي يكتسبأهمية متزايدة في هذه المرحلة وتقتضي إعادة طرحه للمشاركة فيصياغة المستقبل.

بل يمكن القول إنه يمثل أحد مفاتيح الانتقال إلى مرحلة جديدة فيصناعة التفكير الاستراتيجي العربي. فالعالم مع انتهاء 2025 بهنحو 5.56 مليارات إنسان متصلين بالإنترنت بنسبة نفاذ تقارب67.9%، ومع أكثر من 5.24 مليارات هوية مستخدم نشِطة علىمنصات التواصل؛ ما يعني أن هناك تزايداً لدور المنصاتوالخوارزميات في تشكيل الوعي والإدراك لاسيما لدى الأجيالالقادمة فمن هنا، فإن دور مراكز الفكر العربية ينبغي أن يراعي هذاالواقع، وأن يسعى لتكييف أدوات البحث والتحليل مع البنية الثقافيةوالاجتماعية العربية، دون أن يفقد الحس بالمعايير العلمية العالمية. وتتطلب هذه الملاءمة فهماً لتفاوتات الاستخدام في المنطقة.

كذلك ترتبط بالواقع والتفكير العربي بشكل عام والمجتمع العلميالعربي بشكل خاص، فهو يعاني من ركود وضعف التفاعل المشترك،سواء على مستوى المدارس الفكرية أو النماذج المعرفية، أو فيترتيب الأولويات، أو حتى في إدراك طبيعة التحديات المشتركة ومنثم، فإن بناء الوعي والإدراك المشترك، وتحديد أولويات واضحةللبحث العلمي في مجالات الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي،يمكن أن يمثلا خطوة أساسية نحو بناء نواه نشطة للتفاعلوالحيوية، وخاصة مع زيادة المحتوى العربي على شبكات التواصلوالخوارزميات.

 

 

التحولات التكنولوجية لمراكز الفكر مستقبلاً

إن بناء الفكر الاستراتيجي وتعزيز العمل البحثي في ظل الذكاءالاصطناعي يحتاج إلى وعي جديد بخصوصيته. فالذكاءالاصطناعي يمكن أن يكون باحثاً مساعداً ممتازاً، قادراً على جمعالمعلومات وتقديم المراجع، لكنه ليس بديلاً عن الباحث المفكر الذييتحقق ويدقق وينتج المعرفة أو المحتوى مع قدر من الإبداع الذاتى. كما أن حجم المحتوى التراثي والتاريخي العربي الذي يمكن للذكاءالاصطناعي التعامل معه لا يزال محدوداً مقارنة بغنى تراثناوتاريخنا، مما يجعلنا في حاجة ماسة إلى تطوير قواعد بياناتمعرفية عربية أصيلة تُغذي هذه التقنيات وتضبط بوصلتها. وفي هذاالإطار، تُسهم مبادرات إقليمية في تعزيز المحتوى العربي الرقمي،ويُظهر مؤشر نضج الخدمات الحكومية الإلكترونية والمحمولة(GEMS 2024) تقدّم دول عربية بما يهيئ منصّات عامة قابلةلتوطين خدمات الذكاء الاصطناعي وتغذية المحتوى العربي النوعي.

من هنا، فإن مراكز الأبحاث العربية مطالبة بأن تعيد تشكيل نفسهابصورة تختلف عن النماذج التقليدية بالقدر الذي يساعدها على أنتصبح أكثر قدرة على التعامل مع تدفقات المعلومات الضخمة دونالوقوع في أسرها، وأكثر حرصاً على تنمية الإبداع والتفكيرالنقدي.

عملياً، نحتاج الجمع بين عمق التخصص والتكامل بين التخصصاتلمعالجة القضايا المتشابكة وتعقيداتها، وتبني شراكاتٍ مع مناطقسحابيةٍ محلية لضمان الإتاحة والسيادة، مع اعتماد أطر أخلاقيةدولية كمرجعية.

انطلاقاً من هذه الرؤية، يمكن التأكيد على أن مستقبل مراكز الفكرالعربية في عصر الذكاء الاصطناعي لن يُقاس بقدرتها على امتلاكالتكنولوجيا فحسب، بل بقدرتها على تطويعها لخدمة الإنسانالعربي، وحماية خصوصيته، والحفاظ على استقلال وعيه. فنحنأمام تحدٍ، تتقاطع فيه الفلسفة مع التكنولوجيا، والعلم مع الثقافة،والسياسة مع الأخلاق.

وأن يكون الذكاء الاصطناعي أداة لتعزيز القرار المستنير، لا بديلاًعن العقل الإنساني الحر، وأن تكون تنمية الإدراك المتبادل، متوافقةمع استكشاف مساحات التعاون والتنسيق تجاه العديد من القضاياالاستراتيجية التي تشغل المواطن العربي، وأن تشكل عملية تغذيةالعقل العربى عبر العديد من الروافد المرتبطة بما فرضه القرنالحادي والعشرين منطلقاً نحو آفاقٍ مستقبلية تمس الإنسانوالإنسانية وتمس فلسفة الحياة، والعلاقة بين المواطن والمجتمعوالدولة، وأن يكون الهدف مرتبطاً بصياغة أجندة فكرية وعلميةوبحثية عربية تُعنى بالرؤى المستقبلية.

 

المصدر: مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

الكاتب : د. أيمن السيد عبد الوهاب

التاريخ : 11/12/2025

--------------------------------------------------------------------------------------

المصدر: مركز العرب للأبحاث والدراسات

التاريخ : 2/12/2025

المقالات الأخيرة