تشهد الدورة النقدية العالمية في نهاية عام 2025 لحظة حساسة تتقاطع فيها اتجاهات متباينة على نحو غير مسبوق منذ الأزمة المالية العالمية. فمن جهة، يتحرك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي باتجاه زيادة السيولة المتاحة في سوق السندات الحكومية القصيرة الأجل، بهدف ضبط استقرار أسعار الفائدة في سوق النقد والحفاظ على كفاءة انتقال السياسة النقدية. ومن جهة أخرى، يبدأ بنك اليابان أحد أكثر البنوك المركزية تأثيرًا تاريخيًا في بيئة الفائدة المنخفضة مرحلة تصحيح تدريجي في سياسته النقدية، مع إشارات متزايدة إلى رفع محتمل لمعدلات الفائدة بعد عقود من التيسير الممتد.
هذه التوليفة، التي تجمع بين سيولة دولارية قصيرة الأجل وتشديد نقدي ياباني متدرج، تعيد طرح سؤال محوري: هل يمثل هذا التفاعل بداية موجات تضخمية جديدة، أم أننا بصدد دخول مرحلة من التضخم المتقلب وغير المنضبط؟ والأهم، كيف تنعكس هذه البيئة النقدية الهشة على أسواق المعادن، بوصفها مرآة حساسة لتحولات السياسة النقدية وتوقعات المستثمرين؟
الإجراء الأمريكي في إدارة السيولة
في ديسمبر 2025، قرر مكتب السوق المفتوح التابع للاحتياطي الفيدرالي في نيويورك تنفيذ عمليات شراء واسعة لأذون الخزانة الأمريكية قصيرة الأجل (T-bills) بقيمة تقارب 54 مليار دولار على مدى شهر جاء هذا الإجراء في سياق الحاجة إلى تعديل مستويات الاحتياط المصرفية وضمان استقرار سوق النقود، في ظل ضغوط ناتجة عن تخفيض أسعار الفائدة البنكية، رغم استمرار إشارات ضعف في بعض المؤشرات الاقتصادية.
من الناحية التقنية، لا تندرج هذه العمليات ضمن إطار التيسير الكمي التقليدي (QE)؛ إذ تتركز على الجزء القصير جدًا من منحنى العائد، ولا تستهدف خفض العوائد طويلة الأجل أو تحفيز الطلب الائتماني بشكل مباشر. الهدف المعلن يتمثل في ضمان وجود احتياطيات كافية داخل النظام المصرفي لاحتواء تقلبات سوق التمويل قصير الأجل والحفاظ على سعر الفائدة الفيدرالي ضمن النطاق المستهدف.
غير أن الطابع التقني لهذا الإجراء لا يجعله محايدًا بالكامل من حيث الأثر الكلي؛ إذ يؤدي عمليًا إلى تهدئة العوائد القصيرة الأجل؛ مما يفتح المجال أمام آثار غير مباشرة على توقعات التضخم وسلوك المستثمرين، خاصة في بيئة تتسم بحساسية مرتفعة لتدفقات السيولة.
يثير هذا التحرك الأمريكي نقاشًا أوسع حول العلاقة بين إدارة الدين العام، واستقرار الأسواق المالية، وحدود السياسة النقدية في الاقتصاد الأمريكيفلماذا تتجه قرارات الإدارة الأمريكية إلى مزيد من التضخم؟
إذًا إن من المتفق عليه اقتصاديًا أن التضخم ينخفض إذا ظل ضمن نطاق يمكن التحكم في العبء الحقيقي للديون السيادية، بشكل يمنح المالية العامة والإدارة النقدية في أي اقتصاد مساحة زمنية أوسع لإدارة الاستحقاقاتتطبيقًا على الوضع الأميريكي، نجد أن الاحتياطي الفيدرالي يظل مقيدًا بتفويضه الأساسي المتمثل في الاستقرار الاقتصادي وخصوصًا أسعار عوائد السندات الخزانة “قصيرة الأجل”، وذلك يحد من قدرته على توظيف التضخم كأداة مقصودة في ظل تصارع وتضارب البيانات الاقتصادية الصادرة من خلالهم التي تشير بعضها سلبيًا للاقتصاد؛ حيث المزيد من التضخم والبعض الآخر إيجابي للاقتصاد الأمريكي.
في هذا السياق، لا يمكن تفسير التحركات الحالية باعتبارها سعيًا مباشرًا إلى توليد أو تخفيض التضخم، بقدر ما هي انعكاس ومحاولة لتوازن دقيق بين أهداف متعارضة: الحفاظ على استقرار سوق التمويل في الأجل القصير، ومنع تشدد غير مرغوب فيه في الأوضاع المالية من قبل الإدارة الأمريكية، دون فقدان السيطرة على توقعات التضخم وهذا تضارب ونتاقض واضح.
تتحول السيولة النقدية إلى ضغوط تضخمية عندما تتجاوز وتيرة توسع الطلب قدرة الاقتصاد الحقيقي على الاستجابة عبر زيادة الإنتاج والخدمات. في هذه الحالة، تتشكل فجوة بين العرض والطلب، تمثل البيئة المثالية لظهور موجات تضخمية جديدة.
وتتسارع هذه الآلية في ظل مجموعة من العوامل القائمة، من أبرزها حساسية الطلب الأمريكي لانخفاض أسعار الفائدة، وتشبع أسواق العمل بما يقلل مرونة العرض، إضافة إلى انتقال جزء من السيولة نحو السلع والمواد الأولية، وتزايد الإقبال على الأصول التحوطية والصناعية في بيئة عدم اليقين.
دور بنك اليابان وأهميته في هذا الإطار
في الوقت الذي تضخ فيه الولايات المتحدة سيولة قصيرة الأجل، يتحرك بنك اليابان في الاتجاه المعاكس. فبعد أكثر من عقدين من السياسات النقدية فائقة التيسير، تشير التقارير والمؤشرات السوقية إلى استعداد البنك لمواصلة مسار تصحيحي تدريجي، قد يتضمن رفعًا إضافيًا للفائدة بنحو 25 نقطة أساس.
يعد بنك اليابان حالة فريدة: فبعد عقدين من سياسة الفائدة المنخفضة والسلبية، يتحرك تدريجيًا نحو تصحيح المسار. هذا التحول يحمل أهمية خاصة، نظرًا لدور اليابان المحوري في النظام المالي العالمي. فارتفاع الفائدة اليابانية يعيد تشكيل سعر الين مقابل الدولار، ويؤثر في عوائد السندات طويلة الأجل عالميًا، كما يحد من جاذبية استراتيجيات الكاري تريد التي اعتمدت تاريخيًا على الاقتراض بالين منخفض التكلفة للاستثمار في أصول ذات عوائد أعلى مثال (الاقتراض بالين للاستثمار بالدولار).
تشير نظرية كينز إلى أن التوسع النقدي يمكن أن يحفز النمو الاقتصادي ويقلل من البطالة، لكنه قد يؤدي إلى تضخم إذا لم يواكب بزيادة في الإنتاج. كما توضح نظرية كمية النقود أن زيادة المعروض النقدي دون مقابل حقيقي في الاقتصاد يؤدي إلى ارتفاع الأسعار فينشأ الخطر التضخمي الأكبر ليس من سياسة واحدة في حد ذاتها، بل من تزامن اتجاهات نقدية متعاكسة. فزيادة السيولة الدولارية قصيرة الأجل، بالتوازي مع تشديد نقدي ياباني تدريجي، ترفع من تقلبات أسعار الصرف، وتعيد تسعير تكاليف الاقتراض عالميًا، خصوصًا في الأسواق الناشئة.
هذا التفاعل يزيد من احتمالات انتقال الضغوط السعرية عبر التجارة الدولية، ويؤثر على تسعير السلع الأساسية المقومة بالدولار، في بيئة تتسم بارتفاع حساسية الأسواق للتغيرات في العوائد الحقيقية.
وعليه، إذا ضخت الأسواق الأمريكية سيولة قصيرة الأجل بينما اليابان تضيق في السياسة النقدية باتخاذ سياسة تشديدة “رفع الفوائد البنكية”، فهذا يزيد تقلبات الصرف ويرفع تكاليف الاقتراض بالنسبة لبعض العملات وخصوصًا الأسواق الناشئة، وضغوط سعرية على السلع، وارتفاع احتمالات انتقال العدوى السعرية عبر التجارة الدولية.
سيناريوهات موجات تضخمية محتملة
السيناريو الأول: ارتفاع تضخمي محدود ومؤقت (احتمال متوسط) : تدار عمليات الفيدرالي بوصفها أداة فنية لملء الاحتياطيات دون توسع ائتماني واسع، بينما يواصل بنك اليابان رفع الفائدة تدريجيًا. في هذا السيناريو، تكون الصدمات السعرية محدودة ومؤقتة، وتستفيد المعادن من الطلب التحوطي بشكل مرحلي.
السيناريو الثاني: موجة تضخمية واسعة مدفوعة بالطلب (احتمال أقل لكنه جوهري): تتحول السيولة إلى توسع ائتماني فعلي، وترتفع أسعار الطاقة والسلع الأساسية بفعل قيود العرض؛ مما يؤدي إلى تضخم ممتد يجبر البنوك المركزية على إعادة التشديد. في هذا السياق، تشهد المعادن الثمينة، وعلى رأسها الذهب والفضة، ارتفاعات قوية.
السيناريو الثالث: تضخم متقلب بآثار مختلطة على الأصول (احتمال قابل للتحقق): تبقى العوائد القصيرة الأجل منخفضة، بينما تتجه التوقعات نحو تشديد لاحق. في هذا السيناريو، تظل أسعار المعادن مدفوعة بمزيج من التحوط والطلب الصناعي، دون اتجاه سعري حاد ومستدام.
العلاقة بين السياسات النقدية وأسعار المعادن الثمينة
تشير الأدبيات الاقتصادية إلى أن المعادن الثمينة تستجيب بشكل أساسي لتحركات العوائد الحقيقية، وتوقعات التضخم، وقيمة الدولار. ففي فترات التوسع النقدي أو انخفاض أسعار الفائدة، تميل هذه المعادن إلى الارتفاع بوصفها أدوات تحوط ضد تآكل القوة الشرائية.
الذهب: يُظهر الذهب تاريخيًا حساسية مرتفعة لانخفاض العوائد الحقيقية وتراجع الدولار. ومع استمرار حالة عدم اليقين بشأن مسار التضخم، إلى جانب ارتفاع مشتريات البنوك المركزية، يظل الذهب مرشحًا للاحتفاظ بدوره كتحوط استراتيجي في البيئة الحالية.
الفضة : حساسية مزدوجة: تجمع الفضة بين خصائص الملاذ التحوطي والسلعة الصناعية؛ مما يجعلها أكثر تقلبًا من الذهب. ففي حال تحولت الضغوط التضخمية إلى موجة ممتدة، قد تحقق الفضة أداءً متفوقًا، لكنها تظل عرضة لتراجع الطلب الصناعي في حال تباطؤ النمو.
المعادن البيضاء (البلاتين والبلاديوم): تتأثر هذه المعادن بعوامل صناعية وتقنية، خاصة في قطاع السيارات. أي موجة تضخمية واسعة قد تعزز الطلب الاستثماري عليها، إلا أن مسارها السعري يظل مرتبطًا بدورة التصنيع العالمية.
خاتمة: لا تشير التطورات الحالية إلى موجة تضخمية حتمية واسعة النطاق، بقدر ما تعكس دخول الاقتصاد العالمي مرحلة من التضخم المتقلب والأقل قابلية للانضباط. وفي هذا السياق، تستعيد المعادن دورها كأدوات تحوط استراتيجية، لا استجابة ظرفية، في نظام نقدي عالمي يتسم بارتفاع عدم اليقين وتزايد هشاشة التوازنات.
المصدر: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية
الكاتب : شادي هلال
التاريخ : 24/12/2025
-------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
المصدر: النهار العربي
الكاتب : أسيل العرنكي
التاريخ : 26/12/2025
