في ظل التحولات العالمية المتسارعة، تؤدي البيانات والإحصاءات دوراً محورياً في فهم وإدارة الصراعات، سواء على مستوى التنبؤ بها وإدارتها، أم التعامل مع تداعياتها،وفي خضم النزاعات والصراعات، تؤدي البيانات دوراً حاسماً في فهم ديناميكيات الصراعات وإدارتها، بدءاً من التنبؤ بها قبل حدوثها، مروراً بإدارتها أثناء وقوعها، وصولاً إلى مرحلة إعادة الإعمار والاستقرار؛ إذ تتيح البيانات، عند استخدامها بطرق فعالة، تحليل السياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تؤدي إلى النزاعات، كما تساعد الحكومات والمنظمات الدولية على اتخاذ قرارات قائمة على الأدلة لمعالجة الأزمات.
تتداخل البيانات مع الصراعات في ثلاث مراحل رئيسية: التنبؤ بالصراع، وإدارة الصراع، وما بعد الصراع (إعادة الإعمار والاستقرار).
1. التنبؤ بالنزاعات: البيانات كأداة استباقية: تؤدي البيانات دوراً أساسياً في التنبؤ بالنزاعات قبل وقوعها من خلال تحليل المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. على سبيل المثال:
• معدلات البطالة والفقر المرتفعة قد تكون مؤشراً على اضطرابات اجتماعية.
• تراجع مؤشرات الثقة في المؤسسات الحكومية قد يؤدي إلى تصاعد التوترات السياسية.
• رصد خطاب الكراهية عبر وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن يساعد على تحديد بؤر التوتر المحتملة.
في هذا السياق، تعتمد بعض المنظمات الدولية على النماذج التنبؤية القائمة على البيانات الضخمة لتحليل هذه المؤشرات، واكتشاف الأنماط التي تشير إلى تصاعد الصراع.
2. إدارة الصراع: البيانات في خدمة صنع القرار: خلال النزاعات، توفر البيانات معلومات حيوية لصناع القرار حول حجم الأزمة، والاحتياجات الإنسانية، وانتشار العنف. وتسهم في:
• إدارة المساعدات الإنسانية: عبر استخدام البيانات لتحديد المناطق الأكثر احتياجاً.
• دعم عمليات الوساطة والمفاوضات: عبر تقديم تحليل دقيق للواقع على الأرض، مما يساعد على بناء حلول تفاوضية أكثر واقعية.
• مراقبة الأوضاع الأمنية والاقتصادية: من خلال تحليل البيانات الميدانية وتحديث السياسات بناءً عليها.
3. مرحلة ما بعد الصراع: إعادة الإعمار والاستقرار: بعد انتهاء النزاع، تصبح البيانات عنصراً أساسياً في إعادة الإعمار وبناء الاستقرار من خلال:
• إعادة تقييم الخسائر البشرية والمادية لوضع خطط تنموية تتناسب مع الواقع الجديد.
• توجيه الاستثمارات إلى القطاعات الأكثر تضرراً باستخدام البيانات الاقتصادية والاجتماعية.
• مراقبة عمليات العدالة الانتقالية والمصالحة عبر تتبع تطورات الأوضاع السياسية والاجتماعية بعد الصراع.
الفجوات المعلوماتية:
تختلف البيانات المطلوبة لإدارة التعافي من الصراعات المسلحة من دولة لأخرى، كما تختلف حسب السياق، وفي معظم الحالات تشكل البيانات التالية حجر الزاوية في منظومة بيانات إدارة التعافي:
1. بيانات حول السكان وتشمل:
• أعداد السكان وتوزيعهم حسب محل الإقامة والعمر والنوع والحالة التعليمية والحالة الزواجية والحالة العملية والإصابة بالأمراض المزمنة والإعاقات.
• الهجرة الداخلية للسكان خلال فترة الصراع المسلح وتتضمن بيانات حول النزوح السكاني بين مناطق تقع داخل حدود الدولة.
• الهجرة الخارجية للسكان وتتضمن بيانات حول النزوح إلى خارج حدود الدولة، كما تتضمن السكان الوافدين من غير مواطني الدولة الذين وفدوا إليها خلال فترة الصراع المسلح.
2. بيانات ذات طبيعة سياسية وأمنية، وتشمل:
• البيانات المتصلة بمجريات العملية السياسية، ولاسيما أعداد السكان الذين لهم حق الانتخاب وأعداد السكان الأجانب.
• البيانات المتصلة بالحفاظ على الأمن العام بما في ذلك الحالة الأمنية للمناطق الجغرافية والموارد البشرية والمعدات والمرافق وأنظمة الاتصال اللازمة لتحقيق السلم والأمن.
• بيانات (خرائط) حول المناطق الخطرة (تحتوي على ألغام)، والمناطق الجغرافية التي تشهد حوادث عنف و/أو توترات، والتلوث البيئي (المياه - التربة).
• بيانات متصلة بالعدالة الانتقالية.
3. بيانات ذات طبيعة اجتماعية، وتشمل:
• بيانات حول المرافق الصحية ومدى توافر الأدوية والمستلزمات الطبية.
• بيانات حول الخدمات التعليمية (المدارس والجامعات والموارد التعليمية).
• بيانات حول الموارد البشرية المتاحة، ولاسيما العاملين في القطاع الصحي والأمني والإغاثي والتعليمي وفي قطاعات إدارة الدولة حسب التخصصات.
• بيانات ذات صلة بالاحتياجات الإنسانية المطلوبة، ولاسيما الغذاء، والرعاية النفسية للمتضررين، والمأوى والحماية من المخاطر.
4. بيانات تتصل ببنية الاقتصاد، وتشمل:
• المنشآت الاقتصادية ومدى جاهزيتها لمعاودة الإنتاج.
• الأسواق.
• البنوك وألات الصرف الآلي.
• الأسعار والتوزيع.
• المخزون الاستراتيجي من السلع الغذائية الأساسية.
• سلاسل الإمداد للسلع الضرورية (الغذاء، الدواء، المستلزمات الإغاثية، مواد البناء).
5. بيانات حول البنى التحتية، وتشمل:
• بيانات الطرق والجسور ومصادر الكهرباء ومصادر المياه النقية والصرف الصحي والاتصالات الهاتفية والإنترنت والموانئ والمطارات والمواصلات داخل التجمعات السكانية وفيما بينها.
التحديات واستراتيجيات المواجهة:
تُعد أجهزة الإحصاء الوطنية المصدر الأساسي لهذه البيانات، حيث توفر معلومات دقيقة حول السكان، والاقتصاد، والبنية التحتية. ومع ذلك، تواجه هذه الأجهزة تحديات جمّة أثناء وبعد النزاعات؛ مما يؤثر في قدرتها على جمع وتحليل البيانات الضرورية لصنع القرار.
• ضعف القدرة على جمع البيانات: في مناطق النزاع، يكون من الصعب إجراء التعدادات السكانية أو الدراسات الميدانية؛ بسبب انعدام الأمن أو غياب البنية التحتية.
• التحيز السياسي في البيانات: في بعض النزاعات، قد تتعرض البيانات للتلاعب من قبل أطراف النزاع لأغراض سياسية؛ مما يؤثر في مصداقيتها.
• القيود التقنية والبشرية: غالباً ما تتأثر مؤسسات الإحصاء بفقدان الكوادر المتخصصة، وانقطاع التمويل، وصعوبة الوصول إلى البيانات في المناطق المتضررة.
لمواجهة هذه العقبات، تلجأ بعض الحكومات والمنظمات الدولية إلى بدائل، مثل:
• استخدام الاستشعار عن بعد والذكاء الاصطناعي لرصد النزاعات وتقدير أعداد المتضررين.
• الاعتماد على البيانات المفتوحة ومصادر البيانات غير التقليدية مثل وسائل التواصل الاجتماعي لرصد الأوضاع بشكل مستمر.
• التعاون مع المنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص لدعم قدرات أجهزة الإحصاء الوطنية في أوقات الأزمات.
إعادة بناء النظام الإحصائي:
يتألف نظام الإحصاء الوطني من عدة عناصر تتفاعل فيما بينها للارتقاء بالعمل الإحصائي ليقدم القرائن والأسانيد، التي يمكن الاعتماد عليها في اتخاذ قرارات وصنع سياسات تخدم مصالح المجتمع، وحتى يحقق النظام الإحصائي هذه الغاية يجب أن يكون تشاركياً في تحديد الأولويات وفي درء تضارب المصالح، وأن يكون احتوائياً لكل أصحاب المصلحة من منتجي البيانات ومستخدميها. ويشغل المكتب الوطني للإحصاء موقعاً مهماً في هذا النظام، ويجب أن يمارس دوره بشكل تشاركي مع باقي أصحاب المصلحة.
ومن المفضل أن تضم قائمة منتجي البيانات كل الذين يسهمون في إنتاج البيانات، سواء لاستخدامها في أغراض إحصائية، أم لاستخدامها في أغراض أخرى كقواعد البيانات الإدارية التي صممت لأغراض إدارية، أو مالية، أو أمنية، أو قواعد البيانات الضخمة التي صممت لأغراض تجارية أو تشغيلية. ويكتسب هذا المدخل الاحتوائي أهمية خاصة في فترات التعافي من النزاعات المسلحة، حيث يفسح المجال للتغلب على شح البيانات الرسمية، كما أن التوسع في إشراك منتجي البيانات يؤدي دوراً مهماً في تعزيز الثقة في عملية التعافي بصفة عامة وفي مخرجات البيانات بصفة خاصة.
المراجع:
ب، ن ,27.3.2025، كيف تسهم الإحصاءات في إدارة الصراعات؟،مركز المستقبل.
اسماعيل عبد الفتاح عبدالكافي ،26.1.2025، كيف تسهم الاحصاءات في إدارة الصراعات، مجلة سياسية.