شهدت ريادة الأعمال في العصر الحديث تحولاً جوهرياً نتيجةً للثورة الرقمية، التي أدت دوراً محورياً في تعزيز الشمولية والابتكار في مجالات العمل المختلفة، فقد أسهمت التطورات التكنولوجية السريعة في ظهور منصات رقمية مثل: Shopify، التي غيرت بشكلٍ جذري قواعد العمل الحر؛ مما مكن الأفراد من دخول سوق الأعمال بسهولة أكبر من أي وقت مضى. ولم تقتصر هذه المنصات على كونها مجرد أدوات تقنية؛ بل أصبحت محركات إستراتيجية تسهم في كسر الحواجز التقليدية التي كانت تواجه فئات اجتماعية ومهنية كانت مهمشة في السابق، مثل النساء، والشباب، والأقليات العرقية؛ مما أسهم في تعزيز التنوع الديمغرافي داخل سوق العمل بشكل غير مسبوق.
وتُعد جائحة "كورونا" العالمية نقطة تحول رئيسية؛ إذ أدت إلى دفع العديد من الأفراد نحو تبني الحلول الرقمية كوسيلة للتكيف مع الأزمات الاقتصادية وتوفير مصادر دخل بديلة، وقد انعكس ذلك في زيادة ملحوظة في معدلات إنشاء الأعمال الرقمية، خاصة في الولايات المتحدة، حيث ساعدت المنصات الإلكترونية على تسهيل الدخول إلى السوق بفضل مرونتها وتكلفتها المنخفضة.
ومن هذا المنطلق، استهدف تقرير "تجارب رواد الأعمال الرقمية في الولايات المتحدة" الصادر عن مؤسسة "راند" RAND في العام 2024، استعراض التغيرات الديمغرافية التي أحدثتها المنصات الرقمية في بيئة الأعمال، بالإضافة إلى تسليط الضوء على الفرص التي أتاحتها هذه المنصات، والتحديات المستمرة التي ما زال يواجهها رواد الأعمال الرقميون، كما ناقش الدور المحوري للتكنولوجيا في إعادة تشكيل سوق العمل وآفاق ريادة الأعمال في المستقبل في ظل هذه التحولات الجذرية، من خلال تحليل البيانات المستمدة من التقرير.
ويقدم التقرير رؤية شاملة حول تأثير المنصات الرقمية في بيئة الأعمال الحديثة، مبرزاً كيف أن العمل عبر الإنترنت أصبح وسيلة أساسية لتحقيق الدخل للكثير من الأفراد، خاصة في ظل التحول المتسارع نحو الاقتصاد الرقمي. ويركز أيضاً على الأشخاص الذين يعتمدون على الإنترنت لإنشاء أعمالهم الخاصة، سواء في مجالات التجارة الإلكترونية، أم الكتابة، أم التسويق، أم غيرها من الخدمات الرقمية، لما يتمتع به هؤلاء الأفراد من مرونة عالية، حيث يمكنهم العمل من أي مكان وفي أي وقت، ويبين أن معظمهم ينتمون إلى الفئة العمرية بين 20 و45 عاماً، ويتميزون بتنوع خلفياتهم التعليمية، حيث يعتمد بعضهم على تعليم جامعي، بينما اكتسب آخرون مهاراتهم بشكل ذاتي من خلال الإنترنت.
أسهمت المنصات الرقمية بشكل كبير في تغيير التركيبة الديمغرافية لرواد الأعمال؛ مما جعلها أكثر شمولية وتنوعاً من أي وقت مضى، فقد أظهرت الدراسات والبيانات أن النساء يشكلن 66% من مستخدمي منصةShopify ، وهي نسبة مرتفعة جداً مقارنة بمشاركتهن في ريادة الأعمال التقليدية؛ مما يبرز قدرة المنصات الرقمية على توفير بيئة مرنة وسهلة تمكِّن النساء من تأسيس وإدارة أعمالهن الخاصة، حيث تقدم هذه المنصات الفرصة لهن للنجاح في عالم الأعمال بينما تتيح أيضاً التوازن بين مسؤوليات العمل وحياتهن الشخصية والاجتماعية، وهو ما كان في الماضي يمثل تحدياً كبيراً للنساء في المجالات التجارية التقليدية.
بالإضافة إلى ذلك، أظهرت الإحصائيات أن 15% من رواد الأعمال عبر منصة Shopify هم من ذوي البشرة السمراء، وهي نسبة تفوق المتوسط المعتاد؛ مما يعكس التأثير الإيجابي لهذه المنصات في تقليل الفوارق العرقية والثقافية في بيئة الأعمال؛ حيث إن المنصات الرقمية تتيح فرصاً متساوية للجميع، ويصبح النجاح قائماً على أساس الأداء والكفاءة وجودة المنتجات والخدمات التي يقدمها الأفراد، بدلاً من أن يكون متأثراً بالخلفيات العرقية أو الثقافية، وهذا يعزز روح التنافسية العادلة ويسهم في تعزيز التنوع في ريادة الأعمال الرقمية.
تشير الإحصائيات أيضاً إلى أن نحو 40% من مستخدمي منصة Shopify هم من الشباب الذين تقل أعمارهم عن 35 عاماً؛ مما يدل على قدرة المنصات الرقمية على جذب هذه الفئة الشابة التي ترى في المنصات الرقمية وسيلة مبتكرة لتحقيق طموحاتها وأحلامها بسرعة وبتكاليف أقل مقارنة بالأعمال التقليدية، ويُظهر هذا الاتجاه أن التكنولوجيا أصبحت تمثل عاملاً محورياً في تمكين الشباب وتوفير الفرص لهم ليكونوا جزءاً من الاقتصاد الرقمي المتنامي، كما أن هذا التنوع في الأعمار والخلفيات يعزز ديناميكية السوق ويدفع نحو المزيد من الابتكار؛ حيث تسهم كل فئة سكانية برؤاها وأفكارها الجديدة التي تساعد على تطوير بيئة ريادة الأعمال الرقمية.
إن هذه التغيرات في التركيبة الديمغرافية لرواد الأعمال تُظهر بوضوح كيف يمكن للمنصات الرقمية أن تفتح آفاقاً واسعة من الفرص للأفراد من جميع الفئات؛ مما يسهم في تطور السوق وزيادة تنافسيته.
تحديات وفرص:
رغم الفوائد الواضحة للتكنولوجيا الرقمية، يواجه رواد الأعمال تحديات متعددة، ويُعد جذب العملاء التحدي الأول والأكبر، حيث أشار 37% من رواد الأعمال إلى أن العثور على عملاء جدد يُعد مهمة صعبة؛ بسبب ارتفاع تكاليف التسويق وصعوبة إيجاد قنوات ترويجية فعالة، كما تواجه الشركات الصغيرة تحدياً مزدوجاً يتمثل في ضرورة تحقيق حضور قوي في السوق الرقمية مع الالتزام بميزانيات محدودة.
مع ذلك، تقدم المنصات الرقمية أدوات قوية تمكن الشركات من التغلب على هذه العقبات، حيث أشار 64% من رواد الأعمال إلى أن هذه الأدوات كانت "مهمة جداً" للوصول إلى العملاء وإدارة العمليات اليومية، كما تؤدي الشبكات الشخصية والمهنية دوراً بارزاً في دعم الشركات الناشئة؛ إذ أشار 42% من المستخدمين إلى أهمية هذه الشبكات في تحقيق نجاحهم.
أما التحدي الثاني، فيتمثل في عدم استقرار الظروف الاقتصادية، حيث أشار 26% من المشاركين إلى أن التقلبات الاقتصادية تمثل عائقاً رئيسياً؛ ومع ذلك، توفر التكنولوجيا الرقمية بيانات دقيقة تمكّن رواد الأعمال من التكيف مع التغيرات السريعة في السوق واتخاذ قرارات مستنيرة. بينما يتمثل التحدي الثالث في تأمين رأس المال؛ إذ يعتمد معظم رواد الأعمال على مدخراتهم الشخصية أو بطاقات الائتمان؛ وهو ما يبرز الحاجة إلى تطوير أدوات تمويل مبتكرة مثل القروض الرقمية والتمويل الجماعي لدعم الشركات الناشئة.
التكنولوجيا كمحرك للنمو:
يشير التقرير إلى أن العديد من رواد الأعمال بدأوا مشروعاتهم الرقمية بمبالغ مالية بسيطة، حيث بدأ نحو 535 من هؤلاء الرواد أعمالهم بمبالغ تقل عن 5 آلاف دولار؛ مما يجعل ريادة الأعمال في متناول فئات واسعة من السكان، وفي كثير من الحالات، اعتمد هؤلاء الأفراد بشكلٍ رئيسي على المدخرات الشخصية أو بطاقات الائتمان لتمويل مشروعاتهم. هذا النموذج من التمويل يفتح الباب أمام الأفراد الذين قد لا تكون لديهم القدرة على الوصول إلى القروض التقليدية أو رأس المال الاستثماري؛ مما يعزز فرص الريادة في مجتمعات مختلفة ويجعل السوق أكثر شمولية وتنوعاً، ويؤشر ذلك أيضاً على أن ريادة الأعمال لم تعد محصورة في فئات معينة من المجتمع أو بحاجة إلى استثمارات ضخمة؛ بل أصبحت متاحة لمجموعة واسعة من الأفراد الذين يمتلكون الطموح والقدرة على الابتكار؛ مما يسهم في توسع الاقتصاد الرقمي وزيادة التنافسية بين المشروعات الناشئة.
أظهر تقرير "راند" أيضاً أن العديد من الشركات التي بدأت على المنصات الرقمية استطاعت تحقيق نمو ملحوظ في إيراداتها خلال العامين الأولين من نشاطها، ووفقاً للبيانات، زادت الإيرادات في المتوسط بنسبة تصل إلى 600%؛ مما يدل على أن المنصات الرقمية توفر بيئة خصبة لدعم نمو هذه الشركات، خاصة تلك التي تنطلق من مراحل صغيرة. ويعكس هذا النمو اللافت قدرة المنصات الرقمية على تسهيل الوصول إلى السوق، فضلاً عن تقديم الأدوات والموارد التي تمكن الشركات الصغيرة من التوسع بسرعة وتحقيق نتائج مالية إيجابية؛ وهو ما لم يكن ممكناً في ظل النماذج التقليدية للأعمال التي تتطلب استثمارات ضخمة وتخطيطاً طويل الأمد.
وأكد التقرير أهمية استخدام تقنيات مثل البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي لتحسين أدوات التمويل والتحليل؛ مما يساعد رواد الأعمال على اتخاذ قرارات مالية أفضل وتسريع عمليات التمويل حيث تتيح هذه التقنيات للشركات الصغيرة فرصاً أكبر للحصول على الدعم المالي وتوسيع نطاق أعمالها، كما أكد أهمية التدريب على الأدوات الرقمية والتسويق الإلكتروني لدعم الشركات في تحسين استراتيجياتها التسويقية وزيادة كفاءتها. وفي المجمل، يعزز الابتكار التكنولوجي والتدريب المستمر فرص نجاح وتوسع الشركات الصغيرة في بيئة الأعمال الرقمية.
ختاماً، يبرز تقرير "راند" الدور المحوري للمنصات الرقمية في تمكين رواد الأعمال الجدد، خاصة من الفئات التي كانت غير ممثلة تقليدياً في بيئة الأعمال، فقد ساعدت هذه المنصات على توفير أدوات فعالة لدعمهم في مواجهة التحديات المختلفة مثل التمويل وجذب العملاء؛ مما أسهم في تعزيز الشمولية والتنمية الاقتصادية؛ وبرغم ذلك، يظل تحسين الوصول إلى رأس المال وتوفير أدوات تسويقية رقمية فعالة وذات تكلفة منخفضة أمراً حيوياً لتحقيق النمو المستدام للشركات الناشئة.
بناءً على ذلك، يوصي التقرير بتحسين الوصول إلى التمويل من خلال تطوير تقنيات مبتكرة تعتمد على تحليل البيانات، وهو ما قد يساعد على تسهيل وصول رواد الأعمال إلى رأس المال اللازم لدعم مشروعاتهم. كذلك، من الضروري تعزيز التدريب على الأدوات الرقمية والتسويق الإلكتروني؛ بما يسهم في تحسين قدرة الشركات الناشئة على التكيف مع التحديات الرقمية وتوسيع نطاق وصولها إلى العملاء. كما يجب على الحكومات العمل على تطوير سياسات تشجع على الابتكار وتدعم الشركات الصغيرة، من خلال توفير بيئة تشريعية مرنة تحفز على النمو والاستدامة؛ وبذلك يمكن للتكنولوجيا أن تواصل دورها كمحرك رئيسي لتحقيق النمو الاقتصادي وتعزيز الشمولية والاستيعاب الديمغرافي في ريادة الأعمال الرقمية.
المراجع:
(ب، ن) ،23.3.2025، التجربة الأمريكية للاستيعاب الديمغرافي عبر ريادة الأعمال الرقمية، المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة.
ندى مجدي مصطفي ،9.7.2023، أثر تكنولوجيا المعلومات والاتصالات على النمو الاقتصادي في الدول العربية 2000-2020: المركز الديمقراطي العربي،