في ظل المتغيرات التي تشهدها الساحة الإقليمية والدولية أعادت تركيا تموضعها كلاعب محوري على الساحة العالمية، بالاستناد إلى جملة من الإمكانيات والقدرات السياسية والعسكرية والتقنية، بما في ذلك دورها كعضو رئيسي في حلف الناتو وأهميتها في منظومة الأمن الغربي، وقدرتها على صياغة علاقات متوازنة تمكنها من تعزيز علاقاتها بروسيا والصين، ولو بدرجة أقل، والحفاظ على شراكتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة وأوروبا، علاوة على امتلاك علاقات إيجابية بالأطراف المتعارضة وتقديم وطرح المبادرات، وقيادة جهود الوساطة من خلال الجمع والتوفيق بين المتناقضات بل وتوظيفها لتحقيق مكاسب ذاتية، فضلًا عن تطور صناعاتها الدفاعية والتحول إلى مركز إقليمي في بعض الصناعات العسكرية مثل الطائرات المُسيرة. ورغم الضغوط الاقتصادية المتنامية والاضطرابات السياسية الداخلية التي تتصاعد من وقت لآخر، فإن الإمكانيات سالفة الذكر منحت أنقرة –حتى الآن على الأقل– القدرة على تولي أدوار خارجية في عديد من القضايا مثل الحرب الأوكرانية، والملفين السوري والليبي، والنزاع بين الصومال وإثيوبيا إضافة إلى عمليات تبادل الأسرى. وعليه، تناقش هذه الورقة ملامح اتساع الدور التركي ومقوماته.
ملامح اتساع الدور التركي
تعاظم دور تركيا على الساحتين الإقليمية والدولية خلال العقد الأخير مدفوعًا بجملة من التحولات الاستراتيجية في سياستها الخارجية وأدوات نفوذها، على نحو تتحدد ملامحه كالتالي:
• تعدد أدوار الوساطة: فعلت تركيا دبلوماسية الوساطة كإحدى أوراق سياستها الخارجية الفاعلة وعززت دورها كوسيط موثوق في سياقات إقليمية ودولية مختلفة، فمنذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، حافظت تركيا على قنوات اتصال مفتوحة مع كلا الجانبين؛ مما مكّنها من لعب دور وساطة حاسم، وأهَّلها لاستضافة الاجتماع رفيع المستوى بين وزيري الخارجية الروسي والأوكراني في منتدى أنطاليا الدبلوماسي في 10 مارس 2022، وفي وقت لاحق من ذلك الشهر، استضافت إسطنبول جولة مفاوضات استمرت ثلاثة أيام بين الجانبين، وهي الجولة الدبلوماسية المباشرة الوحيدة بين روسيا وأوكرانيا منذ بدء الحرب، وفي 16 مايو 2025 استضاف وزير الخارجية هاكان فيدان جولة محادثات دبلوماسية مباشرة بين الوفدين الروسي والأوكراني كذلك، استضافت في اليوم ذاته، محادثات بين إيران والترويكا الأوروبية –بريطانيا وفرنسا وألمانيا– بالتزامن مع تكثيف إدارة ترامب مساعيها للتوصل إلى اتفاق نووي جديد وأعرب أردوغان عن استعداد بلاده للتوسط بين باكستان والهند في محاولة لحل النزاع الطويل الأمد حول كشمير.
كما لعبت أنقرة دورًا محوريًا في تهدئة النزاع بين الصومال وإثيوبيا الذي أشعلته اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين إثيوبيا وإقليم أرض الصومال. وتوسطت أيضًا –إلى جانب الأمم المتحدة– في مبادرة حبوب البحر الأسود التي سهلت التصدير الآمن للحبوب الأوكرانية عبر المياه المتنازع عليها؛ مما خفف المخاوف بشأن الأمن الغذائي العالمي. وتولت دورًا لضمان التهدئة بين أذربيجان وأرمينيا حيث افتتحت –إلى جانب روسيا– مركز مراقبة مشترك في أذربيجان للمساعدة في مراقبة وقف إطلاق النار مع أرمينيا بعد شهرين من انتهاء حرب ناجورنو كاراباخ الثانية في نهاية 2020، قبل إنهاء نشاطه في أبريل 2024 كذلك، قادت تركيا عمليات تبادل أسرى ناجحة عديدة إحداها في سبتمبر 2022 بين روسيا وأوكرانيا وشملت شخصيات بارزة مثل فيكتور ميدفيدتشوك، الحليف المقرب للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأخرى في أغسطس 2024 شملت تبادل 26 فردًا من سبع دول منها روسيا والولايات المتحدة وألمانيا وبيلاروسيا.
• التحول إلى شريك رئيسي للاتحاد الأوروبي: أدت حالة عدم اليقين المحيطة بالتزام الولايات المتحدة طويل الأجل تجاه حلف شمال الأطلسي ودعمها المتناقص لأوكرانيا، إلى بروز تركيا كحجر الزاوية في استراتيجية الأمن الأوروبية؛ نظرًا لامتلاكها الجيش الأكبر في الحلف بعد الولايات المتحدة والذي يجعلها حليفًا مؤهلًا لحماية الجناح الجنوبي الشرقي لأوروبا من روسيا، علاوة على صناعتها الدفاعية المتطورة من طائرات مُسيرة ومركبات مدرعة وسفن حربية وذخائر والتي يُمكن أن تعمل كمزود للجيوش الأوروبية لتجديد ترساناتها، وسيطرتها على المضائق الاستراتيجية بالبحر الأسود وتفتح تلك الأهمية الجيوسياسية المتنامية لتركيا في بنية الدفاع الأوروبية المجال أمام تطوير استراتيجية بديلة لتعويض الجمود بشأن عضوية أنقرة في الاتحاد، تشمل تحديث الاتحاد الجمركي بين الجانبين وتحرير التأشيرات، وهي صيغة تمكن أنقرة من التعاون مع الاتحاد الأوروبي بما يتوافق مع مصالحها ويحافظ على استقلاليتها الاستراتيجية.
• توسيع النفوذ في سوريا ومعالجة القضية الكردية: باتت تركيا اللاعب المحوري على الساحة السورية والموجه الرئيسي للأحداث منذ سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، حيث تبنّت مقاربة توسعية متعددة المستويات تستهدف إعادة هندسة الجغرافيا السياسية السورية بما يخدم مشروعها الإقليمي، تتضمن ترسيخ حضور أمني وعسكري في العمق السوري من خلال إنشاء قواعد عسكرية دائمة والتحكم بمسارات إعادة الإعمار وإعادة اللاجئين، وإضعاف أي نفوذ كردي مستقل على الحدود، إذ تمكنت أنقرة من خلال قيادة عملية حل جديدة مع حزب العُمال الكردستاني من تصفية واحدة من أطول وأعقد قضاياها الأمنية؛ حيث أعلن الحزب في 12 مايو حل نفسه، ولا يمكن تفسير هذا التطور في إطار السياسة الداخلية التركية فحسب، بل يحمل أبعادًا خارجية أوسع تتعلق برغبة أنقرة إحداث اختراق سياسي آخر في الموضوع الكردي عن طريق ضم سوريا لدائرة الحوار التركي الكردي، وإنجاز تقدم بشأن إدماج قوات قسد في الهياكل السياسية والعسكرية السورية، وإبرام تفاهمات أمنية على الحدود الجنوبية التركية لضمان القضاء على طموحات كردية وتحديدًا رغبتها في إنشاء منطقة حكم ذاتي قرب المحافظات الشرقية لتركيا.
• تعزيز الحضور في القارة الأفريقية: رسخت تركيا دورًا استراتيجيًا في القارة الأفريقية، جامعة بين الدبلوماسية الاقتصادية والتعاون العسكري ومبادرات القوة الناعمة لتعزيز حضورها، وطرحت سردية تصور نفسها كدولة أفرو-أوراسية كوسيلة للتقرب من أفريقيا وتخفيف التوترات معها. ويتجلى نفوذ تركيا في أفريقيا بشكل خاص في قطاع الأمن؛ حيث رسخت نفسها كأفضل خيار للدول التي تمر بأزمة أمنية واضحة بسبب صعود الحركات المتمردة والجماعات الإرهابية، وزودت عديدًا منها بالمعدات الدفاعية تركية الصنع، وخاصة الطائرات المسيرة والمركبات المدرعة، بما في ذلك النيجر ومالي وبوركينا فاسو وتشاد كما وقعت مجموعة واسعة من اتفاقيات التعاون الدفاعي في جميع أنحاء القارة، من غرب أفريقيا مع نيجيريا وغانا، إلى شرق أفريقيا مع رواندا وكينيا والصومال وليبيا وإثيوبيا.
ورغم انخراطها العسكري، حرصت أنقرة على تجنب الظهور بمظهر الطرف الذي يُولي الأولوية للأمن، بل تُدمج انخراطها العسكري ضمن استراتيجية أوسع تشمل الاستثمارات الاقتصادية، والمبادرات التعليمية والوساطة الدبلوماسية؛ إذ عززت حضورها الدبلوماسي من خلال 44 سفارة، ورسخت مكانتها كوسيط في النزاعات الأفريقية، فقد نجحت في التوسط بين إثيوبيا والصومال، وتسعى الآن للتوسط في الحرب الأهلية السودانية، وعرضت التوسط في النزاع الطويل الأمد بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وتُساعد هذه المبادرات تركيا على إبراز نفسها كشريك موثوق في حل النزاعات في أفريقيا. كذلك، تستغل تركيا قوتها الناعمة لتعزيز نفوذها في أفريقيا، ويلعب التعليم دورًا محوريًا في هذا النهج، حيث تقدم تركيا منحى دراسيًا للطلاب الأفارقة للدراسة في جامعاتها، وقد شغل عديد من هؤلاء الطلاب مناصب مؤثرة في بلدانهم الأصلية، بما في ذلك مناصب وزارية في الصومال، وحتى رئاسة إثيوبيا. كما تُعد المساعدات الإنسانية ركيزة أخرى من ركائز استراتيجية تركيا للقوة الناعمة، وقد نشطت الوكالة التركية للتعاون والتنسيق (تيكا) في أفريقيا، إذ قدمت مساعدات غذائية، وطورت البنية التحتية، وقدمت خدمات الرعاية الصحية، ويُساعد هذا الالتزام الإنساني تركيا على بناء علاقات حسن النية وتوطيد علاقاتها مع الدول الأفريقية. واكتسبت الجانب الاقتصادي والتجاري أيضًا أهمية مماثلة، وترتكز العلاقات التجارية بين تركيا وأفريقيا على التعاون بين بلدان الجنوب، بهدف إرساء إطار اقتصادي ذي منفعة متبادلة، وتستضيف تركيا قمة سنوية بعنوان “تركيا وأفريقيا” لإضفاء طابع مؤسسي على شراكاتها، وتعزيز الروابط الاقتصادية والسياسية مع الدول الأفريقية.
مقومات توسع الدور التركي
إلى جانب العوامل التقليدية من قبيل القوة الناعمة والإعجاب بالنموذج التركي، حفزت مجموعة أخرى من العوامل اتساع الدور الخارجي التركي:
• تفويض ترامب تركيا للقيام بدور دبلوماسي أوسع: يميل ترامب إلى تفويض الحلفاء الإقليميين للقيام بأدوار أكبر بالنيابة عن الولايات المتحدة، ويعتقد أن تركيا خيار مناسب للقيام بدور دبلوماسي أوسع فيما يتعلق بقضايا تسوية الحرب الأوكرانية، والتقريب بين سوريا من جهة والولايات المتحدة وإسرائيل من جهة ثانية، وغيرها، حيث ينظر إلى أنقرة باعتبارها جسرًا لحل عديد من القضايا الشائكة في الشرق الأوسط ومناطق أخرى حول العالم، ويبدي إعجابًا بشخصية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وقدرته على قيادات وساطات خارجية وطرح مبادرات توفيقية. ويبدو أن ترامب لا يُعارض تنامي الدور التركي خاصة في مناطق الصراع منخفضة الأهمية الحيوية للولايات المتحدة، بل يسعى لتوجيهه في مسارات تضمن التوازن دون الاصطدام المباشر مع المصالح الأمريكية؛ مما يفسر تغاضي واشنطن عن بعض التحركات التركية أحادية الجانب، بل والتفاعل الإيجابي معها في بعض السياقات.
• القدرة على الموازنة بين الأطراف المتعارضة: أظهرت السياسة الخارجية التركية خلال العقد الأخير قدرة لافتة على المناورة بين أطراف متنازعة في عدد من الصراعات، مستندة إلى مقاربة براجماتية مرنة تُوازن بين المصالح المتعارضة دون التورط في تحالفات جامدة؛ فقد استطاعت أنقرة أن تحافظ على علاقات دبلوماسية فاعلة مع قوى متعارضة مثل روسيا وأوكرانيا؛ حيث زودت كييف بالسلاح وفي الوقت ذاته احتفظت بتفاهمات استراتيجية مع موسكو، بل حتى بين حكومات متخاصمة داخل الساحة الواحدة، كما في ليبيا وقبلها سوريا؛ الأمر الذي يمنحها إمكانية لعب أدوار وسيطة في أزمات معقدة، ويعزز موقعها كفاعل دولي يتمتع بمرونة عالية في إدارة العلاقات المتشابكة.
• تطور الصناعات الدفاعية التركية: شكل تطور الصناعات الدفاعية التركية خلال العقدين الأخيرين أحد المرتكزات الرئيسية في صعود تركيا كقوة إقليمية طموحة تسعى لتعزيز مكانتها على الساحة الدولية حيث تحولت تركيا من دولة مستوردة للسلاح إلى فاعل منتج ومصدر لتقنيات عسكرية متقدمة؛ مما انعكس بشكل مباشر على التدخل في الأزمات الإقليمية، ويُعد إنتاج المسيرات من طراز بيرقدار TB2 وأكنجي أحد أبرز مظاهر هذا التحول؛ حيث جرى توظيفها بنجاح في مسارح عمليات متعددة مثل ليبيا وسوريا وأوكرانيا وناجورنو كاراباخ؛ مما عزز من قدرتها على التأثير السياسي والعسكري في مناطق استراتيجية، كما أسهم تصدير هذه الأسلحة إلى دول تمتد من شرق أوروبا إلى آسيا الوسطى وأفريقيا في توسيع شبكات النفوذ التركي خارج المجال الجغرافي التقليدي.
ختامًا، ينبغي في النهاية الإشارة إلى حقيقة مهمة أثبتتها التجارب التاريخية للدول، ألا وهي أن توسع أدوار السياسة الخارجية للدولة لا بد وأن يرتكز إلى قاعدة داخلية متماسكة ومستقرة سياسيًا ومقدرات اقتصادية وعسكرية، بينما المشهد في تركيا يبدو مُغايرًا بعض الشيء؛ إذ تعتمد السياسة الداخلية في المقام الأول على ديناميكيات السياسة الخارجية، ومن ثَمّ فإن تجاهل تصحيح هذه المعادلة واستمرار اتساع دور الدولة خارجيًا على حساب اضطرابات سياسية داخلية وضغوط اقتصادية مستمرة، يجعله قابلًا للانهيار.
المصدر: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية
الكاتب : مارى ماهر
التاريخ : 1/6/2025
-----------------------------------------
المصدر: صحيفة العقارية
التاريخ : 27/5/2025