برز الذكاء الاصطناعي كأداة رئيسية في تحسين آليات المراقبة البحرية، وتحليل البيانات بشكل دقيق وسريع، وهو ما يسهم في التنبؤ بالتهديدات وتوجيه الردود الأمنية بكفاءة أعلى. إذ أصبحت الأنظمة المدعومة بالذكاء الاصطناعي ضرورية لضمان سلامة حركة السفن وتخفيف المخاطر المحتملة، خاصة مع مرور ما يقارب 90% من حجم التجارة العالمية عبر الممرات البحرية، ومنها البحر الأحمر.
تأسيسا على ما سبق، يطرح هذا التحليل، سؤال، هو: ما حدود نجاح استخدام الذكاء الاصطناعي في تأمين البحر الأحمر، وكيف يمكن تحقيق التوازن في هذا الممر بين القدرات العسكرية والتكنولوجية الحديثة لمواجهة التحديات الأمنية المتزايدة في هذه المنطقة الحيوية؟
تزايد التهديدات الأمنية
شهدت منطقة البحر الأحمر والقرن الإفريقي، تراجعًا ملحوظًا في نشاط القرصنة البحرية خلال السنوات الأخيرة، مقارنة بذروتها في عام 2009، الذي سجل أعلى معدلات اختطاف السفن، وأثار مخاوف عالمية بشأن أمن الملاحة الدولية. ورغم هذا التراجع، لا تزال المخاوف قائمة من احتمال عودة هذه الظاهرة خصوصًا على السواحل الصومالية التي تعاني من ضعف الرقابة وانعدام الاستقرار، مما يوفر بيئة خصبة لعودة الأنشطة غير المشروعة في البحر.
ففي الماضي تأثرت مصر بشكل مباشر بتصاعد موجات القرصنة، إذ شكّلت تهديدًا فعليًا لقطاع الشحن البحري المصري، بسبب ارتفاع تكاليف التأمين والنقل، فضلاً عن تعريض حياة الطواقم للخطر. ويعد حادث اختطاف سفينة شحن مصرية في عام 2009 من أبرز الأمثلة التي جسدت هذا التهديد، حيث تكبدت مصر خسائر مادية كبيرة. استجابة لذلك، انخرطت القاهرة في جهود دولية لحماية الملاحة، وكان من أهم خطواتها الانضمام إلى فرقة العمل المشتركة لتأمين الممرات البحرية.
الملاحظ أن تصاعدت حدة التهديدات الأمنية في المنطقة بشكل ملحوظ بدأت منذ سبتمبر 2019، عندما استهدف الحوثيون منشآت أرامكو النفطية في السعودية، وهو ما تكرر في مارس 2022. وقد أثارت هذه الهجمات ردود فعل دولية، دفعت الولايات المتحدة إلى تعزيز حضورها العسكري، من خلال إعادة نشر وحداتها البحرية، بما في ذلك حاملة الطائرات “يو إس إس ثيودور روزفلت”، في البحر الأحمر لاحتواء التهديدات المتزايدة وضمان حماية مصالحها وحلفائها.
ومع اندلاع الحرب بين حركة حماس وإسرائيل في أكتوبر 2023، تزايدت حدة التوتر في المنطقة، واستغلت جماعات مسلحة غير نظامية هذا التصعيد لتنفيذ هجمات باستخدام طائرات مسيّرة استهدفت السفن والبنية التحتية البحرية. وردًا على ذلك، نفذت الولايات المتحدة بالتنسيق مع حلفائها ضربات عسكرية على مواقع تابعة للحوثيين في اليمن، بهدف حماية حرية الملاحة والتصدي للتهديدات العابرة للحدود.
لكن رغم تشكّل تحالف بحري يضم أكثر من عشرين دولة بهدف تأمين الملاحة في البحر الأحمر، إلا أن جماعة الحوثي نجحت منذ أواخر عام 2023 في تصعيد عملياتها ضد السفن التجارية بشكل غير مسبوق مما دفع كبرى شركات الشحن العالمية إلى تغيير مساراتها باتجاه طريق رأس الرجاء الصالح جنوب إفريقيا. وقد أدى هذا التحول إلى زيادة زمن الرحلات البحرية بما لا يقل عن عشرة أيام، فضلًا عن ارتفاع كبير في التكاليف التشغيلية. يذكر أنه حتى أبريل 2025، لا تزال هذه الهجمات مستمرة، في ظل مساعٍ دولية متواصلة لاحتوائها وضمان أمن هذا الممر البحري الاستراتيجي.
أهمية الأمن البحري
المرتكزات الأساسية لضمان سلامة الممرات المائية وحماية التجارة الدولية خاصة في ظل الاعتماد المتزايد على النقل البحري كوسيلة رئيسية لنقل البضائع ومصادر الطاقة ويهدف هذا المفهوم إلى مواجهة طيف واسع من التهديدات التي تطال البحار، مثل القرصنة، وتهريب المخدرات والأسلحة، والهجرة غير النظامية، إلى جانب حماية البنية التحتية الساحلية وتأمين حرية الملاحة والموارد البحرية.
فمع تصاعد التهديدات في مناطق بحرية ذات أهمية استراتيجية، مثل البحر الأحمر ومضيق باب المندب ازدادت الحاجة إلى تطوير قدرات الدول الساحلية والقوى الدولية على المراقبة الفعالة والاستجابة السريعة. وقد دفعت هذه التحديات إلى توظيف تقنيات حديثة ومتقدمة، في مقدّمتها الذكاء الاصطناعي، الذي برز كعنصر حيوي في دعم عمليات الأمن البحري، بفضل قدرته على تحليل الصور الفضائية، ومعالجة البيانات الواردة من أجهزة الاستشعار المنتشرة في البحر، واكتشاف التحركات غير الطبيعية للسفن.
وفقًا للمُختصين، يساهم الذكاء الاصطناعي في تسريع اتخاذ القرار وتعزيز دقته، من خلال توفير أدوات تحليلية قادرة على التنبؤ بالمخاطر وتقديم الإنذارات المبكرة وهذا من شأنه أن يرفع من كفاءة عمليات المراقبة والتدخل، ويزيد من قدرة الدول على حماية مصالحها البحرية بكفاءة وفعالية.
ومع تطور تطبيقات الذكاء الاصطناعي، تبرز الحاجة إلى تحقيق توازن بين توظيف هذه التقنيات المتقدمة والاستفادة من الخبرات البشرية، لضمان اتخاذ قرارات مدروسة في المواقف الحساسة فرغم ما توفره التكنولوجيا من مزايا، تبقى الخبرة البشرية ضرورية لتقييم الأوضاع بصورة نقدية، خاصة في الظروف الطارئة التي تتطلب سرعة بديهة وحسن تقدير.
في فبراير من العام الجاري، دشّنت البحرية الأمريكية نظامًا تحليليًا متطورًا في البحر الأحمر، يهدف إلى رصد التهديدات البحرية، لا سيما تلك التي تشكلها جماعة الحوثي في اليمن. يقوم هذا النظام على تقنيات الذكاء الاصطناعي، ما يتيح له تحليل كميات ضخمة من البيانات المستخلصة من أجهزة استشعار متعددة، ضمن منصة موحّدة تتيح التواصل اللحظي مع السفن ومراكز الاستخبارات العالمية. ويعتمد في ذلك على صور الأقمار الصناعية ومصادر معلوماتية متنوعة لتحليل التهديدات بدقة وسرعة، بما يمكّن من اتخاذ قرارات استباقية وتنفيذ إجراءات فورية.
ولتدعيم فعالية هذا النظام، أكد مراقبون أن البحرية الأمريكية، تعاونت مع شركات متخصصة في مراقبة الأقمار الصناعية، حيث يتم دمج المعلومات الاستخباراتية العسكرية مع البيانات التجارية، بما يرفع من كفاءة الاستجابة وسرعتها، خاصة في ظل تصاعد وتيرة الهجمات الحوثية باستخدام الطائرات المسيّرة والصواريخ ضد الأهداف البحرية. ويأتي هذا التطوير في إطار توجه أوسع نحو رقمنة القدرات الدفاعية وتحديدًا في المجال البحري، حيث تُعد الولايات المتحدة في طليعة الدول التي تسعى إلى تقليص الدور البشري وتعزيز كفاءة العمليات من خلال أنظمة ذكية. ومع ذلك، تثار تساؤلات بشأن الآثار السلبية المحتملة لهذا التحول، لا سيما ما يتعلق بغياب الحس التقديري البشري في بيئات القتال المعقدة، وما قد ينجم عنه من أخطاء يصعب تداركها، وهو ما يستدعي إعادة النظر في كيفية توزيع الأدوار بين الإنسان والآلة.
الثورة التكنولوجية وإعادة تعريف الأخطار
يشهد العالم تحولاً جذرياً في صناعة النقل البحري مع ظهور السفن الذكية والمستقلة، التي تعتمد على تقنيات متقدمة مثل الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والأنظمة الذاتية (Autonomous Systems) بينما تُقلل هذه السفن من التكاليف التشغيلية وتزيد الكفاءة، فإنها تفرض تحديات غير مسبوقة على قطاع التأمين، تتطلب إعادة هيكلة جذرية لاستراتيجيات إدارة الأخطار وتصميم المنتجات التأمينية.
تفرض السفن الذكية والمستقلة تحديات تأمينية جديدة على صناعة التأمين البحري، حيث تختلف طبيعة الأخطار بشكل كبير عن السفن التقليدية. من أبرز هذه التحديات:
1. أخطار القرصنة الإلكترونية، حيث يمكن أن تتعرض أنظمة السفن الذكية للاختراق، مما يؤدي إلى فقدان السيطرة عليها أو سرقة البيانات الهامة، ووفقاً لما ذكرته شركة كاسبرسكي 30% من السفن الذكية تعرضت لمحاولة اختراق واحدة على الأقل في 2023. وهناك نوعان من الهجمات التي تتعرض لها السفن وهى:
هجمات Ransomware : تشفير أنظمة السفينة وطلب فدية.
هجمات GPS Spoofing : توجيه السفن إلى مسارات خاطئة.
2. أخطار الأعطال الفنية وأخطاء البرمجيات، والتي قد تتسبب في حوادث يصعب التنبؤ بها.
و من أمثلة الأخطار التكنولوجية الناتجة عن الأعطال البرمجية:
اتخاذ القرارات الخاطئة في ظروف غير مألوفة: مثال: في عام 2023، تسببت خوارزمية ملاحة في اصطدام سفينة بشعاب مرجانية بسبب عدم قدرتها على تمييز التغيرات في قاع البحر.
تحديات التحديثات البرمجية:
تكلفة تحديث أنظمة الذكاء الاصطناعي قد تصل إلى 500 ألف دولار سنوياً لكل سفينة.
ظهور أخطار عدم التوافق بين الإصدارات القديمة والجديدة للبرمجيات.
3. غياب الطاقم البشري، وهو ما يزيد من صعوبة تحديد المسؤولية القانونية في حالة الحوادث، مما يتطلب تطوير إطار قانوني وتأميني جديد.
4. التعقيدات القانونية، 75% من الدول البحرية لا تملك قوانين تنظم مسؤولية السفن الذكية حسب المنظمة البحرية الدولية (IMO) ما قد يتسبب في ظهور نزاعات قضائية
مثال: قضية "نورث ستار" (2022): رفعت شركة شحن دعوى ضد مطور برمجيات بسبب عطل تسبب في خسائر بقيمة 15 مليون دولار.
5. تسعير الوثائق استنادا إلى البيانات التاريخية والتنبؤات، وهو ما يتطلب من شركات التأمين وضع
وتستلزم هذه التحديات من شركات التأمين تبني أساليب مبتكرة لتقييم الأخطار وإدارة وثائق التأمين بما يتناسب مع طبيعة هذه التكنولوجيا المتقدمة.
الذكاء الاصطناعي والأمن الملاحي
وفي إطار تعزيز الأمن الملاحي، تعتمد القوات البحرية الأمريكية على أنظمة مراقبة تعتمد الذكاء الاصطناعي لتحليل بيانات متعددة المصادر، منها صور الأقمار الصناعية، وإشارات الرادار، ونظام التعريف التلقائي للسفن (AIS) ومن أبرز هذه الأنظمة “Mainsail”، الذي طوّره حلف الناتو ويُستخدم لمراقبة حركة السفن والكشف عن المسارات غير الاعتيادية التي قد تشير إلى تهديدات محتملة، ما يعزز من قدرات الإنذار المبكر والاستجابة الفعالة.
وفقًا للمراقبين، تُعد السلامة البحرية أحد الجوانب التي استفادت كثيرًا من تقنيات الذكاء الاصطناعي، حيث شهدت تطورًا ملحوظًا من خلال دمج تقنيات الرؤية الحرارية مع الخوارزميات الذكية، كما في حالة شرك Sea.AI التي طوّرت نظامًا قادرًا على رصد العوائق البحرية مثل الحطام وقوارب الصيد، والتي قد لا تتمكن أجهزة الرادار التقليدية من اكتشافها بفعالية، خصوصًا في ظروف الطقس القاسية، مما ساهم في تقليل الحوادث وتحقيق درجة أعلى من الأمان للسفن وطاقمها.
في هذا السياق، أنشأت البحرية الأمريكية “الفرقة 59″، وهي أول وحدة بحرية تعتمد بالكامل على أنظمة الذكاء الاصطناعي والأنظمة المسيّرة في عملياتها، خاصة في البحر الأحمر ومنطقة الشرق الأوسط. وتعمل هذه الفرقة ضمن شبكة تنسيقية متكاملة مع الأسطول البحري وخفر السواحل والقوى البحرية الدولية، ما يمنحها قدرة تحليلية عالية لتقييم المخاطر والتعامل الفوري مع التهديدات.
لكن، مع تزايد اعتماد الولايات المتحدة على الأنظمة الذكية، تبرز تحديات مالية وأمنية، لا سيما في مواجهة الطائرات المسيّرة منخفضة التكلفة التي تُطلقها جماعة الحوثي. إذ غالبًا ما تتطلب مواجهتها استخدام صواريخ دفاعية عالية التكلفة، ما يثير مخاوف من استنزاف الموارد المالية، خاصة في ظل الفجوة الكبيرة بين تكلفة الدفاع والهجوم. وقد دفع هذا الوضع بعض الجهات في وزارة الدفاع الأمريكية إلى المطالبة بإعادة تقييم جدوى بعض نظم الدفاع المستخدمة حاليًا.
ورغم التقدم التقني، يحذر عدد من الخبراء من مغبة الإفراط في الاعتماد على الأنظمة الذكية، لما قد يسببه ذلك من تراجع في مهارات التقدير الميداني لدى القادة العسكريين، بالإضافة إلى احتمال الوقوع في أخطاء تحليلية ناجمة عن ثقة مفرطة بالخوارزميات، ما قد يضعف جودة القرارات العسكرية في المواقف المعقدة.
ختامًا، يشكل اعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي في المجال البحري، خطوة استراتيجية تهدف إلى تعزيز القدرات الدفاعية وحماية المصالح الحيوية للدول، لا سيما في المناطق ذات الحساسية الأمنية العالية مثل البحر الأحمر. هذه المنطقة تمثل نقطة محورية للتحديات الأمنية المتزايدة، حيث توفر تقنيات الذكاء الاصطناعي، من مراقبة ذكية وتحليل متقدم للبيانات الضخمة، أدوات فعالة لرصد التهديدات بسرعة ودقة عالية. هذا التطور يسهم في رفع مستوى كفاءة الاستجابة الأمنية ويساعد في اتخاذ قرارات مبنية على معلومات دقيقة، ما يعزز الفاعلية العملياتية في مواجهة المخاطر المتغيرة.
وعلى الرغم من الإمكانيات الكبيرة التي تتيحها الأنظمة الذكية، فإن تحقيق التوازن بين دور التكنولوجيا الحديثة وخبرة العنصر البشري يبقى أمرًا حاسمًا. فالعمليات البحرية تتميز بالتعقيد والظروف المتغيرة باستمرار، مما يجعل الدمج المتناغم بين القدرات التقنية والمعرفة البشرية ضرورة لضمان نجاح الاستراتيجيات الأمنية.
ولضمان أمن بحري مستدام في البحر الأحمر، يتعين على الدول المشاطئة تبني سياسات متكاملة ترتكز على ثلاثة محاور رئيسية، المحور الأول: تعزيز التعاون الإقليمي، عبر تبادل المعلومات الأمنية وتنسيق الجهود المشتركة لمواجهة التهديدات العابرة للحدود بشكل فعال. المحور الثاني: يركز على الاستثمار في تطوير وتطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي، من خلال توفير البنية التحتية المناسبة والدعم المالي الضروري. أما المحور الثالث، فيتعلق ببناء القدرات البشرية، عبر تدريب الكوادر على استخدام هذه التقنيات وتحليل بياناتها بكفاءة، مما يضمن تكامل الخبرات البشرية مع التقنيات الحديثة في إدارة الأمن البحري.
المصدر: مركز رع للدراسات الاستراتيجية
الكاتب : د. جيهان عبدالرحمن
التاريخ :2/6/2025
----------------------------------------------
المصدر: صحيفة اليوم السابع
الكاتب : حسام الشقويرى
التاريخ : 25/2/2025