تشكل سوريا ساحة للتنافس المُحتدم بين تركيا والكيان الصهيوني، ومع تفاقم الخلافات، لجأ الطرفان إلى إجراء مباحثات لتجنب وقوع صدام عرضي بينهما داخل الأراضي السورية، وأُجريت الجولة الأولى من هذه المباحثات في أذربيجان في 9 إبريل 2025؛ بهدف التوصل إلى صيغة تفاهمات واضحة لتفادي تصعيد التوتر بين البلدين؛ ولكنها لم تسفر عن شيء ملموس. ومن جانبه، أجرى رئيس الأركان الصهيوني، إيال زامير، يوم 20 إبريل الماضي، جولة ميدانية في المناطق التي يحتلها جيشه في سوريا، برفقة عدد من قيادات الجيش، مؤكداً الخطط الموضوعة للحفاظ على السيطرة في تلك المناطق؛ وهو ما يثير تساؤلات عن مستقبل التنافس التركي الصهيوني في سوريا.
أهداف مختلفة:
تتباين أهداف الطرفين التركي والصهيوني في التعامل مع الوضع الراهن في سوريا. فمن جيهتها، تسعى تركيا إلى دعم الإدارة الجديدة وتقوية جيشها ليتمكن من فرض سيادته على كامل تراب بلاده، بما يشمل الحد من النفوذ الكردي في شمال وشرق البلاد؛ ومن ثم إضعاف القوى الانفصالية الكردية في جنوب شرق تركيا، وتحويل سوريا إلى عمق إستراتيجي لتركيا وليس مصدر تهديد.
كما تضع أنقرة عينها على عملية إعادة الإعمار التي تنطوي على فرص اقتصادية كبيرة، فضلاً عن تحسين الأوضاع في سوريا؛ مما يشجع عودة مواطنيها اللاجئين في تركيا؛ ومن ثم يرفع عبئاً سياسياً كبيراً من على عاتق حزب العدالة والتنمية الحاكم ويقوي موقفه داخلياً في مواجهة خصومه؛ لذا تشعر أنقرة بقلق شديد تجاه التدخلات الصهيونية في سوريا، وتعتبرها تهديداً لأمنها القومي.
وفي المقابل، يهدف الكيان الصهيوني إلى إنشاء مناطق واسعة منزوعة السلاح على حدوده الشمالية في سوريا ولبنان، وفرض حرية تحليق طائراتها في أجواء المنطقة، كما تريد إقامة علاقات دبلوماسية مع دمشق وشرعنة الأوضاع التي فرضتها واقعاً بقوة السلاح من خلال إبرام اتفاق يعترف بتغيير خط الحدود والمنطقة منزوعة السلاح، والعلاقة الخاصة بين الكيان الصهيوني والدروز، ويمنع استضافة دمشق للفصائل الفلسطينية، ويقلص النفوذ التركي في سوريا ويفرض قيوداً على علاقاتها الخارجية، ويعوق أي تنسيق إقليمي يتعارض مع المصالح الصهيونية، على غرار الآلية الإقليمية المشتركة التي تحاول أنقرة إقامتها وتضم العراق وسوريا ولبنان والأردن؛ بهدف التصدي للدور الصهيوني المزعزع للاستقرار في المنطقة.
أدوات الضغط:
تحاول تركيا والكيان الصهيوني توظيف الأوراق التي بحوزتهما في مواجهة بعضهما على الساحة السورية، وتستخدمان أدوات مختلفة في هذا السياق التنافسي، كالتالي:
1- الأدوات التركية: تتمتع أنقرة بمميزات حصرية في سوريا؛ إذ تملك العديد من أدوات الضغط التي لا تملكها الحكومة الصهيونية وتحاول توظيفها في مواجهة محاولات تمدد النفوذ الصهيوني في الساحة السورية، ومن أبرز تلك الأدوات ما يلي:
أ- الاحتفاظ بعلاقات وثيقة مع القادة السوريين: لا تخفى العلاقة الوثيقة التي تجمع الأتراك بقادة سوريا الحاليين سواء المدنيين أم العسكريين، كما أن قطاعاً مهماً من الجيش السوري تَشَكلَ من عناصر الجيش الوطني السوري الذي أسهمت تركيا في تأسيسه عام 2017 وتولت تمويله وتدريبه وتوجيهه، واليوم يتولى القادة السابقون في الجيش الوطني مناصب عسكرية رفيعة، وبعضهم ينتمي إلى المكون التركماني.
ب- الوجود العسكري المباشر: تحتفظ تركيا حتى اليوم بقواعد عسكرية في الشمال السوري، ومن المُقرر أن يزيد وجود العسكريين الأتراك عبر تولي مهام تسليح وتدريب الجيش السوري الجديد، فأنقرة أقرب حليف للدولة السورية التي تبدو في أمسّ الحاجة إلى الدعم الخارجي لإعادة بناء قوتها العسكرية المنهارة. وهناك خطة لإبرام اتفاقية دفاع مشترك، فخلال زيارته لتركيا في 4 فبراير الماضي، صرّح الرئيس السوري، أحمد الشرع، بأن علاقات البلدين تتحول إلى شراكة استراتيجية في جميع المجالات، وفي اليوم نفسه أفادت وكالة "رويترز" بأن الشراكة ستشمل تحالفاً دفاعياً، وتدريباً بقيادة تركية للجيش الجديد، وقواعد جوية. كما زار عسكريون أتراك المطار الرئيسي في حماة، وقاعدتي "تي فور" و"تدمر" الجويتين في حمص لتقييم حالة المنشآت والبنية التحتية المطلوبة قبل نشر القوات والمعدات هناك في إطار اتفاقية الدفاع المشترك المرتقبة، وناقشوا خططاً لتجهيز بعضها بأنظمة دفاع جوي وطائرات مُسيَّرة مسلحة؛ لذا شن الكيان الصهيوني غارات جوية في مطلع إبريل الجاري استهدفت المطارات الثلاثة.
ج- توظيف الدبلوماسية: تقدم أنقرة دعماً دبلوماسياً كبيراً لدمشق في مواجهة الصهاينة، ويعمل الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على استغلال علاقته الجيدة مع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، لموازنة الضغوط المعاكسة التي يمارسها رئيس الوزراء الصهيوني، بنيامين نتنياهو، ومؤيدوه في واشنطن. وفي حال نجاح أردوغان في إقناع ترامب بسحب كل قواته من الشرق السوري؛ فإن ذلك سيمثل ضربة للمخططات الصهيونية المتعلقة بسوريا، كما أن الجهود الدبلوماسية التي تبذلها أنقرة لرفع العقوبات عن دمشق تُعد أحد وسائل تجريد الكيان الصهيوني من ورقة ضغط مهمة على حكومة الشرع.
وقبيل أولى جلسات التفاوض مع الكيان الصهيوني، عمد الأتراك إلى توصيل رسائل رمزية استباقية عبر منع طائرة الوفد الصهيوني المفاوض من عبور أجواء بلادهم؛ بهدف إفهام خصومهم أنهم ليسوا في موقف ضعف لتقديم تنازلات. وبالرغم من تأكيدات أنقرة أنها لا تنوي الدخول في نزاع مع الكيان الصهيوني في سوريا؛ فإن الفترة الأخيرة شهدت تصعيداً كلامياً بين الجانبين، وحذر أردوغان من أن بعض الأطراف تختبر صبر أنقرة في سوريا، داعياً إياهم إلى تقدير صداقة بلاده وأن يتصرفوا كدولة لا كمنظمة، كما حذر من أن من يريدون إثارة الفتن في سوريا سيجدون أنقرة في مواجهتهم، مشدداً على عدم السماح بتقسيم الأراضي السورية.
2- الأدوات الصهيونية: تمتلك حكومة الكيان أوراق قوة تعمل على توظيفها لتحقيق مصالحها وإضعاف نفوذ تركيا ودفعها شمالاً بعيداً عن الجنوب السوري، وترسيخ الواقع الميداني الجديد، ومن أبرز تلك الأدوات ما يلي:
أ- الأدوات العسكرية: خلال ما وُصفت بأنها "أكبر عملية في تاريخ سلاح الجو للكيان الصهيوني"، تم تدمير القدرات العسكرية السورية عقب سقوط نظام بشار الأسد، وحتى اليوم تتواصل الهجمات العسكرية بهدف ترسيخ واقع استمرارية استباحة الأجواء السورية. كما يعمل الكيان الصهيوني على توسيع مساحة الأراضي التي تحتلها حتى صارت قريبة من العاصمة دمشق، وكذلك تتواصل التوغلات البرية وعمليات المداهمة والتفتيش في المناطق الجنوبية القريبة من الجولان. وأعلن الكيان الصهيوني منطقة أمنية بعمق 15 كيلومتراً تضم تسع قواعد عسكرية، فضلاً عن منطقة نفوذ بعمق 65كيلومتراً داخل الأراضي السورية. وكان وزير الدفاع الصهيوني، يسرائيل كاتس، قد صرح سابقاً بأن قوات بلاده ستبقى بالمنطقة العازلة في سوريا لفترة غير محددة.
ويسعى الصهاينة لمنع تركيا من توسيع عمقها الاستراتيجي وملء الفراغ الذي تركته إيران في سوريا، فعقب الحديث عن نية أنقرة إرسال قواتها إلى قواعد جوية في سوريا؛ استهدف الصهاينة المطارات المقصودة كرسالة واضحة لتركيا بأنها لن تسمح بتقييد عملياتها؛ لأنه إذا تم إنشاء قواعد جوية تركية في سوريا، فإن ذلك سيقيد حرية العمل العسكري الصهيوني.
ب- ورقة الأقليات: يلعب الصهاينة بورقة الأقليات لإضعاف دمشق، بحيث تعجز عن تحدي الهيمنة العسكرية للكيان الصهيوني، فوجود سوريا موحدة وقوية ليس في صالح الكيان الصهيوني؛ لذا حاولت توظيف الورقة الكردية للضغط على أنقرة ودمشق، إلا أن الاتفاق الذي عقده الرئيس الشرع مع قائد قوات سوريا الديمقراطية "قسد" في 10 مارس الماضي، أسهم في تثبيط تلك المساعي.
كما حاول الصهاينة إشعال التوتر بين الدروز والحكومة المركزية لتبرير تدخلاتها بذريعة حمايتهم، وهدد نتنياهو بضرب سوريا إذا تعرض الدروز للأذى، وأمر وزير الدفاع الصهيوني جيشه بالاستعداد لذلك، وتحدث وزير الخارجية، جدعون ساعر، علناً عن وجود علاقات واتصالات مع الطائفة الدرزية في سوريا، وأعلن في مارس الماضي عن توزيع مساعدات إنسانية عليهم، وتم تنظيم زيارة لوفد من مشايخ الطائفة إلى الكيان الصهيوني لأول مرة منذ 50 عاماً، وسبق أن دعا ساعر في أول خطاب له ألقاه خلال حفل تنصيبه في نوفمبر الماضي إلى بناء "حلف أقليات" بين إسرائيل والدروز والأكراد وغيرهم من الأقليات.
ج- الضغوط الدبلوماسية: وظف الكيان الصهيوني علاقاتها الدولية النافذة للضغط على دمشق، وعمدت إلى الاستقواء بواشنطن والدفع باتجاه إبقاء العقوبات الدولية بعد سقوط نظام الأسد. وذكرت وكالة "رويترز"، في 28 فبراير الماضي، أن نتنياهو حث الولايات المتحدة على عدم التواصل مع حكومة الشرع بحجة أنه يجب إبقاؤها ضعيفة. وبحسب جيمس جيفري، نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق، والسفير السابق لدى تركيا، فإذا كان الكيان الصهيوني يريد إضعاف سوريا وإبقاءها منقسمة، فإن الولايات المتحدة هي الأقدر على فعل ذلك، فمجرد بقاء العقوبات والسياسات الأمريكية الحالية تجاه دمشق كفيل بتحقيق هذا الهدف، مبيناً أن سياسة إدارة ترامب تجاه سوريا لا تزال غامضة، فبعض مسؤوليها يتبنون الخطاب الصهيوني، ولا يحظى الرئيس أردوغان بشعبية في هذه الإدارة، ربما باستثناء ترامب نفسه؛ لكنه يرجح أن تتبنى واشنطن في النهاية خيار الانفتاح على دمشق تاركةً الكيان الصهيوني معزول.
وفي هذا الإطار جاءت المحاولات الدبلوماسية الصهيونيةلحل الخلافات مع أنقرة على مائدة التفاوض لرسم خرائط النفوذ على قاعدة إعطاء الصهاينة منطقة نفوذ واسعة في سوريا والإقرار ببعض النفوذ التركي خاصةً في الشمال، وهو ما لم يتم التوافق بشأنه.
أربعة تصورات :
مما لا شك فيه أن الانسحاب الأمريكي المرتقب من مناطق الأكراد يقوي موقف حكومة دمشق، ويزيد شهية تركيا للتمدد داخل سوريا، ويسهل مهمتها في هذا الصدد، ويضعف الموقف الصهيوني الذي راهن على استخدام الأقليات وخاصةً الأكراد لابتزاز أنقرة ومساومتها، وقد سحبت واشنطن جزءاً كبيراً من قواتها بالفعل مؤخراً، لكن الكيان الصهيوني يضغط لعدم إتمام عملية الانسحاب الكامل.
ويُمثل نشر القواعد التركية في وسط سوريا خصماً مباشراً من النفوذ الصهيوني؛ إذ يضمن توسيع العمق الاستراتيجي لتركيا داخل الأراضي السورية وحرمان الطيران الصهيونيمن حرية التحليق في مساحة واسعة، وكذلك يهدد نشر الدفاعات الجوية التركية سمعة السلاح الصهيوني، وهو ما ألمح إليه أردوغان في أغسطس الماضي حين تحدث عن مشروع الدفاع الجوي التركي "القبة الفولاذية" باعتباره منافساً لـ"القبة الحديدية" الصهيونية؛ إذ يخطط الجيش التركي لدمج أنظمته الدفاعية في شبكة واحدة شديدة التحصين، كما يُنظر إلى الدور التركي في سوريا على أنه قاعدة لدور أوسع في الإقليم لا يُتوقع أن يصب في صالح حكومة الاحتلال.
ويبقى الواقع الميداني الذي فرضه الكيان الصهيوني في الجولان عصياً على الإلغاء أو التراجع، كما أن العقوبات المفروضة على سوريا ورقة ضغط مؤثرة قد تدفع دمشق إلى تقديم تنازلات في صالح الكيان الصهيوني، كما تبقى أوضاع الأقليات الدينية في سوريا نقطة ضعف للنظام الحالي، وخاصةً فيما يخص العلاقة الذي أعلنها الصهاينةمع بعض الدروز.
وفي ضوء معطيات الواقع السوري الملتبس، والذي يتسم بديناميكية واضحة ويرتبط بسياقات دولية وإقليمية؛ يبدو من الصعب الجزم بما ستؤول إليه الأوضاع في ظل التنافس بين تركيا والكيان الصهيوني، لكن بالنظر إلى المعطيات المتوفرة يمكن رسم عدة سيناريوهات مُحتملة فيما يخص مآلات وتداعيات التنافس التركي الإسرائيلي في سوريا، وفيما يلي أبرز هذه التصورات:
1- تقاسم مناطق النفوذ: من المُحتمل تقاسم مناطق النفوذ بين تركيا والكيان الصهيوني كما كان الوضع بين الروس والأمريكيين في عهد نظام الأسد، وذلك عن طريق التوصل إلى تفاهمات محكمة وموثوقة تضمن التنسيق بين الطرفين ورسم خرائط النفوذ بما يبعد احتمال وقوع أي خطأ غير مقصود يؤدي إلى نشوب مواجهة لا يرغب بها الجانبان التركي والصهيوني.
وقد انطلقت المباحثات في أذربيجان بغرض التوصل إلى صيغ مُرضية تلبي الحد الأدنى من التوافق بين الطرفين، وتبدو إدارة ترامب داعمة لمثل هذا التصور ومستعدة للوساطة بين الجانبين من أجل تمريره وفقاً لما أعلنه ترامب في لقائه مع نتنياهو يوم 7 إبريل الماضي، حين أكد له استطاعته حل أي خلاف مع أردوغان حول سوريا اعتماداً على علاقته القوية بالأخير. ويُفترض في هذه الحالة أن يراعي الأتراك مخاوف الصهاينة وأن يكونوا ضامنين لعدم تحول سوريا إلى قاعدة لأي عمليات عسكرية ضدها، وقد يتم منحها حرية التحليق وفق تفاهمات ونطاقات يتم التوافق عليها.
2- تمدد تركيا وتقلص النفوذ الصهيوني: من المُحتمل نجاح تركيا في مد نفوذها في سوريا على حساب النفوذ الصهيوني، ويمكن أن يتم ذلك على المدى القصير عبر إبرام اتفاقية دفاع مشترك مع دمشق والإشراف على تسليح الجيش السوري، وقد يشمل ذلك نشر قواعد عسكرية تركية جنوباً أو نصب منظومات دفاع جوي لمنع الطيران الصهيوني من انتهاك المجال الجوي؛ ومن ثم إفشال مخطط المنطقة الجنوبية منزوعة السلاح، ولا يتعارض ذلك مع بقاء القوات الصهيونية في مرتفعات الجولان أو حتى المنطقة العازلة التي استولت عليها بعد سقوط نظام الأسد.
وقد يتم اللجوء إلى إبقاء الوضع الحالي كما هو عليه دون أي تغيير جوهري على المدى القصير، وفي هذه الحالة سيكون الترقب سيد الموقف، ويبقى كل طرف في انتظار تغير الظروف لانتهاز أقرب فرصة لإمالة الكفة لصالحه، وقد يصب هذا الوضع في صالح أنقرة على المدى البعيد؛ إذ يشعر الأتراك أن الوقت في صالحهم بالنظر إلى أن كل يوم يمر يزداد فيه رسوخ الإدارة السورية الحالية والنفوذ التركي بالتبعية.
3- الصدام بين تركيا والكيان الصهيوني: في ظل تداخل ساحات النفوذ، بات من الوارد وقوع صدام عسكري بين الأتراك والصهاينة بسبب زيادة مساحات الاشتباك. وقد أوصت لجنة "ناجل" الصهيونية لفحص ميزانية الدفاع واستراتيجية الأمن، في يناير الماضي، بالاستعداد لمواجهة عسكرية مُحتملة مع تركيا، وحذرت من أن التهديد القادم من سوريا قد يصبح أخطر من التهديد الإيراني، وأن طموحات تركيا قد تؤدي إلى نشوب صراع مع الكيان الصهيوني.
وهناك أصوات في تل أبيب ترى أن المواجهة مع أنقرة على الأراضي السورية أمر لا مفر منه نتيجة محاولة أردوغان المساس بحرية العمل الصهيونية، لكن هذا السيناريو يبدو غير مرجح لأن الطرفين يرفضانه كونه ليس في مصلحة أي منهما. بيد أنه من الوارد أن تحدث مواجهة عسكرية غير مباشرة بين الطرفين وذلك عن طريق دعم أنقرة للسوريين في مواجهة الجيش الصهيوني، فقد حذّر تحليل نشره مركز "ألما" للأبحاث، في فبراير الماضي، من أن الأتراك قد يُقدّمون دعماً مباشراً للجيش السوري الجديد في أي مواجهة محتملة ضدالكيان الصهيوني؛ مما يستدعي منها إعادة تقييم حساباتها العسكرية.
4- تطبيع سوريا العلاقات مع الكيان الصهيوني: في حال أقامت سوريا علاقات مع الكيان الصهيوني سيكون ذلك على حساب النفوذ التركي، فدمشق تسعى جاهدة لرفع العقوبات المفروضة عليها، وتأمين التمويل اللازم لإعادة الإعمار وعودة ملايين اللاجئين من الخارج، والكيان الصهيوني يستطيع المساهمة في كل ذلك، ومن المُحتمل أن تتولى الولايات المتحدة زمام المبادرة للتوسط في هذا المجال.
ومن شأن الحوار الصهيوني المباشر مع الحكومة الانتقالية في دمشق، أن يسفر عن إطار جديد للعلاقات الثنائية يتضمن مثلاً إنهاء حالة الحرب الدائمة، والاتفاق على مجالات التنسيق في منطقة الجنوب السوري، والتعاون ضد محاولات إيران وحزب الله للعودة إلى سوريا ولبنان، والاعتراف بأن مزارع شبعا كانت تابعة لسوريا قبل احتلالها؛ الأمر الذي سيضعف شرعية سلاح حزب الله اللبناني، ويساعد على تسهيل المفاوضات التي استؤنفت مؤخراً حول ترسيم الحدود الصهيونية اللبنانية.
ويسيطر الجيش الصهيوني الآن بالفعل على 460 كيلومتراً مربعاً خلف خط الفصل، وتعهد نتنياهو بفرض نزع السلاح على منطقة شاسعة تمتد حتى طريق دمشق-السويداء السريع، على بُعد 65 كيلومتراً من موقع انتشار جيشه حالياً.
وعلى الرغم من حديث ستيف ويتكوف، مبعوث الرئيس الأمريكي إلى الشرق الأوسط، عن احتمال تطبيع سوريا مع الكيان الصهيوني؛ فإن الاعتداءات الصهيونية على سوريا منذ ديسمبر الماضي أضعفت بشدة أي احتمالية لذلك، على الأقل في المدى القريب؛ إذ أسهمت في حشد الرأي العام السوري بسرعة ضد الكيان الصهيوني. ومع عدم احتمالية تطبيع سوريا العلاقات رسمياً مع الصهاينة، يبقى من المُحتمل تطوير تفاهمات ثنائية تشمل إنهاء حالة الحرب فعلياً، والاتفاق على مجالات تنسيق في جنوب سوريا، بما يحد من وصول النفوذ التركي إلى تلك المناطق.
ختاماً، يمكن القول إنه في ظل وجود سوريا كمنطقة صدام بين الكيان الصهيوني وتركيا، تتعارض مواقف الطرفين وأهدافهما في هذه الساحة بشكل متزايد، فتركيا تريد سوريا مستقرة ومركزية، وتهتم بنجاح المشروع السياسي الحالي، والصهاينة على العكس من ذلك تريد إضعافها وتقسيمها، ويملك كل طرف العديد من أوراق القوة ويستخدمها لفرض إرادته؛ لذا فإن التناطح التركي الصهيوني في سوريا سيكون من أهم المحددات التي سترسم ملامح مستقبل الدولة السورية الوليدة.
ويبدو صراع النفوذ في سوريا غير متكافئ، فبينما تتمتع أنقرة باليد العليا في تلك الساحة، يتبنى الكيان الصهيونيسياسة يصفها البعض بـ"إطلاق النار في كل الاتجاهات"، وتحاول فعل أقصى ما يمكنها لإيجاد توازن في ميزان القوة يمكنها من تقاسم النفوذ مع الأتراك، وتستخدم في هذا الصدد علاقتها القوية مع واشنطن، لكن الموقف الأمريكي لا يبدو مؤيداً لها بشكل واضح في ظل العلاقة الخاصة التي تربط أردوغان بترامب. فالكيان الصهيوني لا يسعى من الأساس لإزاحة أنقرة عن الساحة السورية والحلول محلها، وإن كانت تتمنى ذلك بالتأكيد لكنه غير ممكن وغير منطقي؛ لذا تسعى إلى تقاسم "الكعكة السورية" مع أنقرة، وتكوين حزام أمني يضمن لها بسط نفوذها على الجنوب السوري لتحصين مناطقها الشمالية ودعم مخططاتها في لبنان؛ ومن ثم ترفض امتداد الوجود العسكري التركي إلى وسط سوريا وجنوبها، بينما تتجاهل هذا الوجود في محافظتي إدلب وحلب الشماليتين. وعليه، فإن الفترة المقبلة ستشهد صراعاً للنفوذ بين تركيا والكيان الصهيوني، وسيكون الجنوب السوري الساحة الرئيسية لهذا الصراع؛ مما يقوض الاستقرار في تلك المنطقة، وستصبح الأحداث المحلية هناك محط اهتمام إقليمي ودولي.
المرجع
_ إسلام المنسي، 22/4/2025، إلى أين يتجه التنافس التركي الصهيوني على سوريا؟، المستقبل للابحاث والدراسات الاستراتيجية.
_ ضياء عودة، 4/4/2025، الكيان الصهيوني وتركيا في سوريا.. بين معادلتي التنافس و"الأمر الواقع"، الحرة.