الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاقتصادية الديمقراطية السياسية
فرع بنغازي

يُعتبر مفهوم الديمقراطية أحد أبرز المفاهيم المتداولة على الساحة السياسية الدولية والداخلية طيلة الفترة الماضية، ولعلَّ السبب يرجع إلى بروز العديد من المبادرات التي عملت على ترسيخ وتوسيع دائرة الديمقراطية في العديد من الأنظمة الشمولية في العالم عامةً، وفي دول أوروبا الشرقية وبلدان أمريكا اللاتينية ودول العالم الثالث خاصةً.

وعلى الرغم من كثرة الاستخدام والتسويق لمصطلح الديمقراطية في الوقت الحالي إلا أنَّ هذا المصطلح ليس بجديد، فقد اجمعت العديد من الدراسات على أنَّ أصل مفهوم الديمقراطية يعود بجذوره إلى سقراط وأفلاطون وأرسطو، وإلى التطبيق الأثيني الذي دعي إلى توسيع دائرة الحقوق والحريات بين البشر، وتساوي فرصهم في الحياة والمشاركة  ولكننا نجد أن أصحاب رأس المال والمؤمنون بالنظام الرأسمالي، من سياسيين وباحثين وأكاديميين، يحرصون على حصر الديمقراطية بجانب أحادي هو الديمقراطية السياسية، ويختزلونها بصندوق الانتخابات الذي يقصده المواطنون، كل أربع سنوات أو أكثر، للإدلاء بأصواتهم، وهم تحت تأثيرات مختلفة، مصدرها المدرسة والجامعة والإعلام ومكان العمل وحتى المؤسسة الدينية التي يملكها أو يسيطر عليها كبار المالكين، وتتضافر تلك المؤسسات لتصنيع مواطن طيّع يقتنع بهذه اللعبة، ويتوهم أنه صاحب القرار، وبعد أن يدلي بصوته يذهب إلى بيته وانشغالات حياته، بينما يبقى الفائزون في الانتخابات يتصارعون على السلطة والمكاسب. والنتيجة  أن نجد في كل بلد حزبين، أو أكثر، لا تفترق أهدافهما جوهريًا (مثلًا في أميركا الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي) يتصارعان على السلطة والثروة. إنها ديمقراطية اليوم الواحد، كلّ بضع سنوات. وهذا يعني أن الديمقراطية السياسية الغربية تحتاج إلى إصلاح جذري، كي تصبح ديمقراطية كلّ يوم. وعلى الرغم من أن البلدان المتقدّمة التي تتمتع بديمقراطية سياسية قد حققت تقدّمًا كبيرًا، في القرون القليلة الماضية، وخاصة في القرن العشرين، حيث إن نوعية الحياة فيها أفضل بكثير من بلدان يسودها الاستبداد، وتشريعاتها تنص على العدل والإنصاف والمساواة أمام القانون، والفرص المتاحة أمام الجميع بالتساوي، ويظهر ذلك في ثقافتها وتقاليدها وقيمها إلى حد بعيد؛ فإننا نعلم أن المساواة الحقيقية لا تجتمع مع وجود فروقات كبيرة في الثروة، فمن يملك مالًا أكثر في هذه المجتمعات يملك فرصًا أكبر وقدرة أكبر على التأثير، ممن يملك مالًا أقلّ، أو ممن لا يكاد يملك شيئًا؛ فطبقة الأثرياء -وهي طبقة صغيرة جدًا في أي مجتمع وتصغر كلّما ارتفعت حجوم الثروات- تملك المدارس والجامعات والشركات والأراضي وفرص العمل، وتملك المؤسسات الإعلامية والرياضية والترفيهية، وتملك المحلات التجارية والمدارس والمستشفيات ووسائط النقل والبيوت، أي إنها تملك كل شيء وتتحكم فيه، وهم قلّة. وبناء على ذلك؛ لا يمكن أن تتساوى القدرات ولا الفرص، بين من يملك الكثير ومن لا يملك سوى القليل، أو لا يكاد يملك شيئًا. ولن تكون الفرص متساوية مع تفاوت الثروة، وكلما ازداد التفاوت، اختلت الديمقراطية السياسية وأصبحت عرجاء.

في مجتمعات اليوم، نجد أن الثروات والأموال تتراكم في أيد قليلة، وإن بدرجات متفاوتة، وخاصة منذ ثمانينيات القرن العشرين، بعد تصاعد ملموس لتوزيع الدخل ومستوى العدالة الاجتماعية، بعد الحرب العالمية الثانية حتى سبعينيات القرن العشرين، وقد جاء في تقرير منظمة (أوكسفام) العالمية، في يناير 2020، أن أصحاب المليارات في العالم اليوم يملكون ثروة تفوق ما يملكه 4.6 مليار إنسان. ويقدّم فردٌ واحدٌ كي تكون ثروته ملايين ومليارات الدولارات، بينما قدرات الناس عمومًا تتفاوت بنسبة واحد إلى عشرة، وحتى لو كانت واحد إلى عشرين، فهذا لا يصنع ذلك الفرق. و ما يصنع هذا الفرق هو نظام الملكية وتوزيع الدخل في سوق أنظمتها هي نوعٌ من القمار. المشكلة الأكبر تكمن في أن الناس العاديين الذين يتضررون من حصر الديمقراطية بالجانب السياسي، يتبنون هذا الفهم المجتز للديمقراطية، فلا يربطونها بالجانب الاقتصادي، مع أن تفاصيل حياتهم هي اقتصاد، حيث إن رواتبهم تحدد مستوى حياتهم ونمط مسكنهم ومدرسة أطفالهم وخدماتهم الطبية ووسيلة النقل التي يستخدمونها، وغير ذلك من تفاصيل الحياة اليومية، وكلّ تلك الأمور اقتصاد، فإن توزيع الدخل والعدالة الاجتماعية والديمقراطية الاقتصادية هي أساس حياتهم، وكلما كان توزيع الدخل مختلًا، لصالح فئات أصغر فأصغر تستأثر بجزء كبير من الدخل الوطني؛ كان مستوى عيشهم أدنى، والعكس بالعكس. وعلى الرغم من ذلك، نشاهد ضعف اهتمام الناس بالعدالة الاجتماعية وتوزيع الدخل وبالديمقراطية الاقتصادية. ولكن هل الحل هو إقامة مساواة ميكانيكية بين البشر، في الدخل والثروة، على النحو الذي جرى تطبيقه في النموذج السوفيتي الجواب لا، فقد قامت تجارب المنظومة السوفيتية على سيطرة الدولة على ملكية وسائل الإنتاج وإقامة اقتصاد سوق مقيد ومشوّه، بينما قتلت الديمقراطية السياسية، ثم ثبت أنها تجربة فاشلة تقتل القدرة الإنتاجية للمجتمع، على المدى المتوسط والطويل، وقد كان تحقيق العدالة الاجتماعية على حساب إضعاف القدرة على النمو؛ فكانت عدالة في توزيع الفقر، وقد حدث هذا في سورية أيضًا. النموذج الصيني ليس بديلًا، فهو نظام سياسي شيوعي يبني اقتصاد سوق رأسماليًا متوحشًا، بدون ديمقراطية سياسية، وبدون مجتمع مدني، ومنذ 1978 تراجعت العدالة الاجتماعية في الصين التي أسسها نظامها الشيوعي منذ 1949، ولكن نمت قدرة الصين الإنتاجية بالمقابل. بعد سقوط المعسكر السوفيتي، وكان ذلك السقوط بمنزلة إعلان فشل ذاك النموذج؛ انداحت الرأسمالية الليبرالية بنسختها الأميركية الأكثر تطرفًا، لتعمّم نموذجًا ليبراليًا متوحشًا، قلص حقوق المشتغلين وصغار المالكين، لصالح تعظيم حقوق كبار المالكين. وباتت قوى اليسار في العالم تفتقر إلى بديل واقعي، يحقق عدالة اجتماعية مقترنة بقدرة إنتاجية عالية، وظلّت الحاجة مفتوحة إلى الاجتهاد الفردي والجماعي، وهنا إحدى محاولات الاجتهاد لصياغة تصورٍ لبديلٍ يحقق ديمقراطية حقيقية، تجمع الديمقراطية السياسية بالديمقراطية الاقتصادية وبالعدالة الاجتماعية وحقوق الانسان وبقية قيم المجتمع الحديث، وتقوم على فكرة توسيع مفهوم الديمقراطية، لتشمل الجانب الاجتماعي فيما نسميه “الديمقراطية الاقتصادية”؛ لأن الديمقراطية لا يمكن أن تكون مشطورة، وهي تحتاج إلى جناحين متكاملين كي تبلغ غايتها: جناح الديمقراطية السياسية، وجناح الديمقراطية الاقتصادية.

الديمقراطية الاقتصادية:

الديمقراطية الاقتصادية هي التعبير الاقتصادي عن العدالة الاجتماعية، وهي حجرها الأساس، فمنها تبدأ عدالة توزيع الثروة التي هي أساس أي عدالة، بالرغم من أن مفهوم العدالة الاجتماعية يمكن أن يكون أوسع من مفهوم الديمقراطية الاقتصادية.

نظريًا، تتحقق العدالة الاجتماعية المطلقة، حين ينال كلّ فرد دخلًا يعادل مساهمته في إنتاج “فائض القيمة” أي الدخل، ولكن هذه صورة مثالية، إضافة إلى صعوبة قياس مساهمة كل فرد بخلق الدخل، وبذلك يكون تحقيقها غير ممكن، ولكن يمكن الاقتراب منها تدريجيًا. وهذه فكرة جوهرية في هذا الاجتهاد. ولن ندخل في نقاش حول توزيع الدخل، وهو موضوع خلافي بامتياز، ولكننا سنعطي فكرة عن هذا الخلاف الجوهري. الدخل يتوزع إلى كتلتين رئيسيتين: الأولى هي كتلة أجور المشتغلين؛ والثانية هي كتلة الأرباح التي تأتي من الملكية، سواء أكانت ملكية محل  أم سيارة أجرة أم قطعة أرض صغيرة أو كبيرة، أم ورشة أم مصنع أم شركة كبيرة أو كبيرة جدًا، وسواء كانت ملكية فرد أم بضعة أفراد. ثمة إجماع على أحقية المشتغلين بقبض أجورهم التي هي تعويض عن مساهمتهم في الإنتاج وخلق القيم/ الدخل، بغض النظر عن التفاوت في مستوياتها، بين بلد وآخر وداخل كل بلد، وفروقات الأجور لا تصنع ثروات كبيرة، غير أن الخلاف الجذري يدور حول أحقية أصحاب الأرباح الكبيرة والكبيرة جدًا بأرباحهم، فأصحاب النظرية الليبرالية يعدّون الربح، أيًا كان حجمه، “مكافأة” على إدارة العمل والمساهمة في رأس المال، وعلى المخاطرة والتعرّض لإمكانية الخسارة، غير أن الداعين إلى العدالة الاجتماعية، من قوى اليسار، لا يرون حصول أي فرد على عشرات ومئات الملايين والمليارات من الدولارات مكافأةً وتعويضًا عادلًا، كما يزعم الليبراليون، بل هو استغلال تتيحه قوانين السوق التي هي نوع من القمار. ويرفض دعاة العدالة الاجتماعية مبدأ استعمال المال لجني مال أكثر، لأنه يتحول حينذاك إلى أداة استغلال تحوّل القيم/ الدخل من أيدي المنتجين إلى أيدٍ أخرى لا تستحقها،. بغض النظر عن هذا السجال، فإن أنماط توزيع الدخل بين أجور وأرباح ومستوى تراكم الأرباح، في نظام اقتصاد السوق الرأسمالي، ليست نمطًا وحيدًا، فهناك أنماط وأشكال كثيرة، تختلف فيها العدالة الاجتماعية اختلافًا كبيرًا، فكلنا يعلم اليوم أن مستويات العدالة الاجتماعية في أوروبا الغربية هي أقلّ منها قبل خمسة عقود، وهي اليوم أفضل من العدالة الاجتماعية في الولايات المتحدة، وأن العدالة الاجتماعية وتوزيع الدخل في هذه البلدان الغربية أفضل منها في الصين أو الهند أو إندونيسيا أو بلدان أميركا اللاتينية، وأن العدالة الاجتماعية في البرازيل، إبان حكم الرئيس “لويس أيناسيو لولا دا سيلفا” المعروف بـ “لولا”، قد تحسنت مقترنة بتحسن أداء الاقتصاد، بينما تراجعت بعد ذهابه، وقد انتقم منه كبار أصحاب رأس المال، واتهموه بالفساد وأدخلوه السجن ثم اضطروا إلى الإفراج عنه. والخلاصة أنّ اقتصاد السوق يملك إمكانات مفتوحة لتحقيق مستويات أعلى من العدالة الاجتماعية، وإقامة مستوى أفضل من الديمقراطية الاقتصادية. 

قواعد الديمقراطية الاقتصادية:

تحقيق عدالة أعلى وديمقراطية اقتصادية وعدالة اجتماعية أعلى لن يتمّ دفعة واحدة، بل يكون تدريجيًا، ولن تتحقق عن طريق هيمنة الدولة على الاقتصاد والحياة العامة، بل عبر نشاط المجتمع برمته. ستقوم الديمقراطية الاقتصادية على اقتصاد السوق الحر، حيث سيبقى التملك حرًا بدون قيود، والاستثمار حرًا، والدخول إلى السوق والخروج منه حرًا، وتشكل الأسعار في السوق يبقى حرًا، وفق آلية العرض والطلب، وضمن هذه السوق الحرة، ستعمل قوى الديمقراطية الاقتصادية لتنمية عدالة اجتماعية أعلى، وستعمل من خلال قناتين: الأولى هي زيادة حصة الأجور من الدخل؛ والثانية هي توسيع قاعدة الملكية وزيادة عدد المالكين، وتنمية حصة الملكية المشتركة والجماعية ودورها في عملية الإنتاج وفي التأثير السياسي والاجتماعي.

كلما تزايدت حصة الأجور من كتلة الدخل؛ تراجعت حصة الربح، وكان هذا تعبيرًا عن وصول الدخل إلى أيدي مستحقّيه بمستوى أكثر عدلًا، والعكس بالعكس. وتتوقف حصّة الأجور من الدخل على عوامل كثيرة، منها ندرة قوة العمل أو وفرتها في السوق عمومًا، كما تتوقف على سياسات سوق العمل وتشريعات العمل، وعلى قوة تنظيم النقابات، وقدرتها على التفاوض الجماعي والدفاع عن حقوق المشتغلين، وعلى برامج الأحزاب السياسية، وعلى الثقافة السائدة في المجتمع، وعلى مناهج التعليم، ومدى انتشار قيم العدالة والمساواة في أي مجتمع، وتتوقف قبل ذلك على نسبة قوة العمل المؤهلة وعالية التأهيل والتدريب، من إجمالي قوة العمل التي تحتاج إليها الصناعات والخدمات كثيفة المعرفة وكثيفة رأس المال، وكلما ارتفعت نسبتها؛ ارتفعت حصة الأجور من إجمالي الدخل. ويتم توسيع قاعدة الملكيات المشتركة، فيتحقق من خلال أشكال مختلفة للنشاط الاقتصادي وأشكال التملك ضمن اقتصاد السوق، وتوسيع الشركات المساهمة غير الاحتكارية التي يملكها عدد كبير جدًا من المساهمين، ويجب ان تكون لها سقوف منخفضة لحقوق ملكية الفرد الواحد، وقيام شركات تعاونية تقوم على مبدأ الملكيات المتساوية للعاملين و/أو المساهمين فيها، وتعمل وفق قوانين السوق، وقيام شركات تملكها النقابات العمالية، ويساهم فيها العمال وتملك النقابة حصصًا منها، وشركات تملكها نقابات المهن العلمية بحصص متساوية للنقابيين والنقابة، وتوسيع الجمعيات التعاونية الإنتاجية والاستهلاكية، وتنمية ملكية البلديات وملكية الدولة، ولكن بدور مدروس ومحدود، وغيرها من أشكال الملكية المشتركة التي تعمل جميعها وفق قوانين السوق، لتنمو وتحوز نسبة متزايدة من حجم الملكية في المجتمع، وزيادة حصتها من الأرباح على حساب حصة الملكيات الكبيرة من الأرباح. وينتج التحول الاجتماعي وحتى السياسي، حين تتخطى حصة هذه الأشكال من الملكية المشتركة عتبة 50 بالمئة من الدخل الوطني.

ختاما: لا بد أن تكون الديمقراطية شاملة، ولا يمكن اقتصارها على الديمقراطية السياسية، ويجب أن تكون ديمقراطية سياسية، وديمقراطية اقتصادية، وديمقراطية اجتماعية وديمقراطية ثقافية، تتضافر كلها معًا، لإنتاج ديمقراطية كاملة تتيح إنتاج مواطنة كاملة، عناصرها الثلاثة: العنصر المدني الذي يضم الحريات الفردية؛ والعنصر السياسي ويضم الحريات العامة والحق في المشاركة في الحياة السياسية؛ والعنصر الاجتماعي، ويضم تمتع المواطن بخدمات اجتماعية تجعل حياته لائقة.




 

المراجع:

جوزيف مسعد ، 21.4.2019 ، الديمقراطية الاقتصادية مقابل الديمقراطية السياسية ،عربي 21.

(ميريام الاشقر  ، 13,8،2020, الديمقراطية ، الموسوعة السياسية). 

المقالات الأخيرة