كان مفهوم الشرق الأوسط، وما زال، أحد أكثر المفاهيم السياسية التي تفتقر إلى التحديد. لم يُتفق أبدًا بشكل كامل على مكونات مجاله الجغرافي أو المنطقة التي يشملها. اختلفت البلاد التي تُدرج ضمن الشرق الأوسط من فترة إلى أخرى، ومن خطاب سياسي أو عمل أكاديمي إلى غيره في الفترة نفسها، منذ أن استُخدم للمرة الأولى في مطلع القرن العشرين. والشرق الأوسط في الأساس مفهوم سياسي وليس علميًا أو أكاديميًا ولكنه استُخدم فى كتابات ودراسات وأبحاث كثيرة منذ أن بُدئ فى تداوله.
فقد ضُيق المجال الجغرافي لهذا المفهوم أحيانًا، ووُسع في أحيان أخرى، وفقًا لمقتضيات التطورات السياسية والعسكرية، وحسب خلفيات الكاتب أو الباحث الذي يستخدمه. فهو يمتد من مصر غربًا إلى وسط آسيا شرقًا في أوسع تحديد لمجاله الجغرافي، فيما يقتصر على المنطقة من مصر إلى العراق والسعودية في أضيق تحديد لهذا المجال.
وقد أدى اختلاف مجاله الجغرافي إلى ارتباك في دراسته واضطراب في الأبحاث المتعلقة به. ولعل هذا أمر طبيعي في مفهوم بدأ سياسيًا واستمر كذلك، وتعذر ضبطه وتدقيقه علميًا، فظل مفهومًا سائلًا من حيث مجاله الجغرافي أو المنطقة التي يشملها.
وحاول بعض الباحثين العرب استبدال مفهوم النظام الإقليمي العربي بمفهوم الشرق الأوسط منذ أن نشر جميل مطر وعلي ّ الدين هلال كتابهما "النظام الإقليمي العربي – دراسة في العلاقات السياسية العربية" الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية عام 1979.
ورغم أن مفهوم النظام الإقليمي العربي استُخدم على نطاق واسع في الكتابات والخطابات العربية الأكاديمية والسياسية على حد سواء، لم يُقدر له الذيوع على المستوى الدولي. وبقي مفهوم الشرق الأوسط هو المُستخدم دوليًا، إلا فيما قل أو ندر، سواء في الخطابات السياسية أو في الكتابات الأكاديمية.
ورغم افتقار هذا المفهوم إلى الضبط والتحديد الدقيق لمجاله الجغرافي، كانت المنطقة المقصوده بتعريفاته المختلفة أكثر مناطق العالم إثارة للاهتمام السياسي والشغف العلمي. كانت هذه المنطقة التي يدل عليها والمُختلف على تحديدها بدقة، مسرحًا مستمرًا للصراعات والحروب. وهي أيضًا أكثر المناطق التي يشمل الاهتمام بها محاولات لتغييرها، بعد منطقة شرق أوروبا التي استهدفتها دول الغرب في مرحلة الحرب الباردة الدولية التي انتهت بتغييرها جذريًا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي السابق الذي سيطر عليها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى آخر ثمانينات القرن العشرين.
في سياق ما سبق، تبحث هذه المقالة في أصل مفهوم "الشرق الأوسط"، وتطوراته، ومناقشة أبرز التحولات التي طرأت عليه، وصولًا لمشروع الهيمنة المُسمى بـ"الشرق الأوسط الجديد" من حيث تحليل مغزاه وأهدافه، ومساعي وسبل تدشينه، والتي كان آخرها اتباع نهج الإبادة الجماعية تحت ذريعة الدفاع عن النفس.
أصل مفهوم الشرق الأوسط
يُدرس مفهوم الشرق الأوسط، والمنطقة الجغرافية التي يدل عليها أيًا تكن حدودها ضمن دراسة العلاقات الدولية باعتباره نظامًا إقليميًا Regional System، أو نظامًا دوليًا تابعًا International Subordinate System. استُخدم هذا المفهوم في الدراسات الأكاديمية منذ ستينات القرن العشرين، وشاع استخدامه منذ سبعينات القرن نفسه. وكان أستاذا العلاقات الدولية "لويس كانتوري"، و"ستيف شبيجل" أول من شرعا في تأصيله. وكان استخدامه أكاديميًا على هذا النحو تاليًا لاستعماله في الخطابات السياسية بنحو ستة عقود على الأقل. فقد بُدئ في استخدامه سياسيًا في مطلع القرن العشرين في الخطاب السياسي لبعض المسئولين السياسيين الغربيين، وخاصة البريطانيين. ومع ذلك يوجد ما يدل على أن أول ذكرٍ له كان في ستينات القرن التاسع عشر من قبل "إدارة الهند البريطانية" التي أُنشئت للإشراف على عملية إدارة الهند حين كانت تحت الاحتلال الإنجليزي، وتوسع نطاق عملها بعد ذلك فشمل معظم بلدان شبه القارة الهندية.
ويعني هذا أن مفهوم الشرق الأوسط سُك في إطار تفاعلات سياسية خلال مرحلة الاستعمار الأوروبي للمنطقة التي يدل عليها، وأن الباحثين والدارسين وجدوه مُستخدمًا فحاولوا تأصيله وضبطه. فقد استُخدم هذا المفهوم في الأصل بدلًا من مصطلح الشرق الأدنى الذي ظهر منذ القرن الخامس عشر خلال فترة الكشوف الجغرافية، في الوقت الذي أُطلق مصطلح الشرق الأقصى على الصين والهند وغيرهما من بلدان شرق آسيا ووسطها. وبعد أن ذُكر تعبير الشرق الأوسط بشكل مكرر في أحاديث مسئولين بريطانيين وغربيين آخرين، في العقد الأول من القرن العشرين، أُنشئت إدارة الشرق الأوسط التابعة لوزارة المستعمرات البريطانية عام 1921 حين كان ونستون تشرشل وزيرًا لها. ولكن مجال عملها اقتصر على فلسطين وشرق الأردن والعراق.
وهذا هو التحديد الأضيق نطاقًا على الإطلاق لتعبير الشرق الأوسط الذي استُخدم في تلك الفترة للدلالة على البلدان التي تقع بين شرق البحر المتوسط وأوروبا وهي سوريا ولبنان وفلسطين والعراق وشبه الجزيرة العربية وتركيا ومصر. ولم يشمل حينذاك، وما زال في معظم استخداماته، دول شمال إفريقيا باستثناء مصر. وظل استبعاد معظم هذه الدول مستمرًا بعد ذلك. وعندما ازدادت محاولات تغيير الشرق الأوسط وإدماج "إسرائيل" فيه عقب اتفاق أوسلو الفلسطيني-الإسرائيلي عام 1993، استُخدم تعبير "الشرق الأوسط وشمال إفريقيا MENA".
وهكذا تعذر ضبط مفهوم الشرق الأوسط من الناحية الجغرافية، وظل مستخدموه يُدخلون فيه دولًا ويُخرجون أخرى منه حسب خلفياتهم ورؤاهم وأهدافهم، سواء كانوا سياسيين ممارسين أو دارسين وأكاديميين.
ولنضرب مثلًا بمؤسسة دولية هي المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، وثانية أكاديمية هي المعهد الملكي البريطاني للعلاقات الدولية "تشاتام هاوس". يشمل قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مفوضية حقوق الإنسان كل الدول العربية منقوصًا منها السودان وموريتانيا والصومال وجيبوتى واليمن، ومضافً إليها إيران و"إسرائيل". أما نطاق الشرق الأوسط في مطبوعات المعهد الملكي البريطاني فيشمل مصر وسوريا ولبنان والأردن والعراق ودول الخليج العربي وإيران وقبرص وتركيا و"إسرائيل" والسودان.
الشرق الأوسط في ظل التقسيم الاستعماري
بدأ الصراع على المنطقة التي يُطلق عليها الشرق الأوسط، أو قُل إنه تنامى، عقب هزيمة الدولة العثمانية التي كانت تسيطر على معظم وحداته في الحرب العالمية الأولى، بل قبيل هذه الهزيمة. فقد تحركت بريطانيا وفرنسا سعيًا إلى وراثة مكونات الدولة العثمانية خلال الحرب وليس عقب انتهائها عبر المفاوضات بين وزيري خارجيتهما "مارك سايكس"، و"جورج بيكو". وركزت تلك المفاوضات على منطقة المشرق العربي. وبعيدًا عن تفاصيل لا محل لها هنا، توقعت الدولتان، ومعهما روسيا في البداية (قبل ثورة أكتوبر 1917 البلشفية) هزيمة الدولة العثمانية، وشرعتا مبكرًا في تقسيم "تركتها" في المشرق العربي. وبُذرت إبان تلك المفاوضات البذرة الأولى لصراع ممتد وعميق على فلسطين حين دعمت بريطانيا الأطماع الصهيونية فيها. وكانت زراعة كيان إسرائيلي في قلب المنطقة التي يُطلق عليها الشرق الأوسط، بغض النظر عن تحديد مجالها الجغرافي، العامل الرئيسي وراء حجز تقدم هذه المنطقة وتصاعد الصراعات فيها وغلق الطريق أمام نهوضها وازدهارها.
وفضلًا عن الصراع الممتد على فلسطين وامتداداته والتحولات التي مر بها والحروب التي ترتبت عليه حفلت المنطقة بأزمات وصراعات ومعارك كان لوجود كيان صهيوني مزروع في قلبها آثار متفاوتة في نشوب بعضها وتفاقم البعض الآخر. وارتبط وجود هذا الكيان الاستعماري الاستيطاني الإحلالي بمصالح تفاوت مداها واختلفت طبيعتها من فترة إلى أخرى، وصولًا إلى ما يُطلق عليه "تغيير الشرق الأوسط" من أجل دمج "إسرائيل" في المنطقة العربية ودفع دولها إلى التعامل معها كما لو أنها دولة طبيعية في إطار ما يُسمى تطبيع العلاقات. وتندرج محاولات هذا التغيير في إطار مشاريع لإقامة ما يُطلق عليه القائمون بها شرق أوسط جديد بُدئ في التخطيط له عقب توقيع معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية في مارس 1979.
ضبابية "الشرق الأوسط الجديد" ووضوح هدفه
إذا كان مفهوم الشرق الأوسط بدأ مرتبكًا فضفاضًا، وظل كذلك، فقد وُلد مشروع الشرق الأوسط الجديد بطريقة هُلامية جعلته أكثر ارتباكًا. ولكن ضبابية هذا المشروع لا تحول دون وضوح هدفه، وهو دمج "إسرائيل" وهيمنتها على المنطقة بالمشاركة مع الولايات المتحدة، ومحاولة إضفاء طابع إيجابي زائف على السعي إلى تغييرها. وكأن المنطقة، التي حال زرع "إسرائيل" فيها دون تغييرها إلى الأفضل، فانتقلت من السيئ إلى الأسوأ، يُراد للكيان الذي تسبب في ذلك أن يُغَّيرها ويأخذها في اتجاه يناقض تطلعات شعوبها وأحلام أجيال توالت عليها، ولكنه صار مقبولًا من عدد متزايد من نظم الحكم فيها من أجل حماية نفسها بغض النظر عن المصالح الوطنية لدولها وشعوبها.
ومنذ آخر سبعينات القرن الماضي، وحتى منتصف عشرينات القرن الحالي، استمرت محاولات تغيير المنطقة في اتجاه ما يُسمى شرق أوسط جديد تقوده "إسرائيل"، إما باستغلال تطورات قادت إلى اتفاقات سلمية أو بشن حروب إسرائيلية أو أمريكية.
بدأت هذه المحاولات، أو قل ظهرت إرهاصاتها، خلال زيارة وزير الخارجية الأمريكي الأسبق "ألكسندر هيج" للمنطقة في أبريل 1981، عندما دعا إلى توسيع نطاق "السلام المصري-الإسرائيلي" وإبرام اتفاقات بين دول عربية أخرى و"إسرائيل" يتبعها تعاون كامل على أسس جديدة لتغيير وجه المنطقة. فقد تصور "هيج" وقتها أن الباب بات مفتوحًا لتغيير الشرق الأوسط بعد المعاهدة المصرية-الإسرائيلية واقتداءً بها رغم أنها لا يصح أن تكون نموذجًا يُحتذى لأىٍ من الدول العربية التي لم تدخل في حروب مع "إسرائيل" ولا حاجة موضوعية بالتالي لأن تُبرم اتفاقات معها.
ولعل مبادرة ولي العهد السعودي حينذاك الأمير فهد بن عبد العزيز كانت ردًا ضمنيًا أو غير مباشر على تلك الدعوة، التي قوبلت برفض واضح وشديد من جانب القوى الحية في المجتمعات العربية وبعض حكومات دول المنطقة، وبنفور من جانب حكومات أخرى. كان الأمريكيون شديدي الاهتمام بدور الولايات المتحدة في تمكين "إسرائيل" من الاندماج في المنطقة والهيمنة عليها، أي تغيير الشرق الأوسط. وعندما فشلوا فى إقناع دول عربية أخرى بتوقيع "اتفاقات سلام" معها، وأدركوا عدم إمكانية البناء على المعاهدة المصرية-الإسرائيلية، راهنوا على الاجتياح الإسرائيلى للبنان وحصار بيروت في صيف 1982. وحاولوا استغلال هزيمة المقاومة الفلسطينية ومغادرة مقاتليها لبنان لهذا الغرض. فقد اعتقدوا، فيما يبدو، أن ثمة فرصة لعقد "اتفاق سلام" بين لبنان و"إسرائيل". ولكن ظهور مقاومة لبنانية جديدة مدعومة من إيران وسوريا بسرعة أحبط رهانهم، ولعلهم تأكدوا من ذلك عندما قُصفت سفارة الولايات المتحدة لدى لبنان في أبريل 1983 ثم مقر مشاة البحرية الأمريكية "المارينز" في بيروت في أكتوبر من العام نفسه.
ولذا بقي مشروع الهيمنة المسمى تغيير الشرق الأوسط كامنًا لأكثر من عقد من الزمن، وإن تجلى جزئيًا في مشاريع غربية مثل عملية برشلونة للتعاون المتوسطي، التي كان من أهدافها دمج "إسرائيل" في المنطقة توطئة لفرض هيمنتها عليها.
محاولات إقامة "شرق أوسط جديد"
أتاح اتفاق إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي المعروف باتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية و"إسرائيل" فى سبتمبر 1993 فرصة لتحرك تعذر مثله عقب المعاهدة المصرية-الإسرائيلية قبله بنحو 14 عامًا.
فقد طرح وزير الخارجية الإسرائيلى حينذاك "شيمون بيريز" تصورًا شبه متكامل لإقامة ما سماه شرق أوسط جديد في كتابه الصادر عام 1994 تحت عنوان "الشرق الأوسط الجديد". يقع الكتاب في 230 صفحة من القطع الصغير. ويقدم "بيريز" فيه تصورًا لدمج "إسرائيل" في المنطقة وفرض هيمنتها عليها عن طريق إقامة "علاقات سلمية مع الجيران" تقود إلى نظام إقليمي على غرار الاتحاد الأوروبي، ولكنه يقوم على التكامل بين "العقل الإسرائيلي ورأس المال والعمل العربيين"، وتكون "إسرائيل" في قلبه محركًا وموجهًا وقائدًا على كل صعيد من ضمان الأمن والاستقرار الإقليمي إلى التعاون في مجالات عدة حدد أهمها في الفصول من الثامن إلى الحادي عشر مثل المياه والبنى التحتية، والطاقة، والسياحة وغيرها.
فقد تصور "بيريز"، وغيره من الإسرائيليين وحلفائهم في الغرب، أن الوضع بات مواتيًا لمشروع الهيمنة بعد أن وقعت منظمة التحرير اتفاقًا معيبًا سلمت فيه أوراقها كلها، ولم تحصل سوى على سلطة شكلية تحولت تدريجيًا إلى رصيد للاحتلال الذي بقي وتحرر في الوقت نفسه من التزامات السلطة القائمة بالاحتلال قانونيًا وسياسيًا واقتصاديًا، بعد أن أصبح فى إمكان المحتلين الزعم بأن قواتهم انسحبت من مناطق ظلت تحت سيطرتها فعليًا.
وازدادت قوة الدفع لمشروع الهيمنة على المنطقة بعد توقيع المعاهدة الأردنية-الإسرائيلية "اتفاق وادى عُربة" في أكتوبر 1994. فقد توسع نطاق التفاعلات التي استهدفت تحقيق ذلك المشروع، وكان أهمها في اجتماعات ولقاءات لدول المنطقة التي أُطلق عليها الشرق الأوسط وشمال إفريقيا "MENA" وأخرى غير رسمية عقدها عدد قليل للغاية من المثقفين والسياسيين العرب مع إسرائيليين سعوا إلى خلق شبكات لتطبيع العلاقات. غير أن هذا التحرك الذي بدأ قويًا قوبل بقوة أكبر بسبب الرفض الشعبي العارم في مختلف الدول العربية، والتمسك بمبدأ رفض التطبيع ومقاومته، وتحفظ حكومات عربية بما في ذلك الحكومة المصرية التي سبق وأن وقعت اتفاقًا مع "إسرائيل" في عام 1979.
وكان الانتشار الواسع لقصيدة "المهرولون" التي كتبها الشاعر السوري الراحل نزار قبانى ووجَّه فيها نقدًا قويًا لما سماَّها الهرولة نحو "إسرائيل"، دليلًا على قوة الموقف الرافض لمشروع الهيمنة المُسمى بالشرق الأوسط الجديد. فقد بدت كلماتها كما لو أنها طلقات نار مدوية منذ بدايتها "سقطت آخر جدران الحياء وفرحنا ورفعنا/وتباركنا بسلام الجبناء" وحتى ختامها "ليس هذا الثوب ثوبي/ليس هذا العار عاري".
وربما كان إخفاق تلك المحاولة لتغيير المنطقة بواسطة "السلام" دافعًا إلى تجريب السعي إلى هذا التغيير عن طريق الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على العراق عام 2003 بعد وصول المحافظين الجدد إلى الحكم في إدارة جورج بوش الابن. فقد حاولوا تطبيق مشروع "برنارد لويس" لإحداث هذا التغيير، فتبنوا مفهومه بشأن "الفوضى الخلاقة" في المنطقة، أي خلق أو دعم اضطرابات داخلية في بعض بلدانها العربية سعيًا إلى إسقاط نظم الحكم فيها واستبدالها، على أن تكون البداية في العراق.
ولكن الحرب على العراق لم تنجح في تحقيق ما لم يُحققه "السلام" مع منظمة التحرير. فقد أُسقط نظام "صدام حسين"، ولكن النظام الذي خلفه لم يكن أقل منه رفضًا لإقامة علاقات مع "إسرائيل"، بل أصبح مع الوقت أحد أكثر نظم الحكم العربية التي تتخذ موقفًا واضحًا ضد فرض الهيمنة الإسرائيلية تحت شعار إقامة شرق أوسط جديد.
الإبادة كوسيلة للتغيير
كان طبيعيًا، والحال هكذا، أن يفشل مشروع الهيمنة على المنطقة بعد تجريب وسائل سلمية وأخرى عسكرية تقليدية إلى أن غيرت إدارة دونالد ترامب الأولى في عام 2020 هذا المنهج، واستغلت استعداد بعض الحكومات العربية لإقامة علاقات مع "إسرائيل" فتحركت عبر مزيج من الحوافز والضغوط وتمكنت من تحقيق ما سعت إليه. فقد وُقعت في ذلك العام ثلاث اتفاقات بين كل من الإمارات والبحرين والمغرب في جانب، و"إسرائيل" في الجانب الثاني. ولم يمهلها الوقت لإبرام الاتفاق الأكثر أهمية على الإطلاق بين السعودية و"إسرائيل".
ولكن قبل إجراء انتخابات عام 2024 الأمريكية التي ترشح فيها ترامب، سُنحت فرصة لاستخدام وسيلة أخرى عقب هجوم 7 أكتوبر 2023، الذي زلزل أركان "إسرائيل" وحلفائها، وهي شن حرب إبادة شاملة في قطاع غزة، وأخرى جزئية في الضفة الغربية ولبنان، سعيًا للقضاء على قوى المقاومة التي يعتقد الإسرائيليون وحلفاؤهم أنها العائق الرئيسي، بل الوحيد أمام مشروع الهيمنة رغم أن بضعة حكومات عربية بقيت ما بين رافضة له أو متحفظة عليه. وبدت الفرصة أكبر عقب إسقاط نظام بشار الأسد في آخر عام 2024، وإقامة نظام جهر منذ أيامه الأولى بأنه لا يعتبر "إسرائيل" عدوًا ولا يريد مواجهتها، ولم يستطع فعل شئ إزاء توغلها في سوريا وسيطرتها على المنطقة التي كانت عازلة وتجاوزها أيضًا.
ولكن أهم ما تختلف فيه المحاولة، التي ما برحت مستمرة عند كتابة هذه المقالة، عن سابقاتها، أنها تعتمد على شن حرب إبادة من ناحية، وترويج سردية الدفاع عن النفس من ناحية ثانية، وتغير مواقف حكومات عربية صارت مستعدة لقبول الهيمنة الإسرائيلية من ناحية ثالثة، وإضعاف قوى المقاومة من ناحية رابعة.
ولكن هذا قد لا يكفي لكي تحقق المحاولة التي بدأت في أكتوبر 2003، واستمرت حتى إعداد هذه المقالة للنشر، ما فشلت فيه سابقاتها وخاصة أن الاتجاه الغالب في المجتمعات العربية ظل رافضًا للهيمنة الإسرائيلية، وكذلك حكومات عربية تتخذ مواقف قوية ضد تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة ولا تقبل وضع المنطقة تحت هيمنة "إسرائيل".
المصدر: مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
الكاتب : د. وحيد عبد المجيد
التاريخ : 10/6/2025
--------------------------------------------------
المصدر: الجزيرة نت
الكاتب : أحمد الدبش
التاريخ : 16/2/2025