وجَّهت وكالة استخبارات الدفاع الأمريكية – في تقريرها لتقييم التهديدات العالمية، الصادر في 21. 5 .2025 – اتهامات لروسيا بتطوير قدرات نووية جديدة، من خلال توظيف صواريخ جو–جو مزودة برؤوس نووية، بالإضافة إلى أنظمة نووية حديثة أخرى، كما أشار التقرير إلى نية روسيا الاحتفاظ بمخزون نووي يضم رؤوساً حربيةً إستراتيجيةً منتشرةً، ورؤوساً حربيةً غير إستراتيجية.
وتأتي هذه الاتهامات في سياق تزايد المخاوف الغربية من التهديد الروسي، في ظل توسع موسكو في أدوات الردع، بالتزامن مع التوترات على خلفية الحرب الروسية–الأوكرانية، وغياب الحوار المستمر مع الغرب، فضلاً عن تعثُّر اتفاقيات الحد من التسلُّح النووي. وفي هذا الصدد، يبدو أن روسيا تتجه نحو خلق معادلات جديدة للردع، قد تفتح الباب مستقبلاً لسباق نووي متعدد الأبعاد.
دوافع عديدة
ثمة جملة من العوامل المُفسِّرة للاتهامات الأمريكية لروسيا بتطوير قدرات نووية جديدة، وهو ما يتضح على النحو التالي:
1– اتجاه روسيا نحو تعزيز وتنويع القدرات النووية التكتيكية: كشف تقرير وكالة استخبارات الدفاع الأمريكية، أن روسيا تعمل على توسيع قدراتها النووية بإضافة أنظمة جديدة تشمل صواريخ جو–جو. وفي حين لم يُسَمِّ التقرير أو يصف صاروخاً محدداً، رجَّحت تقديرات دفاعية أن يكون الصاروخ المعني نسخة من صاروخ R–37M جو–جو بعيد المدى، الذي دخل الخدمة في القوات الجوية الفضائية الروسية برأس حربي تقليدي في عام 2014، ويُعتقَد أن بعض النسخ منه قادرة على حمل رأس نووي.
ويُعَد صاروخ R–37M هو صاروخ AAM فائق السرعة بعيد المدى، وهو نسخة حديثة من صاروخ K–37 (Izdeliye 610) البعيد المدى المخصص لتسليح النسخة المتقدمة من طائرة "MiG–31 Foxhound" الاعتراضية. ويتميَّز هذا الصاروخ بمدى يصل إلى نحو 300 كم، وتبلغ السرعة القصوى له نحو 6 ماخ، ويمكن أن يتحمَّل ما يصل إلى 8 جي أثناء المناورة.
وبجانب ذلك، كشف التقرير عن احتفاظ موسكو بترسانة نووية ضخمة تشمل ما يُقدر 155 رأس حربي إستراتيجي منشور، بالإضافة إلى ما يصل إلى 2000 رأس حربي غير استراتيجي. وفي هذا الإطار، يبدو أن التحديث الروسي للترسانة النووية يأتي أداةً لتعويض الخلل في التوازن التقليدي مع حلف الناتو، خاصةً في ظل استنزاف القوات الروسية البرية على مدار ما يزيد عن ثلاثة أعوام منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا في فبراير 2022.
2– تحرُّك روسيا نحو امتلاك قدرات مضادة لقاذفات الشبح الأمريكية: لم يصدر تعليق رسمي من روسيا رداً على اتهامات الولايات المتحدة بشأن إعدادها تقنيات نووية جديدة. وقد قدَّم تقرير الاستخبارات الأمريكية دوافع عامة لهذا التوجه في إطار الصراع مع حلف الناتو، إلا أن بعض التقديرات الدفاعية الغربية رجَّحت أن يكون دافع موسكو من تطوير قدراتها الصاروخية النووية تحديداً، هو التهديد المتصوَّر من القاذفة الشبحية الأمريكية الجديدة B–21 Raider، التي تتمتع بقدرات تَخَفٍّ استثنائية، تسمح لها باختراق البيئات العالية الخطورة بشكل مستقل، وتحول دون رصدها من قِبل رادارات التوجيه التقليدي.
وتعمل هذه القاذفة جنباً إلى جنب مع أنظمة بدون طيار، كما أن لديها القدرة على التحكم في أسراب الطائرات بدون طيار في الحروب المستقبلية. وفي السياق ذاته، قد تكون الصواريخ الروسية البعيدة المدى بشكلها الحالي، مثل R–37، غير فعَّالة ضد هذه القاذفة الأمريكية الجديدة، خاصةً في بيئات التشويش والإجراءات المضادة المتقدمة.
3– التحول نحو الفضاء كساحة للردع النووي والتنافس مع الغرب: أكد تقرير وكالة استخبارات الدفاع الأمريكية أن روسيا تعطي الأولوية لتطوير ونشر أنظمة فضائية مضادة قادرة على تدمير الأقمار الصناعية الغربية خلال عام 2026. ومن هذه الأنظمة قمر صناعي قادر على حمل جهاز نووي. وبالتزامن مع ذلك، تُطوِّر روسيا ترسانة من الأسلحة الفضائية غير النووية المضادة، ومنها الليزر، وصاروخ مضاد للأقمار الصناعية يُطلَق من الأرض، وأنظمة الحرب الإلكترونية؛ وذلك على الرغم من القيود المفروضة على العديد من برامج الفضاء الروسية؛ بسبب العقوبات الدولية، فضلاً عن تحدي الأولويات المتنافسة ضمن جهود التحديث العسكري الأوسع نطاقاً لروسيا.
وتعكس هذه التحولات منطقاً جديداً في الردع النووي الروسي، يقوم على نقل أدوات الردع إلى الفضاء، على نحوٍ يتيح لموسكو مجالاً أوسع من المناورة والضغط على الدول الغربية، وكذلك تخطي التوظيف التقليدي للطاقة النووية، خاصةً أن روسيا استخدمت حق الفيتو في مجلس الأمن ضد قرار أمريكي لتأكيد الالتزام بمعاهدة الفضاء الخارجي لعام 1967، التي تنص على حظر وضع الأسلحة النووية وأي نوع من أسلحة الدمار الشامل الأخرى في الفضاء. وتحذر الولايات المتحدة من أن مثل هذه القدرات الفضائية الجديدة، من شأنها أن تُشكل تهديداً للبنية التحتية الفضائية لآلاف الأقمار الصناعية التابعة للدول والشركات حول العالم.
4– حرص روسيا على توسيع نطاق انتشارها النووي إلى بيلاروسيا: أشار تقرير وكالة الاستخبارات الأمريكية إلى أن روسيا تُوسِّع نطاق انتشارها النووي ليشمل بيلاروسيا، في خطوةٍ تعكس تصعيداً خطيراً في التوظيف الإقليمي للردع النووي. وقد عملت روسيا على تحقيق ذلك من خلال إنشاء قدرات صاروخية وطائرات نووية، وتجديد موقع لتخزين الأسلحة النووية في بيلاروسيا، وتدريب الطواقم البيلاروسية على التعامل مع الأسلحة النووية التكتيكية.
ويندرج هذا التوجه العسكري الروسي تحت رؤية أوسع إزاء بيلاروسيا كحليف رئيسي لموسكو باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من حضارة روسية واحدة وتاريخ مشترك. ويأتي نقل القدرات النووية الروسية إلى بيلاروسيا في سياق مساعي موسكو إلى استخدام معاهدة الاتحاد مع بيلاروسيا لتوسيع سيطرتها السياسية والعسكرية عليها، والحفاظ على عمق استراتيجي في مواجهة حلف الناتو، خاصةً في ضوء الموقع الاستراتيجي لبيلاروسيا على طول الحدود الشمالية لأوكرانيا؛ ما يجعلها الأنسب لتصبح مركزاً لوجستياً ومنطقةً عازلةً مقابل حلف الناتو.
مسارات محتملة
في ضوء الاتهامات الأمريكية لروسيا بتطوير قدرات نووية جديدة، وتصاعد مخاوف الغرب بشأن هذا الأمر، فإن هناك مسارات محتملة للتحرك الروسي، يمكن توضيحها عبر ما يلي:
1– تطوير قدرات الردع النووي كبديل عن المواجهة المباشرة مع الناتو: من المرجح أن تواصل روسيا تطوير قدراتها النووية على نحوٍ يُمكِّنها من أن تُشكِّل "تهديداً وجودياً مستمراً" للغرب بقوتها النووية الاستراتيجية التي يمكنها أن تصل بالفعل إلى مدى الأراضي الأمريكية. ويرجع ذلك إلى إدراك القيادة الروسية أنها لا تستطيع الانتصار في مواجهة عسكرية تقليدية مع حلف الناتو؛ ما يدفعها إلى التركيز على الردع النووي بجانب قدرات الردع غير التقليدية، مثل التهديدات السيبرانية والحملات الإعلامية.
2– استبعاد الاستخدام المباشر للأسلحة النووية في الحرب مع أوكرانيا: تشير المؤشرات الاستخباراتية الأمريكية إلى أنه من المستبعَد أن تستخدم روسيا الأسلحة النووية بشكل مباشر في الحرب الروسية–الأوكرانية، أو حتى في صراعها الأوسع مع الغرب، ما لم ترَ القيادة الروسية أنها تُواجه تهديداً وجودياً لبقاء نظام الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين"؛ فعلى الرغم من تصعيد وتكرار استخدام خطاب التهديد النووي وإجراء مناورات عسكرية نووية بصفة دورية منذ بداية الحرب الروسية–الأوكرانية، فإن هذا التوظيف يأتي في إطار محاولة لترسيخ ما وصفته واشنطن بـ"الردع بالخوف". وتستهدف روسيا من هذا النهج تخويف الغرب من الانخراط في مواجهة عسكرية مباشرة مع موسكو، في ظل قدراتها المتزايدة على التصعيد النووي.
3– إمكانية توسيع أدوات الردع غير النووي في حال التصعيد مع الغرب: على الرغم من اعتماد روسيا الرئيسي على ترسانتها النووية لتأمين الردع الاستراتيجي، فإنها تحتفظ بخيارات تصعيد متعددة خارج الإطار النووي المباشر يُمكن استخدامها كأدوات ضغط تكتيكي من دون الحاجة إلى مواجهة تبعات استخدام الأسلحة النووية. وهناك احتمالية بأن تتجه البلاد نحو استخدام أدوات ردع غير نووية، خاصةً برامج الحرب الكيميائية والبيولوجية، إذا تعرضت لضغوط عسكرية أو سياسية متصاعدة تدفعها نحو استخدامها.
وختاماً، تكشف الاتهامات الأمريكية لروسيا بتطوير قدرات نووية جديدة عن تحول في العقيدة النووية الروسية ومعادلات الردع الاستراتيجي. ولا يقتصر هذا التحول على طبيعة الأنظمة النووية المستخدمة، بل يمتد إلى توسيع النطاق الجغرافي للانتشار النووي على حدود الناتو، بالإضافة إلى تعزيز الاستخدام الوظيفي للتقنيات النووية غير التقليدية في الفضاء، مع تكثيف الخطاب النووي التصعيدي كأداة تهديد استباقي للردع بالخوف. ومع ذلك، يظل من غير المرجح أن تلجأ موسكو إلى التصعيد النووي المباشر ما لو تواجه تهديداً وجودياً. ومن ثم، فإن التصعيد النووي الروسي يستهدف إعادة تشكيل منظومة الردع، وليس ذلك فقط، بل يُعَد أداة ضغط للمناورة مع الغرب وضبط آفاق التصعيد الغربي المضاد.
المراجع :
نور محمد ،27.5.2025، ما أبعاد الاتهامات الأمريكية لروسيا بتطوير قدرات نووية جديدة؟،انترريجونال.
أحمد جلال عبده ،10.12.2022، السياسة الأمريكية تجاه التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا وانعكاساتها على حلف الناتو، مجلة السياسة الدولية.