على الرغم من المساعي الأوروبية المتواصلة منذ العام 2022 للانفصال التدريجي عن الغاز الروسي، أظهرت الأرقام الأخيرة ارتفاعاً ملحوظاً في الكميات المتدفقة من هذا الغاز إلى أوروبا عبر أنبوب "ترك ستريم" (السيل التركي). فقد تحوّل هذا الخط، في ظل الانقطاعات والتوترات الجيوسياسية، إلى المسار الرئيسي الوحيد لتصدير الغاز الروسي غير المسال نحو دول جنوب ووسط أوروبا. ويعكس هذا الواقع تناقضاً بين الأهداف المعلنة للاتحاد الأوروبي واستمرار الاعتماد الفعلي على المورد الروسي.
عوامل داعمة
يمكن إرجاع الظروف التي ساعدت على بروز خط ترك ستريم إلى جملة من العوامل الجيوسياسية والتقنية المتداخلة:
1- تقديم بديل إستراتيجي بعد انهيار المسارات الشمالية: أدى توقف خطي نوردستريم 1 و2 في عام 2022 إلى إغلاق فعلي للمسارات الشمالية لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا. ومع تراجع موثوقية هذا المحور بسبب أعمال التخريب وغياب الدعم السياسي الألماني، أصبح ترك ستريم الخيار الوحيد المتبقي لنقل الغاز الروسي إلى دول الاتحاد الأوروبي. وقد ازدادت أهمية هذا الأنبوب بعد وقف خط الترانزيت الأوكراني، حيث لم يبقَ سوى ترك ستريم كحلّ فعال. وقد استثمرت روسيا سياسياً واستراتيجياً في ترك ستريم لتعويض خسائرها من انهيار البنى التحتية في الشمال، في وقت لم تُظهر فيه أوروبا استعداداً لإعادة تأهيل نوردستريم 2، رغم الحديث الأمريكي عن احتمال العودة إليه في سياق اتفاق سلام محتمل.
2- حيادية تركيا كدولة عبور خارج الاتحاد الأوروبي: تُعد تركيا دولة غير عضو في الاتحاد الأوروبي، وهو ما منحها موقعاً مثالياً كوسيط لا يخضع لضغوط تشريعات الطاقة الأوروبية الصارمة. واستثمرت روسيا في هذه الميزة، فحوّلت تركيا إلى بوابة عبور مضمونة للغاز إلى جنوب أوروبا ووسطها، بعيداً عن الخلافات السياسية المباشرة مع بروكسل. وقد وصفت بعض التحليلات التعاون في مجال الطاقة بين الروس والأتراك بأنه "استراتيجي"، وظهرت تركيا كضامن للتدفق المستقر للغاز، مستفيدة من علاقاتها الجيدة مع روسيا من جهة، وعدم انخراطها الكامل في سياسة العقوبات الغربية من جهة أخرى. هذا الموقع الجيوسياسي الحساس منح ترك ستريم بعداً لا يتوفر في مسارات أخرى.
3- البنية التحتية الجاهزة والربط مع جنوب شرق أوروبا: يمتد أنبوب ترك ستريم بطول 930 كلم تحت البحر الأسود من أنابا الروسية إلى كييكوي التركية، ليتصل بعدها بشبكة أنابيب تمتد عبر بلغاريا وصربيا والمجر، وتصل لاحقاً إلى سلوفاكيا. هذا الترابط الشبكي الجاهز مكّن دولاً في أوروبا الوسطى من استئناف وارداتها من الغاز الروسي بسرعة بعد توقفها من أوكرانيا. وقد استثمرت عدة دول، أبرزها بلغاريا، في تعزيز أمن خط "بَلقان ستريم" Balkan Stream الذي يشكل امتداداً برياً لترك ستريم، ما مكّن من استقرار تدفقات الغاز نحو دول المنطقة. كما أن الخط يستخدم بنية تحتية قائمة كانت مخصصة لخطوط سابقة، مما قلل الكلفة ورفع الكفاءة التقنية.
4- دعم حكومات أوروبية حليفة لروسيا للتعاون في مجال الغاز: برزت عدة دول داخل الاتحاد الأوروبي كدول داعمة لاستمرار التعاون مع روسيا في مجال الغاز، وفي طليعتها المجر وسلوفاكيا وصربيا. هذه الدول رفضت مقاطعة الغاز الروسي بشكل تام، بل ووقعت على اتفاقيات طويلة الأمد مع شركة غازبروم، وكان لخط ترك ستريم دور محوري في تنفيذ هذه العقود. وقد عبّرت الحكومات المعنية، مثل حكومة روبرت فيكو في سلوفاكيا، عن رغبتها في تجاوز العقوبات والتوترات مع بروكسل للحفاظ على تدفق الغاز بأسعار منخفضة. وقد أدى هذا الموقف إلى نشوء محور داخل الاتحاد الأوروبي يعارض سياسات المفوضية الأوروبية في ملف فك الارتباط مع روسيا.
5- غياب بدائل فورية بأسعار تنافسية: رغم جهود الاتحاد الأوروبي في تنويع مصادر الطاقة، إلا أن الغاز الطبيعي المسال (LNG) المستورد من الولايات المتحدة وقطر لم يكن قادراً على منافسة الغاز الروسي من حيث الأسعار أو انتظام التوريد. أظهرت تقارير الاتحاد الأوروبي أن الغاز الذي يصل عبر ترك ستريم يباع بخصومات تتراوح بين 13 إلى 15% مقارنة بالبدائل، ما شكّل عامل جذب للدول التي تعاني من أزمة تكلفة الطاقة. كما أن مشاريع محطات الغاز االمسال في دول شرق أوروبا لم تجهز بعد لتأمين بديل فوري، ما جعل ترك ستريم الخيار الوحيد الممكن من الناحية الاقتصادية واللوجستية في ظل الشتاء الطويل واحتياجات الصناعة والطاقة الحرارية.
6- دور ترك ستريم في خلق توازن جديد داخل السوق الأوروبية للطاقة: أدى بروز ترك ستريم كممر رئيسي لنقل الغاز الروسي إلى إعادة رسم موازين النفوذ داخل السوق الأوروبية للطاقة. فقد منحت هذه البنية التحتية روسيا فرصة للحفاظ على موطئ قدم في أوروبا الشرقية والجنوبية، رغم تراجع حصتها الإجمالية. في المقابل، مكّن الخط الدول المرتبطة به مثل بلغاريا والمجر وسلوفاكيا من امتلاك أوراق تفاوضية أقوى داخل الاتحاد الأوروبي، مستفيدة من قدرتها على الوصول إلى إمدادات منتظمة بسعر أدنى. هذا الواقع أوجد تفاوتاً في مقاربة ملف الطاقة بين دول شرق وغرب أوروبا، حيث برز انقسام حول مدى جدوى الانفصال الكامل عن الغاز الروسي. كما وفر ترك ستريم خياراً تكتيكياً للاتحاد الأوروبي لتفادي الأزمات المفاجئة، دون أن يُعترف بذلك رسمياً في سياسات بروكسل، ما يجعله عنصر توازن غير معلن لكنه مؤثر في استراتيجية الطاقة الأوروبية.
آثار عملية
تظهر آثار اعتماد أوروبا على ترك ستريم في الفترة الأخيرة من خلال النقاط التالية:
1- ارتفاع الكميات المتدفقة من الغاز الروسي عبر الخط: شهدت الأشهر الأولى من عام 2025 ارتفاعاً متسارعاً في كميات الغاز الروسي المتدفقة عبر ترك ستريم؛ حيث سجل شهر مايو (2025) وحده ارتفاعاً بنسبة 10.3% مقارنة بشهر أبريل، وفقاً لتقديرات رويترز. وبلغ متوسط التدفق اليومي 46 مليون متر مكعب، مقابل 41.7 مليون في الشهر السابق. وقد سجّل شهر فبراير 2025 أرقاماً قياسية أيضاً، مع تجاوز التدفقات اليومية 56.6 مليون متر مكعب، علماࣧ أنمتوسط معدل استخدام خط الأنابيب في فبراير كان أعلىبنسبة 12% مما كان عليه في ديسمبر 2024. ويُعد هذاالارتفاع مؤشراً واضحاً على قدرة الخط على مواكبة زيادة الطلب، خاصة بعد توقف خطوط الإمداد الأوكرانية في الأول من يناير 2025.
2- تعويض نقص الإمدادات في أسواق محددة بأوروبا: ساهم ترك ستريم في تعويض جزء كبير من النقص في الإمدادات الناتج عن وقف العبور عبر أوكرانيا، لا سيما في دول مثل سلوفاكيا والمجر وصربيا. فقد أكدت شركة SPPالسلوفاكية، وهي أكبر مورد للغاز في سلوفاكيا، استئنافها استيراد الغاز الروسي اعتباراً من فبراير 2025 عبر المجر، باستخدام الخطوط المرتبطة بترك ستريم، مع توقّع مضاعفة الكميات بدءاً من أبريل. كما أظهرت البيانات أن هذه الكميات ساعدت على إعادة ملء الخزانات وتخفيف أزمة الطاقة التي عانت منها هذه الدول مع حلول الشتاء. ويمثل هذا التحول إعادة توزيع فعلي لمسارات الغاز الروسي في أوروبا.
3- استمرار توريد الغاز الروسي رغم التوترات والعقوبات: على الرغم من العقوبات الأوروبية والأمريكية المفروضة على روسيا، والتوترات الأمنية التي طالت حتى منشآت ترك ستريم نفسها، إلا أن خط الغاز استمر في العمل دون انقطاع. فقد أعلنت موسكو أن منشأة "روسكايا" التابعة لترك ستريم تعرّضت لهجومين بطائرات مسيّرة نُسبا إلى أوكرانيا، في يناير وفبراير 2025، لكن عمليات الضخ لم تتوقف. واعتبرت المجر أن هذه الهجمات تمس سيادتها، في ظل اعتمادها على الخط لتأمين الطاقة. وبرغم التهديدات الأمنية، أثبت ترك ستريم مرونة تشغيلية ومتانة في البنية التحتية سمحت له بالاستمرار في التوريد.
4- استثمارات جديدة لزيادة سعة نقل الخط عند الحدود التركية-البلغارية: استجابة للطلب المتزايد وتنامي الاعتماد على ترك ستريم، أعلنت بلغاريا عن مفاوضات مع مستثمرين أمريكيين كصندوق "إليوت مانجمنت" Elliott Management لتوسيع سعة الخط عند الحدود مع تركيا. وخصوصاً أن بيانات الشركات الأوروبية المتخصصة في مجال نقل الطاقة أظهرت أن إمدادات الغاز الروسية التي يتم شحنها عبر ترك ستريم إلى أوروبا عبر الحدود التركية مع بلغاريا زادت بنسبة 27% في يناير وفبراير من هذا العام مقارنة بنفس الفترة من عام 2024.
وتهدف هذه الخطوة إلى دعم تدفقات الغاز نحو وسط أوروبا، مع الحفاظ على موقع بلغاريا كممر حيوي. وذكرت الحكومة البلغارية أنها لا تنوي بيع البنية التحتية، بل تبحث عن استثمارات لتطويرها دون خرق الإطار القانوني الأوروبي. ويُنظر إلى هذه المبادرة كمؤشر على أن دولاً في شرق ووسط أوروبا ترى في ترك ستريم أصلاً استراتيجياً يستحق التوسعة بدلاً من التخلي عنه.
5- زيادة الإيرادات الروسية من الغاز: رغم تراجع كميات الغاز الروسي المصدّرة مقارنة بما قبل 2022، إلا أن ترك ستريم وفّر لموسكو قناة دائمة لجني عائدات مهمة. فقد صدّرت روسيا أكثر من 63 مليار متر مكعب من الغاز عبر الخط منذ تدشينه، وحققت من خلالها إيرادات تجاوزت 20 مليار يورو. ويمثل الخط اليوم كل ما تبقى من صادرات روسيا عبر الأنابيب إلى أوروبا، بعد توقف نورد ستريم1 و2 وخطوط أوكرانيا، ما يجعله مصدر دخل رئيسياً لشركة غازبروم والدولة الروسية، في ظل الحظر الغربي على النفط وقيود تسويق الغاز المسال.
6- تراجع نسبي لأسعار الغاز بسبب التخفيضات الروسية: في محاولة للحفاظ على حصتها السوقية، عرضت روسيا عبر غازبروم خصومات كبيرة للدول المستوردة للغاز عبر ترك ستريم. وتُظهر البيانات الأوروبية أن سعر الغاز الروسي المورَّد عبر هذا الخط في عام 2024 كان أقل بنسبة تراوحت بين 13 و15% مقارنة بالأسواق البديلة. ورغم أن هذه التخفيضات لا تُترجم دائماً إلى انخفاض فوري على المستهلكين النهائيين، فإنها منحت الشركات الأوروبية، خصوصاً في المجر وسلوفاكيا، حافزاً قوياً للتمسك بالإمدادات الروسية. كما ساهمت هذه السياسة في احتواء أسعار السوق في بعض دول شرق أوروبا مقارنة بنظرائها في الغرب.
ختاماً، يظهر مسار تطور الاعتماد على ترك ستريم أن المسألة لم تعد مجرّد عبور فني للغاز، بل صارت ترجمة لشبكة معقّدة من المصالح المتداخلة بين الجغرافيا والسياسة والطاقة. فرغم الضغط الأوروبي لفك الارتباط مع موسكو، يبرز هذا الأنبوب كجسرٍ خفيّ يعيد وصل ما حاولت السياسة قطعه. ويتجاوز أثره البُعد الاقتصادي ليطال توازنات داخل الاتحاد الأوروبي نفسه، بين توجه يتكئ على الواقعية الطاقوية، وتوجه آخر يسعى إلى الاستقلالية الاستراتيجية. كما يُعيد ترك ستريم طرح تساؤلات جوهرية حول هشاشة البدائل الأوروبية، وحدود الرهانات على الغاز المسال. وعليه، يبدو أن مستقبل أمن الطاقة في أوروبا لن يُصاغ فقط من خلال الخطط المعلنة، بل أيضاࣧ من خلالوقائع ميدانية تفرضها الجغرافيا وخيارات الدول المنفردة.
المراجع:
نوار الصمد، 17.6.2025، كيف ساهم "ترك ستريم" في زيادة تدفّق الغاز الروسي إلى أوروبا؟، موقع إنترريجونال للتحليلات الإستراتيجية.
عدنان عبد الرزاق، 14.10.2022، هل تتحكم تركيا "المشاكسة" بصمام نقل الغاز الروسي إلى أوروبا؟،العربي الجديد.