يُعد "الجيش الأبيض" في جنوب السودان ظاهرة معقدة ومتجذرة في النسيج الاجتماعي والسياسي للدولة التي انفصلت عن السودان في التاسع من يوليو 2011. هو ليس جيشاً بالمعنى التقليدي، بل مليشيا قبلية تتكون أساساً من شباب قبيلة النوير، ثاني أكبر القبائل في جنوب السودان. يلعب هذا التجمع دوراً محورياً في المشهد السياسي والعسكري، خاصة في سياق الصراع المستمر مع قبيلة الدينكا، القبيلة ذات النفوذ السلطوي الأوسع.
تأثير القبائل السودانية
قبيلة النوير هي ثاني أكبر القبائل عددياً في جنوب السودان، وتوصف في بعض الأحيان بأنها "أشرس البشر" على وجه الأرض، وتحظى بأسطورة شعبية "شبه مقدسة" تزيد تماسكها ونزوعها الاستقلالي بحسب الكاتب الجنوب سوداني أتيم سايمون تسكن عشائر النوير في تجمعات بشرية متفرقة، تتركز بشكل أساسي في حوض نهر السوباط شرقاً، وفي منطقة "غرب النوير" التي تشكل كامل مساحة ولاية الوحدة الغنية بالنفط وعاصمتها بانتيو. كما للنوير حضور قوي في ولاية جونقلي وتمتد بعض مناطقهم إلى داخل حدود إثيوبيا.
تتميز مناطق النوير بكثرة المستنقعات، مما زاد عزلة القبيلة وعزز نزوعها الاستقلالي وصعوبة اختراق مناطقها يبلغ عددهم حوالي مليوني نسمة، ويمتازون بلهجة واحدة وأسلوب حياة متشابه إلى حد كبير ومن أبرز خصائصهم الاعتزاز بالشعور نفسه "بتفوق" قبيلتهم ومع ذلك يحق لكل نويري أن يترك قبيلته ويستقر في قبيلة جديدة ليصبح عضواً فيها، مما يعكس مرونة معينة في الهوية القبلية.
يُطلق اسم "الجيش الأبيض" في جنوب السودان على مقاتلي قبيلة النوير تعود تسميته إلى إحدى دلالتين:
طلاء الأجساد بالرماد: يدهن المقاتلون أجسادهم بالرماد الناتج عن حرق روث الأبقار، وذلك لحماية أجسادهم من لسعات الناموس والحشرات، حيث إنهم في الأصل رعاة أبقار هذا الطلاء يمنحهم مظهراً أبيض اللون.
التمييز عن الجيش الأحمر: يقول أحد المراقبين: (ظهرت التسمية أيضاً لتمييزهم عن "الجيش الأحمر" الذي كان يشير إلى التوجه الماركسي في بداية الحرب الأهلية في إطار السودان الموحد).
يعود أول ظهور للجيش الأبيض إلى عام 1991 عندما هاجم مدينة بور ومناطق أخرى في ولاية جونقلي التي تقطنها غالبية من قبيلة الدينكا كانت هذه أول بادرة انشقاق على سلطة الجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة جون قرنق، حيث كان قائدهم آنذاك رياك مشار يقود قوة استقلال جنوب السودان.
عاد اسم الجيش الأبيض إلى واجهة الأخبار بقوة مع اندلاع القتال مجدداً في جنوب السودان في أواخر ديسمبر 2013، عندما قامت المليشيات البيضاء بإعادة احتلال مدينة بور مرة أخرى.
الأدوار السياسية للجيش الأبيض
تترابط تحركات الجيش الأبيض بشكل وثيق مع التحولات السياسية والصراعات على السلطة في جنوب السودان ورغم نفي الدكتور رياك مشار، نائب رئيس جنوب السودان السابق وزعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان المعارضة، لعلاقته المباشرة بتنظيم مقاتلي شباب النوير، فإن الواقع يشير إلى ارتباط قوي بين تحركات الجيش الأبيض والخلافات السياسية التي يكون مشار طرفاً فيها.
- الانشقاقات السياسية: في عام 1991، اختلف الدكتور مشار مع الدكتور جون قرنق، وهاجم الجيش الأبيض مدينة بور. هذا الهجوم كان صدى للخلافات السياسية العميقة داخل الحركة الشعبية.
- أزمة 2013 و2016: برز اسم الجيش الأبيض مرة أخرى بعد الخلاف بين سلفاكير ومشار في سبتمبر 2013 ويوليو 2016 في كلتا الحالتين، كان تحرك الجيش الأبيض رد فعل عنيفاً وغير متوقع ومتصاعداً بسرعة على الأزمات السياسية.
- التحالفات القبلية في الصراعات السياسية: رغم أن الأسباب المعلنة للصراع الحالي هي سياسية وتتعلق بصراع النخبة الحاكمة حول السلطة، فإن حدة وقسوة الصدام وضخامة الخسائر في الأرواح أجبرت الأطراف المتصادمة على الاستعانة بجذورها القبلية. هذا الاستغلال للولاءات القبلية عمق المخاوف من تحول الصراع إلى صراع إثني قد يدخل البلاد في حرب أهلية قبلية مدمرة.
- دور تاريخي في مجموعة الناصر: كان الجيش الأبيض جزءاً من "مجموعة الناصر" في عام 1992،- وهي مجموعة انشقت عن الحركة الشعبية بقيادة الدكتور رياك مشار والدكتور لام أكول بسبب رفضهم للطرح الوحدوي لقرنق. رغم أن مجموعة الناصر لم تنجح في تغيير المسار السياسي للحركة الشعبية وعادت إليها، فإن مرارات تلك الحرب ظلت حية في نفوس شباب النوير، مما يجعلهم أكثر استجابة للدعوات للحرب بنخوة إثنية أو سياسية.
وتشير الأحداث الأخيرة، مثل هجوم 3 مارس 2025 على مدينة الناصر، إلى استمرار هذا النمط، حيث تعزز القوات الحكومية انتشارها وتستعين ببعض المجموعات المعادية للنوير، مما يزيد الاحتقان ويدفع الأمور نحو التصعيد الاتهامات المتبادلة بين الحكومة والمعارضة حول خرق اتفاق السلام 2018، واعتقال شخصيات سياسية وعسكرية مرتبطة بمشار، كلها مؤشرات على أن الأزمة ذات أبعاد سياسية عميقة يتم توظيف الولاءات القبلية فيها كأداة للصراع.
الأخطار الأمنية للجيش الأبيض
يمثل الجيش الأبيض تهديداً أمنياً كبيراً لجنوب السودان والاستقرار الإقليمي بسبب طبيعته كمليشيا قبلية غير خاضعة لقيادة مركزية واضحة، وتصرفاته العنيفة والمدمرة:
- العنف العشوائي والهجمات على المدنيين: من أبرز أخطار الجيش الأبيض هو استهدافهم للمدنيين. تقارير صحفية وأممية في عام 2012 اتهمت الجيش الأبيض بالهجوم على قبيلة المورلي، واصفة ذلك بـ"حرب إبادة". هذا النمط من العنف العشوائي يزيد معاناة السكان ويدفع بالمزيد منهم للنزوح.
- تقويض اتفاقيات السلام: رغم توقيع اتفاقيات سلام مثل اتفاق 2015 و2018، فإن عودة الجيش الأبيض إلى القتال تقوض هذه الجهود بشكل مستمر. تحركاتهم العنيفة تؤدي إلى "تآكل الثقة" بين الأطراف المتحاربة وتعيق تنفيذ الترتيبات الأمنية، مثل توحيد الجيش الوطني.
- التأثير على البنية التحتية والنفطية: تسيطر مناطق النوير على حقول نفطية مهمة في ولاية الوحدة مثل مدينة بانتيو أي تصعيد للصراع في هذه المناطق يمكن أن يؤدي إلى تعطيل إنتاج النفط، وهو مصدر الدخل الرئيسي لجنوب السودان، مما يفاقم الأزمات الاقتصادية ويحول الدولة المثقلة بالديون إلى فوضى.
- التهديدات الإقليمية والدولية: أثار دخول الجيش الأبيض في المعارك قلق الولايات المتحدة ودول شرق إفريقيا، التي هددت بالتدخل العسكري لحماية العاصمة جوبا من السقوط. هذا التدخل الخارجي، وإن كان يهدف إلى الاستقرار، يمكن أن يزيد من تعقيد الصراع ويجعله صراعاً إقليمياً.
- تصنيفه منظمة إرهابية: في 14 مارس 2025، قرر الاتحاد الإفريقي فرض عقوبات على "الجيش الأبيض" وتصنيفه كمنظمة إرهابية، وذلك استجابة للمخاوف المتزايدة بشأن تورطهم في انتهاكات حقوق الإنسان، هجمات على المدنيين، تجنيد الأطفال، وأعمال تقوض جهود السلام. هذا التصنيف يفتح الباب أمام إجراءات دولية ضدهم، مثل تجميد الأصول وحظر السفر، ويعزز التعاون الأمني الإقليمي لتفكيك عملياتهم. الهجوم على فريق إجلاء مروحية تابعة للأمم المتحدة في الناصر في 7 مارس 2025 كان نقطة تحول أدت إلى هذا القرار الصارم.
بالإضافة إلى "الجيش الأبيض" كمليشيا قبلية، يتكون المشهد العسكري في جنوب السودان بشكل رئيسي من:
- الجيش الشعبي لتحرير السودان (SPLA): وهو الجيش الرسمي للدولة، ويوالي في الغالب الرئيس سلفاكير ميارديت الذي ينتمي إلى قبيلة الدينكا. هذا الجيش هو امتداد للقوات التي قاتلت من أجل استقلال جنوب السودان عن السودان الموحد.
- قوات الحركة الشعبية لتحرير السودان المعارضة (SPLM-IO): وهي القوات الموالية لنائب الرئيس السابق رياك مشار، وتتكون أساساً من مقاتلين ينتمون إلى قبيلة النوير هذه القوات هي التي غالباً ما تتعاون مع الجيش الأبيض أو تستفيد من تحركاته.
أسباب تمرد المجموعات المسلحة جنوب السودان
تتعدّد أسباب التمرد في جنوب السودان، ولكن يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
- الصراع على السلطة والنفوذ: السبب الرئيسي والأكثر تكراراً للتمرد هو الصراع على السلطة بين النخبة الحاكمة، وخاصة بين الرئيس سلفاكير ونائبه رياك مشار. هذا الصراع غالباً ما يتخذ أبعاداً قبلية حيث يحشد كل طرف الدعم من قبيلته.
- الاستقطاب القبلي: رغم أن جذور الصراعات قد تكون سياسية، فإنها سرعان ما تتحوّل إلى صراعات قبلية بين الدينكا والنوير، مستغلّة التوترات التاريخية والمرارات المتراكمة بين القبيلتين.
- عدم تنفيذ اتفاقيات السلام: فشل الأطراف في تنفيذ بنود اتفاقيات السلام، وخاصة الترتيبات الأمنية المتعلقة بتوحيد الجيش، يؤدّي إلى استمرار حالة عدم الثقة والتأهّب للقتال اعتقال شخصيات عسكرية وسياسية، وتغلغل المليشيات المحلية، كلها مؤشرات على ضعف الالتزام بهذه الاتفاقيات.
- ضعف المؤسسات وغياب الحكماء: تعاني دولة جنوب السودان من ضعف في المؤسسات الحكومية والقضائية، مما يجعلها عاجزة عن توفير الأمن لكل مواطنيها وحل النزاعات بالطرق السلمية هذا الضعف يفتح الباب أمام المليشيات القبلية لملء الفراغ الأمني.
- المظالم التاريخية: يحمل شباب قبيلة النوير مرارات من الماضي، خاصة من حرب عام 1992 عندما قاتلت قواتهم ضد قوات جون قرنق وسلفاكير ميارديت هذه المظالم تجعلهم أكثر عرضة للاستجابة للدعوات للقتال، بغض النظر عن الدوافع السياسية المعلنة.
- التدخلات الإقليمية والدولية: رغم أن التدخلات تهدف غالباً إلى تحقيق السلام، فإن بعض التهديدات بالتدخل العسكري أو الانحياز لطرف على حساب آخر يمكن أن تزيد تعقيد الأوضاع وتُسهم في استمرار الصراع.
خلاصة الجيش الأبيض في جنوب السودان هو تجسيد لتعقيدات الصراع في الدولة الوليدة، حيث تتداخل الأبعاد القبلية والسياسية والأمنية بشكل يصعب فصله رغم أنه مليشيا قبلية من شباب النوير، فإنه يلعب دوراً حاسماً في التحوّلات السياسية ويُستخدم كأداة في صراع السلطة بين النخب أخطاره الأمنية جمّة بدءاً من العنف العشوائي ضد المدنيين وصولاً إلى تقويض اتفاقيات السلام وتهديد الاستقرار الإقليمي.
إن تصنيف الاتحاد الإفريقي للجيش الأبيض منظمة إرهابية يمثّل خطوة مهمة نحو محاولة احتواء تهديدها. ومع ذلك فإن الحل الجذري للأزمة في جنوب السودان يتطلب معالجة الأسباب الجذرية للتمرد، بما في ذلك الصراع على السلطة، ومعضلات الاستقطاب القبلي، وضعف المؤسسات، والفشل في تنفيذ اتفاقيات السلام. بدون معالجة شاملة لهذه القضايا، سيظل السلام في جنوب السودان "على المحك"، مع تداعيات محتملة على المنطقة بأسرها.
المصدر: المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية
التاريخ : 23/7/2025
-------------------------------------------------------------
المصدر: العين الإخبارية
التاريخ : 20/4/2025