هل يتمكن ترامب من تفكيك الدولة العميقة
فرع بنغازي

يُعد مفهوم الدولة العميقة دليلاً على أحد التحديات الجوهرية التي تُقوض السياسات الداخلية الأمريكية، ويمثل رغبة الرؤساء الأمريكيين في إعادة توجيه الجهاز البيروقراطي وإحكام سيطرتهم عليه. واتساقاً مع هذا المعنى، وضع الرئيس دونالد ترامب نفسه في مواجهة مع مؤسسات السلطة التنفيذية وموظفيها، على نحو أسفر عن تصدر مفهومين صدارة المشهد الداخلي الأمريكي، هما: السلطة التنفيذية المُوحّدة، والدولة العميقة، ويستند الأول إلى شخصنة السلطة الرئاسية لتتجاوز حدود المنطق وسيادة القانون، فيما يُشير الثاني - في أحد معانيه- إلى المؤامرات المُدبّرة الرامية إلى تقويض السلطة الدستورية للرئيس المُنتخب.

بيد أن دلالات الدولة العميقة، في السياق الأمريكي، تتجاوز المعنى السابق، لتشمل شبكة مُعقدة من المناصب الرفيعة والقيادات الحكومية غير المُنتخبة في مؤسسات عدة، مثل الجيش والاستخبارات والقضاء، والتي تتحكم في مقاليد الحكم، ويزداد نفوذ شاغليها غير المُبرر في السياسات العامة، والذي ينعكس فيما يتم تمريره أو تعطيله من قرارات رسمية، بما يُقلّص دور الرئيس المُنتخب إلى حد كبير. وفي معنى متصل، فإن الدولة العميقة تُشير إلى الآلاف من خبراء الرأي والموظفين الحكوميين غير السياسيين ممن قوضوا سلطة ترامب في ولايته الأولى، وحالوا بينه وبين فرض رؤيته وسياساته، ومن أمثلتهم جيف سيشنز، الذي رفض الانخراط في تحقيقات التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية 2016، وجيم ماتيس، الذي استقال بسبب خلافات حول قرارات ترامب الإستراتيجية مثل الانسحاب من سوريا، وغيرهما.

مواجهة الدولة العميقة:

تعددت جهود وسياسات ترامب الرامية إلى استئصال شأفة الدولة العميقة وتفكيك جذورها عبر تقليص حجم وفعالية الحكومة الفدرالية مترامية الأطراف من خلال الحد من مواردها وتقليل أعداد العاملين بها. وهي السياسات التي وجدت جذورها في ولايته الأولى، وتكررت الدعوة لها في حملته الانتخابية العام الماضي، وتجد طريقها إلى التطبيق في ولايته الثانية. فقد أصدر ترامب في ولايته الأولى أمراً تنفيذياً عُرف باسم "الجدول F" أو (Schedule F)، والذي كان من شأنه عزل "البيروقراطيين المارقين" وتجريد موظفي الخدمة المدنية غير الموالين للرئيس من الحماية لتسهيل عملية فصلهم واستبدال آخرين بهم يعبرون صراحة عن ولائهم لترامب عند تعيينهم. فيما استهل ترامب ولايته الثانية بأمر تنفيذي يُجيز إجراء مُراجعات شاملة لأجهزة الاستخبارات الأمريكية وغيرها من الوكالات؛ لتصحيح "سوء السلوك السابق" من خلال إجراءات مناسبة. 

إن رغبة ترامب في تقويض الدولة العميقة، ومنح الموظفين المشرفين على إدارة التنوع في المؤسسات الحكومية إجازة مفتوحة، وتعيين الموالين له في أعقاب إعادة تصنيف الآلاف من موظفي الخدمة المدنية؛ تأتي في إطار جملة من السياقات والعوامل، منها: سيطرة الحزب الديمقراطي ونخبته الليبرالية بشكل منفرد وغير رسمي على مقاليد الحكم خلال فترة الرئيس السابق جو بايدن من جهة، ورغبة مؤيدي ترامب في رئاسة حازمة تُلبي تطلعاتهم من جهة أخرى، وتطبيق أحد أهم الدروس المُستخلصة من ولاية ترامب الأولى والمتمثل في اختيار شخصيات تتسم بالولاء المُطلق له بغض النظر عن كفاءتها للحيلولة دون أي مقاومة مُحتملة لسياساته المثيرة للجدل.

وقد ينجح ترامب في تفكيك الدولة العميقة في ولايته الثانية، بالنظر إلى جملة من الشواهد، منها الخطة متعددة الخطوات لتقليص حجم الخدمة المدنية، والحد من سلطة المؤسسات والخبراء، وتعيين موالين له بدلاً من المسؤولين الحاليين. وتقضي هذه الخطة بتفكيك الدولة العميقة من خلال فصل كل مسؤول فاسد، والإصلاح الشامل للإدارات والوكالات الفدرالية، وإجراء تغييرات واسعة في وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفدرالي اللذين يجسدان الدولة العميقة، وإنشاء لجنة الحقيقة والمصالحة ونظام لمراقبة وكالات الاستخبارات، ونقل أجزاء كبيرة من البيروقراطية الفدرالية خارج "مستنقع واشنطن"، والاعتماد على المُعينين السياسيين وليس الخبراء المهنيين.

ومنذ عودته إلى البيت الأبيض في 20 يناير 2025، شن ترامب بالفعل حملة انتقامية ضد شخصيات بارزة؛ فألغى حماية جهاز الخدمة السرية لثلاثة من كبار مسؤولي الأمن القومي في رئاسته الأولى، وهم: جون بولتون مستشار الأمن القومي الأسبق، ومايك بومبيو مدير وكالة المخابرات المركزية ووزير الخارجية الأسبق، وبرايان هوك مساعد وزير الخارجية الأسبق، وهي ذات المعاملة التي لاقاها أنتوني فاوتشي خبير الأمراض المُعدية وكبير المستشارين الطبيين للرئيس الأمريكي سابقاً. كما طرد ترامب شخصيات بارزة من عدة مناصب حكومية، وسحب التصاريح الأمنية من 51 مسؤولاً استخباراتياً سابقاً لتشكيكهم في التقارير المتعلقة بجهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بهانتر بايدن، نجل الرئيس السابق. كما استهدف نحو 30 من مراقبي الحكومة المعروفين باسم "المفتشين العموم"، بجانب المسؤولين عن استئصال الفساد والمخالفات. وقد فُصلوا جماعياً دون إخطار الكونغرس. 

وتحقيقاً لوعده بتفكيك البيروقراطية الحكومية، وبالتوازي مع قيادة الجمهوريين للكونغرس حالياً؛ يسعى ترامب أيضاً إلى ملء آلاف التعيينات السياسية في مختلف المناصب الحكومية في أسرع وقت ممكن. ويتضح، في هذا الإطار، الأدوار التي يؤديها عدد من المسؤولين المكلفين بالقضاء على الدولة العميقة، ومنهم وزيرة العدل بام بوندي، ومدير مكتب التحقيقات الفدرالي كاش باتيل، ووزير الخارجية ماركو روبيو، ومستشار الأمن القومي مايك والتز، بجانب إيلون ماسك، الذي يقود جهود ترامب لتحسين كفاءة الحكومة. فقد اختار ترامب شخصيات مثيرة للجدل لتولي أكثر المناصب حساسية، وتحديداً وزارتي العدل والدفاع بجانب وكالات الاستخبارات، وهي الشخصيات القادرة على إحداث فارق حقيقي وإيجابي في مواجهة الدولة العميقة. وعليه، فإن سياساته تُدلل على قدرته على كسر المعايير التقليدية في اختيار القيادات الحكومية لتحقيق أجندته السياسية، ويدلل على ذلك تكرار تصريحاته عبر منصة "تروث سوشيال" بشأن تدمير الدولة العميقة. كما وصف ستيف بانون، المستشار السابق لترامب، فريق الرئيس الجديد بأنه "فرقة صاعقة لإحداث تغيير جذري"، يتمثل في نقل أشخاص بعينهم وإعادة تعيين أو فصل غيرهم؛ بهدف تنفيذ أوامر الرئيس بصرف النظر عن مدى قانونيتها.

تقييم الفعالية:

في اتجاه مضاد للتحليلات التي تدفع بقدرة الرئيس الأمريكي على التصدي للدولة العميقة من خلال سياساته السالف ذكرها، تبرز ثلاثة اتجاهات تُشكّك في قدرته تلك، وهو ما يتضح على النحو التالي:

1- استمرار الدولة العميقة بأشكال أخرى: يتأسس هذا الاتجاه على صعوبة إصلاح الحكومة الفدرالية، ولاسيما أن الدولة العميقة لا تنبع من داخل البيروقراطية الفدرالية، بل تنبع من "دولة المقاولين" التي تتكون من شركات عملاقة ذات ثراء مالي وحماية سياسية بقيادة شركات المقاولات الدفاعية الكبرى وحكومات الولايات والمنظمات غير الربحية المدعومة من دافعي الضرائب وأعضاء الكونغرس من كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري؛ ومن ثم فإن مواطني وداعمي تلك الدولة العميقة هم السبب الحقيقي في الإنفاق الفدرالي المتزايد وعجز الميزانية الفدرالية في ظل تشعب البرامج الفدرالية واستخدام أموال الضرائب لتوظيف ملايين الأشخاص في القطاع الخاص، وهم السبب الحقيقي وراء الهدر والاحتيال لا البيروقراطيين. كما تذهب أكبر عقود الدولة العميقة الحقيقية إلى الشركات العملاقة التابعة للمجمع الصناعي العسكري عبر وزارة الدفاع الأمريكية؛ مما يجعلها أحد أبرز مظاهر الاحتكار وأحد أسباب ضعف الرقابة الفدرالية.

2- التداعيات السلبية لسياسات ترامب على نفسه: يدفع هذا الاتجاه بأن سياسات ترامب لتقويض الدولة العميقة ستقوضه هو نتيجة جملة من الأسباب، منها أن القيادات التي يُعيّنها تمس الدور القيادي العالمي في سياق دولي أكثر تعقيداً من مثيله في فترته الرئاسية الأولى. وعليه، فإنها لا تتناسب مع التوترات الجيوستراتيجية العالمية في منطقة الشرق الأوسط أو في القارة الأوروبية، كما لا تتسق والتوترات المتصاعدة مع الصين في ظل منافسة دولية محتدمة معها. فلا شك أن الاستعاضة عن خبراء الاستخبارات ذوي الخبرة سيُخلّف عواقب سلبية على المدى الطويل في الوقت الذي تحتاج فيه الولايات المتحدة إلى مجتمع استخبارات ذي كفاءة وفعالية. 

بعبارة أخرى، فإن سياسات ترامب في مواجهة الدولة العميقة ستسفر عن تقويض إن لم يكن "هدم" أجهزة الاستخبارات الأمريكية؛ لأن تلك السياسات تتأسس على تحكم الولاءات في عمل تلك الأجهزة، وهي القناعة التي تُقوض أحد أهم أسس عملها، والمتمثل في تغليب المصلحة على الولاء من خلال إمداد الرئيس بأفضل المعلومات الاستخباراتية المتاحة. كما يسهل التشكيك في كفاءة كثير من الشخصيات التي عينها، ومنها مديرة الاستخبارات الوطنية، الديمقراطية السابقة تولسي غابارد، التي دافعت عن بشار الأسد، واتهمت ترامب بالسعي إلى حرب مع إيران؛ لذا يشير سجلها ومواقفها السياسية المُعلنة إلى الطابع الانتقائي الذي ستمارسه عند تقييم المعلومات الاستخباراتية؛ فتستمع إلى ما يتفق مع نسقها العقدي، وترفض ما يتناقض مع رؤيتها وسياساتها.

3- تسييس الدولة العميقة لأغراض وظيفية: دفعت بعض التحليلات بعدم وجود ما يُسمى الدولة العميقة، وأن مزاعم ترامب بشأنها هي محاولة للمتاجرة والزج بنظرية المؤامرة في قلب السياسة الأمريكية لتصفية الخصوم وخلق ثقافتي الصمت والخوف اللتين قد تؤثران في الأداء الوظيفي لمختلف الأجهزة الرسمية. وقد تكون تلك المزاعم مجرد البداية للنيل من معارضي الإدارة الأمريكية الحالية، ما يأذن ببداية عهد جديد للولايات المتحدة ونظام حكمها؛ فتُوزع المناصب وفقاً للأهواء وليس الكفاءات. وبناءً على ذلك، في المستقبل القريب، ستتضح أهداف ترامب من سياساته تلك، وما إن كان تسييسها يهدف إلى ردع موظفي الخدمة المدنية كي لا يتصدوا لأجندته المتطرفة، أم إلى إعادة ترتيب الجهاز البيروقراطي وتسخيره في خدمته، وتحويل الحكومة الفدرالية إلى وسيلة لإحكام السيطرة واستهداف الخصوم وتصفية الحسابات وملاحقة المعارضين واستفزاز المؤسسات التقليدية.

ختاماً، ينفذ الرئيس ترامب وعده بملاحقة أعدائه وإسقاط أنصار الدولة العميقة الذين عارضوه سلفاً وتسببوا في ملاحقته قضائياً، وهو ما بدأ بالفعل بعد ساعات قليلة من أدائه اليمين الدستورية كرئيس للولايات المتحدة في ولايته الثانية. ونتيجة لذلك، تُثير سياسات ترامب في مواجهة الدولة العميقة تساؤلات جدية عن قدرة أنصاره على إدارة مؤسسات ضخمة ومعقدة، ودورهم في تسييس أكبر المؤسسات التي يُفترض استقلاليتها عن السلطة السياسية؛ في إساءة استخدام واضحة للسلطة، وفي تحويل مُتعمد للمؤسسات إلى أدوات سياسية.

مراجع:

رغدة البهي ،27.3.2025، هل يتمكن ترامب من تفكيك الدولة العميقة؟، المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة.

مازن النجار،3.3.2025، تطهير الدولة العميقة طريق ترامب إلى الديكتاتورية الميادين.

المقالات الأخيرة