آثار أحداث دارفور على المجتمع السوداني
فرع القاهرة

شهد السودان منذ اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع في أبريل 2023 واحدة من أكثر الأزمات تعقيدًا في تاريخه الحديث، فالصراع لم يعد مجرد صدام مسلح بين قوتين تتنازعان السلطة بل تطوَر ليأخذ أبعادًا اجتماعية وقبلية وإثنية متداخلة تتجلى بوضوح في إقليم دارفور الذي تحوَل إلى مركز رئيسي للمعارك؛ نظرًا لما يحمله من ثقل سكاني وقبلي وأهمية إستراتيجية. ومع احتدام القتال، برزت إشكالية جوهرية تتمثل في تعذُر تقسيم القبيلة ككيان اجتماعي ضمن معادلة الصراع رغم سعي طرفَي الصراع إلى استمالتها لكسب النفوذ. هذه الإشكالية لا تؤثر فقط على موازين القوى العسكرية فحسب، بل تنذر بتحولات عميقة في البنية المجتمعية والسياسية للسودان، ما يجعل من الصراع الحالي نقطة مفصلية في مسار الدولة ومستقبلها.

تأسيسًا على ما تقدم، يسعى التحليل للإجابة عن سؤال: هل تتحول دارفور إلى بوابة لإعادة تشكيل البنية المجتمعية في السودان؟

تقسيم الأطراف على أساس قبلي

لا تمثل القبيلة مجرد وحدة اجتماعية تقليدية، بل تشكل نسيجًا مركزيًا في الحياة السياسية والاجتماعية، خاصة في المناطق الطرفية مثل دارفور، ومع إعادة تشكيل الحرب وفق منطق قبلي، تبرز عدة إشكاليات معقدة، منها:

- تعذُر انقسام الولاء في البنية القبلية: من غير الممكن تفكيك القبيلة إلى ولاءات متعارضة دون أن يؤدي ذلك إلى تصدعات داخلية تهدد بنيتها الأساسية، فالقبيلة ليست كيانًا جغرافيًا يمكن تقسيمه بل منظومة علاقات نسبية وروحية مترابطة يجعل انقسامها أمرًا مكلفًا اجتماعيًا وإنسانيًا.

- تفكك الروابط العائلية تحت ضغط الحرب: حين تنقسم الولاءات بين طرفي النزاع، لا تبقى المواجهة على مستوى الجماعة أو القبيلة، بل تتغلغل إلى داخل الأسر الواحدة والعشائر الصغيرة، فتندلع الصراعات بين الإخوة وأبناء العمومة، ما يرفع منسوب العنف ويفاقم الاستقطاب الداخلي.

- تسييس القبيلة وتحويلها إلى أداة للنفوذ: اعتمدت بعض أطراف الصراع، لا سيما قوات الدعم السريع، على الحشد القبلي عبر الزعامات التقليدية أو من خلال الروابط القرابية المباشرة، غير أن هذه المقاربة سرعان ما تولد مقاومة من داخل القبائل ذاتها التي ترى في هذا التوظيف تهديدًا لوحدتها واستقلالها.

- تحجيم الدور التاريخي للزعامات التقليدية: في ظل هذا الاستقطاب، لم تعد الزعامات القبلية تلعب دور الوسيط أو الضامن للتوازن الأهلي، بل أصبحت جزءًا من منظومة الصراع مما أضعف قدرتها على رأب الصدع وحماية السلم الاجتماعي وفتح الباب أمام مزيد من الفوضى والانقسامات.

إذن، فإن تقسيم الأطراف على أساس قبلي لا يمنح أفضلية حاسمة لأي طرف، بل يُفضي إلى تفكك النسيج الاجتماعي، ويُعقّد الصراع بدلًا من حسمه. وبدلًا من أن يسهم هذا الانقسام في حسم الحرب، فإنه يعقدها ويطيل أمدها، إذ تتحول خطوط القتال من ساحات المواجهة إلى عمق النسيج الأهلي، مما يهدد بإدخال السودان في دوامة من الصراعات الممتدة يصعب احتواؤها حتى بعد توقف العمليات العسكرية.

تأثير أحداث دارفور على البنية القبلية

تُشكل استحالة اقتسام القبيلة واحدة من أبرز العقبات التي تواجه الأطراف المتصارعة في السودان إذ لا تنعكس فقط على فشل محاولات الحشد، بل تُسهم بشكل مباشر في إنهاك كلا الطرفين ميدانيًا وسياسيًا. ويمكن رصد هذا الإنهاك من خلال عدد من المؤشرات الجوهرية:

- تفتت التحالفات القبلية: غالبًا ما تكون التحالفات التي يعقدها الجيش أو قوات الدعم السريع مع بعض القبائل مؤقتة وهشة، إذ تتفكك سريعًا تحت ضغط المعارك أو نتيجة تغير المواقف والولاءات الداخلية أو حتى بفعل محاولات استمالة من الطرف المقابل، ويعرقل هذا التبدل المستمر بناء قاعدة دعم مستقرة لأي من الطرفين.

- فقدان الزعامات القبلية لشرعيتها: حين تتحول الزعامات التقليدية إلى أدوات تعبئة لصالح طرف معين، فإنها تفقد تدريجيًا شرعيتها الأخلاقية والاجتماعية في أعين أبناء القبيلة، وبدلًا من أن تكون عامل تماسك وضبط اجتماعي، تصبح جزءًا من حالة الاستقطاب مما يضعف الطرف الذي يعتمد عليها ويفقده الغطاء المجتمعي الذي يحتاجه.

- نزيف في الموارد البشرية والاجتماعية: إن الانقسام داخل القبيلة يؤدي إلى استنزاف داخلي مستمر، إذ يدخل أبناء العائلة الواحدة في صراعات دموية، ويتحول المجتمع المحلي إلى ساحة عنف متبادل مما يستهلك موارد بشرية كان من المفترض أن تُوظف في دعم طرف ما، ويضعف القاعدة الشعبية لكلا الطرفين.

- تعقيد مسارات التفاوض والتسوية: مع تشرذم البنية القبلية، تصبح أي محاولات للتفاوض محفوفة بالمخاطر؛ لأن الاتفاق مع طرف قبلي لا يضمن تمثيله الكامل للقبيلة أو ولاء جميع مكوناتها. وهذا يخلق تحديًا كبيرًا في بناء تسويات سياسية شاملة ومستقرة، ويجعل من الصعب تحقيق اتفاقات فعالة على الأرض.

تداعيات وتحولات أحداث دارفور

بعيدًا عن الميدان العسكري، يتمثل الأثر الأعمق للصراع الحالي في تحولات جوهرية تمس البنية المجتمعية نفسها لا سيما في دارفور والمناطق الأكثر تضررًا من الحرب، ومن أبرز ملامح هذا التحول:

- تشكيل أنماط تحالف جديدة خارج الإطار القبلي: في ظل تصدُع البنى القبلية، بدأت تظهر أنماط من التحالفات تتجاوز الانتماء القبلي التقليدي، وتقوم بدلًا من ذلك على المصالح الاقتصادية أو التفاهمات العسكرية، أو الروابط الأيديولوجية، فهذه التحالفات قد تمثل نواة لتنظيمات سياسية واجتماعية عابرة للقبائل تمهد لتكوين هياكل أكثر حداثة وشمولًا.

- تفكك السلطة الرمزية للشيوخ والعمد: إن الزعامات التقليدية، مثل الشيوخ والعُمد، فقدت الكثير من قدرتها على ضبط المجتمعات المحلية بفعل الاستقطاب والانقسامات. في المقابل، برزت فواعل جديدة من بينها القادة الميدانيون والنخب المحلية المدنية وحتى شبكات شبابية مسلحة، وهو ما يشير إلى تحوُل في مركز الثقل داخل المجتمعات.

- صراع الولاءات وصعود الهوية المركبة: إن الأجيال الجديدة، خصوصًا في المناطق المنكوبة بالسودان، تنشأ في بيئة معقدة تدفعها إلى تبني هويات مزدوجة أو مركبة: تجمع بين الانتماء القبلي من جهة، والانخراط في الحركات المسلحة أو المبادرات المدنية من جهة أخرى. هذا التحول قد يفتح الباب أمام هوية سودانية جديدة تتجاوز الحصرية القبلية وتعبر عن واقع أكثر تنوعًا.

- إعادة توزيع النفوذ السياسي والاجتماعي: تفرض الاصطفافات الجديدة الناتجة عن الحرب إعادة رسم موازين القوى داخل المجتمع السوداني، فمراكز النفوذ لم تعد تُحدَّد فقط بالثقل القبلي، بل أيضًا بالقوة العسكرية والقدرة الاقتصادية والعلاقات الإقليمية، مما يعكس انتقالًا تدريجيًا من منطق الزعامة التقليدية إلى معايير أكثر تعقيدًا وحداثة.

- تفكيك البنية القديمة كمدخل لتأسيس السودان الجديد: رغم الكلفة الباهظة لهذه التحولات، فإنها تحمل في طياتها فرصة تاريخية لإعادة بناء السودان على أسس وطنية تتجاوز الانتماءات الأولية، فإذا نجحت القوى السياسية والمدنية في التقاط هذه اللحظة وتوظيفها بشكل إيجابي، فقد تشكل هذه المرحلة الانتقالية بداية لنظام مجتمعي أكثر عدالة وشمولًا.

ختامًا، يمكن القول إن دارفور ليست مجرد مسرح لصراع دموي فحسب، بل تمثل بالفعل بوابة حقيقية لإعادة تشكيل البنية المجتمعية في السودان فالصراع المستمر والانسحابات التدريجية للولاءات القبلية التقليدية يفتحان الطريق لظهور تحالفات جديدة وهويات مركبة تتجاوز حدود الانتماءات القديمة وما يجري في دارفور اليوم هو أكثر من مجرد صراع مسلح أو نزاع سياسي عابر، إنه مشروع منهجي يهدف إلى تفكيك النسيج الديموغرافي والاجتماعي للسودان عبر تهجير السكان الأصليين واستبدالهم بمجموعات موالية، ما يعيد رسم الخريطة السكانية ويعيد تشكيل هوية الدولة. هذه السياسات ليست وليدة اللحظة، بل هي استكمال لخطط أعمق لتفتيت الدولة وإضعاف سلطتها المركزية، وتحويل السودان إلى مجموعة من “الكانتونات” المسلحة المتناحرة لذا، يمكن اعتبار دارفور مختبرًا لما قد يصبح السودان الجديد، حيث تتشكل الهوية الوطنية على أنقاض الانقسامات القديمة، وتبدأ رحلة نحو بنية اجتماعية أكثر شمولية.

 

المصدر: مركز رع للدراسات الاستراتيجية

الكاتب : ساجدة السيد

التاريخ : 20/8/2025

-------------------------------------------------------------------------

المصدر: الجزيرة نت

الكاتب : النور أحمد النور

التاريخ : 3/8/2025

المقالات الأخيرة