مقاربات إفريقية مبتكرة لمواجهة حظر ترامب للاجئين
فرع بنغازي

في 20 يناير 2025، وقّع الرئيس ترامب أمراً تنفيذياً بتعليق برنامج قبول اللاجئين الأمريكي (USRAP) إلى أجل غير مسمى؛ مما أدى فعلياً إلى إيقاف جميع الوافدين الجدد من اللاجئين. كما أوقف هذا الأمر جميع عمليات معالجة حالات اللاجئين من قبل وزارتي الخارجية والأمن الداخلي، وألغى سفر اللاجئين المقرر سابقاً، وأنهى برنامج الرعاية الخاصة للاجئين في فبراير 2025. وقد أحدث هذا التحول في السياسة، الذي جاء بعد سنوات من إجراءات تقييد الهجرة بشكل متزايد، صدمةً في الأوساط الإنسانية والسياسية الإفريقية. ولا تُبرز هذه الخطوة هشاشة أطر حماية اللاجئين العالمية فحسب، بل تكشف أيضاً عن أوجه عدم المساواة العميقة والحسابات السياسية الضيقة التي تُشكّل جوهر التفاعل الغربي مع القارة الإفريقية. ويحاول هذا المقال تحليل التداعيات الإنسانية المترتبة على تعليق المساعدات، وتأثيراتها في أطر حماية اللاجئين بإفريقيا، وكيف يمكن للجهات الفاعلة الاستجابة للسياسات العالمية المقيدة للهجرة.

ازدواجية المعايير:

في واقع الأمر لم يكن هذا القرار مفاجئاً. فقد أعربت الإدارة الأمريكية عن نيتها الحد من الهجرة وعدم قبول اللاجئين قبل سنّ هذه السياسة بوقت طويل. ولا تقتصر هذه الإجراءات على الولايات المتحدة فحسب، بل تعكس توجهاً غربياً أوسع نحو الانعزالية والأمننة، حتى بين الحكومات التي تتبنى علناً سياسات التعددية والقيم الإنسانية. ولعل ما يلفت الانتباه بشكل خاص هو الطبيعة الانتقائية للسياسة الأمريكية. فبينما تم تعليق برنامج إعادة توطين اللاجئين العام في الولايات المتحدة، أُنشئ مسار سياسي خاص سمح بإعادة توطين سريعة "للأفريكانز" من جنوب إفريقيا، استناداً إلى مزاعم غير موثقة عن "إبادة جماعية للبيض". هذا التناقض الحاد يُبرز أن سياسة اللاجئين لم تعد تُبنى على معايير إنسانية أو تقييمات موضوعية للاحتياج أو القدرة الاستيعابية، بل باتت خاضعة بشكل واضح لاعتبارات السياسة الداخلية الأمريكية. فبدلاً من حماية الفارين من الحروب والاضطهاد في إفريقيا - وهم غالبية اللاجئين المتضررين من التعليق- تم تسريع إجراءات أقلية ذات خلفية عرقية محددة دون وجود أدلة قوية على تعرضها لخطر جماعي. 

هذا النهج لا يعكس فقط انتقائية سياسية، بل يكشف أيضاً عن تغليب المصالح الانتخابية والروايات الشعبوية على المبادئ الإنسانية، بما في ذلك من تجاهل لمعاناة ملايين الأفارقة وواقعهم اليومي تحت وطأة النزاعات والأزمات الإنسانية.

وعلى أية حال لن تمر الطبيعة الانتقائية لسياسة الولايات المتحدة تجاه اللاجئين مرور الكرام. فهي تُرسل رسالة واضحة حول من تُقدّر حياتهم ومن تعد معاناتهم مبررة سياسياً. هذه الازدواجية في المعايير تُقوّض شرعية نظام حماية اللاجئين بأكمله، وتُقوض الثقة بين إفريقيا والغرب. إضافة إلى ذلك، يُجسّد النهج الأمريكي اتجاهاً أوسع نحو التعامل القائم على الاستغلال مع إفريقيا. وكما يلاحظ بعض الكتاب، تتم معاملة القادة الأفارقة بصورة دونية بشكل متزايد؛ حيث يُتوقع منهم "التفاوض" من أجل علاقات أفضل مع القوى الغربية. ولا شك أن هذه الديناميكية تُكرّس دوامة من التبعية والتهميش، بدلاً من تعزيز شراكة حقيقية أو مسؤولية مشتركة.

تداعيات إنسانية:

من المعلوم أنه لعقود طويلة، كانت الولايات المتحدة وجهة رئيسية للاجئين الأفارقة، وخاصة الفارين من النزاعات طويلة الأمد في جمهورية الكونغو الديمقراطية والسودان والصومال وجنوب السودان. ففي عام 2017، على سبيل المثال، كانت نسبة كبيرة من اللاجئين الذين قبلتهم الولايات المتحدة، والبالغ عددهم 34 ألف لاجئ، من إفريقيا. بالنسبة لهؤلاء الأفراد، وفّرت إعادة التوطين الملاذ الوحيد من دوامات العنف والنزوح والحرمان.  أما اليوم، ومع إغلاق الولايات المتحدة أبوابها، يقع العبء بالكامل على عاتق الدول الإفريقية المضيفة مثل كينيا وإثيوبيا وأوغندا، التي تتحمل بالفعل حصة غير متناسبة من إجمالي عدد اللاجئين في العالم. وقد أظهرت هذه الدول، على الرغم من تحدياتها الاقتصادية والسياسية الخاصة، انفتاحاً وابتكاراً أكبر في سياسات اللاجئين مقارنةً بنظيراتها الغربية. إن نهج "الباب المفتوح" الذي تنتهجه أوغندا، وتحركات كينيا نحو التكامل الاجتماعي والاقتصادي، والتوسع الأخير في إثيوبيا في مجال حقوق اللاجئين، كلها تتناقض بشكل صارخ مع موجة الإقصاء المتصاعدة في الغرب.

ومع ذلك، فإن هذه الخطوات الإيجابية معرضة للخطر بسبب سحب الدعم الأمريكي. لقد كانت المساعدات الأمريكية شريان حياة لبرامج اللاجئين في جميع أنحاء شرق إفريقيا؛ حيث تموّل كل شيء من الغذاء والمأوى إلى التعليم والحماية. وعليه، عندما يتم تعليق هذه المساعدات من النظام، يكون التأثير مباشراً ومدمراً. فقد شهد اللاجئون في كينيا بالفعل انخفاضاً في المساعدات الغذائية بنسبة 40%، مع احتمال حدوث المزيد من التخفيضات. وفي إثيوبيا، تلقت خطة الاستجابة الإنسانية لعام 2023 أقل من 29% من التمويل المطلوب؛ مما يُهدد سلامة ما يقرب من مليون لاجئ. كما أن دعم برنامج الغذاء العالمي في أوغندا مُعرّض للخطر، على الرغم من استضافة البلاد لأكثر من 6.1 مليون لاجئ.

 

إن توقيت هذه التخفيضات في غاية السوء؛ إذ تُعاني الدول الإفريقية المُضيفة من تحديات شديدة الوطأة على الصعيد الاقتصادي الكلي؛ حيث تقترب نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي من مستويات لا تُطاق. كما أن العديد من هذه الدول التي تستضيف اللاجئين وتتولى أمور معاشهم في آنٍ واحد، عالقة في حلقة مفرغة من الصراع والنزوح. ومع إغلاق الدول الغربية أبوابها وتراجع التمويل الإنساني، تُستنزف قدرة الدول الإفريقية على استيعاب اللاجئين ودمجهم إلى حد الانهيار.

هذه ليست مجرد أزمة إنسانية، بل هي اختبارٌ للتضامن العالمي ومصداقية النظام الدولي لحماية اللاجئين. لقد ناصرت الولايات المتحدة ودولٌ غنية أخرى من قبل مبدأ تقاسم الأعباء، إلا أن أفعالها اليوم تتناقض بشكل متزايد مع خطابها السائد. إن أقل من 1% فقط من لاجئي العالم يُعاد توطينهم في الغرب؛ بينما تبقى الغالبية العظمى في دول الجنوب، غالباً في دول أقل قدرةً على تلبية احتياجاتهم.

حلول مشروطة:

كثيراً ما يستحضر المجتمع الدولي فكرة "الحلول الدائمة" لأزمة اللاجئين، والتي تتمثل في خيارات ثلاثة: إما العودة الطوعية إلى الوطن، أو الاندماج المحلي في المجتمعات المضيفة، أو إعادة التوطين في بلد ثالث. لكن عملياً، تُغلق هذه المسارات بشكل متزايد؛ إذ تستمر النزاعات في إفريقيا الآن لمدة 20 عاماً في المتوسط؛ مما يجعل العودة شبه مستحيلة بالنسبة لمعظم اللاجئين. ومع استحالة إعادة التوطين، باستثناء نسبة ضئيلة، يُصبح الاندماج المحلي الخيار الوحيد القابل للتطبيق. ومع ذلك، يتطلب الاندماج موارد وإرادة سياسية ودعماً دولياً؛ وهو ما يصعب تحقيقه اليوم. ويُظهر الوضع في الصومال تعقيد هذا التحدي. فالصومال ليس مصدراً للاجئين فقط بسبب الصراع الدائر، بل هو أيضاً "بؤرة" لتأثيرات تغير المناخ؛ إذ يواجه فيضانات وانعدام الأمن الغذائي. وعندما تُخفّض المساعدات الأمريكية، تنعكس آثار ذلك على النظام الإنساني بأكمله؛ مما يؤدي إلى زيادة المعاناة وعدم الاستقرار، وفي نهاية المطاف، إلى المزيد من النزوح.

مقاربات إفريقية مبتكرة:

بالرغم من التحديات الهائلة التي تواجهها، قدمت الدول الإفريقية نماذج مبتكرة في إدارة أزمة اللاجئين، وهي بحد ذاتها تُعد مصدر إلهام على الصعيد العالمي. ولعل من أبرز هذه النماذج سياسة أوغندا التي تُعرف بـ الباب المفتوح"؛ حيث تستضيف البلاد أكثر من 6.1 مليون لاجئ وفقاً لتقديرات نهاية عام 2023، معظمهم من جنوب السودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية والسودان. وتمنح أوغندا اللاجئين حقوقاً واسعة تشمل العمل، والتنقل الحر، والوصول إلى الخدمات العامة مثل التعليم والصحة، كما توزع قطعاً من الأراضي الزراعية عليهم؛ ما يتيح لهم فرصة الاعتماد على الذات والمساهمة في الاقتصاد المحلي.  

وقد أظهرت دراسة للبنك الدولي أن اللاجئين في أوغندا أسهموا بنسبة 4% من الناتج المحلي الإجمالي في المناطق المضيفة عبر الزراعة والتجارة الصغيرة؛ مما يعكس تحولاً من الاعتماد على المساعدات إلى الشراكة الإنتاجية. 

أما في كينيا، فقد بدأت الحكومة منذ عام 2022 في تطبيق استراتيجية جديدة تسمح للاجئين بالانتقال إلى المدن والانخراط في سوق العمل عبر تصاريح خاصة؛ وهو تحول كبير عن سياسة العزل في المخيمات. أضف إلى ذلك فقد أقرت إثيوبيا عام 2019 قانوناً يمنح اللاجئين "حزمة من الحقوق" تشمل التعليم، والخدمات المصرفية، والتنقل، وقد استفاد من هذه الإصلاحات أكثر من 300 ألف لاجئ، لكن نقص التمويل يعرقل توسيعها، خاصة في ظل استضافة البلاد لنحو 800 ألف لاجئ إضافي من السودان منذ عام 2023.

ورغم هذه السياسات التقدمية، تظل المكاسب هشة في ظل نقص التمويل الدولي. فقد تم تأمين 13% فقط من احتياجات خطة الاستجابة للاجئين في أوغندا لعام 2024بحلول منتصف العام؛ ما أثر سلباً في قطاعات الصحة والتعليم وسبل العيش للاجئين والمجتمعات المضيفة، وقد أدى هذا النقص إلى تقليص الحصص الغذائية بنسبة 50% في بعض المناطق، وإغلاق مدارس ومراكز صحية، وزيادة الاعتماد على آليات المواجهة السلبية مثل عمالة الأطفال والهجرة غير الشرعية. وعلى أية حال تثبت التجربة الإفريقية أن إدماج اللاجئين في المجتمعات المضيفة ليس ممكناً فحسب، بل يُعد خياراً اقتصادياً وسياسياً مستداماً؛ إذا توفر له الدعم الدولي الكافي. ومع ذلك، فإن استمرار نقص التمويل يهدد بتقويض هذه النماذج المبتكرة ويعرض ملايين اللاجئين لخطر فقدان سبل العيش الكريم. 

ما العمل؟  

تُذكّرنا الأزمة الحالية بوضوح بأن قوة نظام اللاجئين العالمي لا تُقاس إلا بقوة أضعف حلقاته. فعندما تتخلى الدول الغنية عن مسؤولياتها، يقع العبء على عاتق الأقل قدرة على تحمله. والحل لا يكمن في إغلاق الحدود أو خفض المساعدات، بل في إعادة الالتزام بمبادئ التضامن والمسؤولية المشتركة واحترام حقوق الإنسان؛ وهذا يعني إعادة توطين اللاجئين وتوسيع نطاق برامج إعادة توطينهم، وزيادة التمويل الإنساني، ودعم الدول المضيفة في جهودها لدمجهم، كما يعني مواجهة العوامل الكامنة وراء النزوح - الصراع، وتغير المناخ، وعدم المساواة الاقتصادية- والعمل بشكل تعاوني لمعالجتها. وقبل كل شيء؛ يتطلب هذا تحولاً في طريقة التفكير: من النظر إلى اللاجئين على أنهم "مشكلة تحتاج إلى حل" إلى الاعتراف بهم كأفراد يتمتعون بحقوق، وقدرتهم على التأثير، وإمكانية المساهمة في مجتمعاتهم المضيفة. وعليه فإن حلول أزمة اللاجئين لن تأتي من الغرب وحده. لقد أظهرت الدول الإفريقية بالفعل قدرة على التفكير خارج الصندوق؛ وما تحتاجه الآن هو شراكة ودعم حقيقيان.

وختاماً فإن تعليق برنامج اللاجئين الأمريكي ليس مجرد قرار سياسي، بل هو اختبار أخلاقي للمجتمع الدولي. فهل ستواجه أغنى دول العالم هذا التحدي، أم ستتخلى عن الأكثر حاجة؟ إن الإجابة لن تُشكل مستقبل ملايين اللاجئين فحسب، بل ستُشكل أيضاً طابع مجتمعنا الإنساني العالمي. وفي النهاية، يكمن المقياس الحقيقي لإنسانيتنا في كيفية تعاملنا مع الفئات الأكثر ضعفاً بيننا. لقد كانت إفريقيا مثالاً يُحتذى به؛ إذ احتضنت اللاجئين حتى في مواجهة الشدائد. وقد حان الوقت لبقية العالم أن يحذو حذوها.



المراجع:

حمدي عبد الرحمن،24 .6. 2025، مقاربات إفريقية مبتكرة لمواجهة حظر ترامب للاجئين، مركز المستقبل.

ب، ن ،20.7.2025، الولايات المتحدة ترحّل مهاجرين لدولة أفريقية وسط مخاوف حقوقية، الجزيرة نت.

المقالات الأخيرة