في عالم تتشكل فيه تحالفات القوى وتتزاحم فيه المشاريع الجيوسياسية، تطل القمة الخامسة والعشرون لمنظمة شنغهاي للتعاون من مدينة تيانجين الصينية كحدث استثنائي يحمل في طياته إعادة تعريف لموازين القوى العالمية. فهذه المنظمة، التي تأسست عام 2001 لتكون بمثابة "حلف الناتو الشرقي"، لم تعد مجرد تجمع إقليمي للتعاون الأمني، بل تحولت إلى منصة استراتيجية وأمنية كبرى تشكل قطبًا عالميًا بديلًا يتحدى الهيمنة الغربية الأحادية.
وتأتي قمة تاينجين، والتي ستنعقد يومي 31 أغسطس و1 سبتمبر 2025 وسيحضرها قادة أكثر من عشرين دولة وأكثر من عشر منظمات دولية، في لحظة تاريخية تشهد حالة من عدم اليقين بشأن محادثات وقف إطلاق النار بين روسيا وأوكرانيا، واستمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في ظل حكومة يمينية متطرفة تسعى إلى تحقيق وهم "إسرائيل الكبرى"، والاضطرابات الجيوسياسية والتجارية العالمية الناجمة عن سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الأشهر الأخيرة، والتي أدت إلى زعزعة استقرار سلاسل التوريد ودفعت الدول الرئيسية إلى الاقتراب من منصات متعددة الأطراف بديلة مثل منظمة شنغهاي للتعاون.
زعماء العالم الذين سيستضيفهم الرئيس الصيني شي جينبينغ في قمة تيانجين، وفي مقدمتهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ورئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف، والرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، وغيرهم، سيسعون معًا إلى رسم خريطة جديدة للتعاون متعدد الأبعاد، من مكافحة الإرهاب إلى الربط بين مشاريع التنمية، ومن التكامل المالي إلى ابتكار أدوات دبلوماسية غير تقليدية. وبالتالي، لا ينبغي النظر إلى هذه القمة على أنها مجرد اجتماع دوري لمنظمة دولية صاعدة، بل باعتبارها إعلان صريح عن ولادة نظام عالمي متعدد الأقطاب، يقوده قادة يرفضون الانصياع لقطبية أحادية، ويصنعون بأياديهم مستقبلًا جديدًا تتوازن فيه القوى وتتعدد فيه المراكز.
ومن جهة أخرى، سوف يقوم عدد من هؤلاء الزعماء أيضًا بتمديد إقاماتهم في الصين لما بعد قمة تيانجين، وذلك من أجل حضور الاستعراض العسكري الضخم، الذي ستشهده بكين، في 3 سبتمبر 2025، بهدف استعراض "عضلات الصين العسكرية" بمناسبة الذكرى الثمانين لنهاية الحرب العالمية الثانية، وهو أمر ذو دلالة استراتيجية كبيرة سيتم التعرض لها لاحقًا.
الصعود المتواصل لمنظمة شنغهاي
تضم منظمة شنغهاي للتعاون، التي وصفها الرئيس الصيني شي جينبينغ بأنها "نموذج جديد للعلاقات الدولية"،عشر دول أعضاء وهي: الصين، وروسيا، وباكستان، والهند، وإيران، وكازاخستان وقيرغيزستان، وطاجيكستان، وأوزبكستان، وبيلاروسيا. وبالإضافة إلى ذلك، توجد 16 دولة أخرى تتمتع بوضع مراقب (دولتان هما أفغانستان ومنغوليا) أو شريك في الحوار (14 دولة أبرزها: مصر، والمملكة العربية السعودية، وتركيا، والإمارات، وقطر).
وتلتزم المنظمة، التي تمثل دولها أكثر من 41% من سكان العالم، وأكثر من 34% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي (تعادل القوة الشرائية)، وحوالي 24% من مساحة اليابسة في العالم، بالحفاظ على الأمن الإقليمي وتعزيز التنمية المشتركة، بـ "روح شنغهاي"، التي تتميز بالثقة المتبادلة، والمنفعة المتبادلة، والمساواة، والتشاور، واحترام الحضارات المتنوعة، والسعي لتحقيق التنمية المشتركة.
ومن خلال آليات مثل الهيكل الإقليمي لمكافحة الإرهاب RATS، يعمل أعضاء المنظمة معًا بفعالية للحفاظ على السلام والاستقرار الإقليميين من خلال مكافحة الإرهاب والانفصالية والتطرف كما حرص هؤلاء الأعضاء أيضًا على تعزيز الأطر الأمنية، وتوسعت التدريبات المشتركة بينهم لتشمل الفضاء الإلكتروني.
وقد شهدت هذه المنظمة صعودًا منتظمًا طوال الأربع والعشرين عامًا الماضية، تحت قيادة بكين، التي وجدت فيها منصة لإعلان وتنفيذ رؤيتها للعالم، والتي تتلخص في تقويض أسس النظام الغربي، وبناء بديل أكثر تعددية، تطلق عليه الصين "مجتمع ذي مستقبل مشترك للبشرية" وفي هذا الإطار، نشطت الدبلوماسية الصينية في تقديم مجموعة من الأدوات الملموسة التي تجذب الدول الراغبة في الخروج من تحت الهيمنة الغربية، ومن أبرز هذه الأدوات:
1- النظام المالي الموازي من خلال التوسع الهائل في تسوية المدفوعات بالعملات المحلية، لتجاوز الدولار الأمريكي وعقوباته.
2- مشروعات البنية التحتية العملاقة سواء في إطار "مبادرة الحزام والطريق"، أو من خلال تسريع إنشاء ممرات نقل قارية جديدة، مثل الممر الصيني-الروسي-دول آسيا الوسطى. وكانت هذه المشروعات بمثابة دليل فعلي على قدرة تحالف دول الشرق على التعاون معًا من أجل البناء والتنمية، مما يخلق فرصًا هائلة للاستثمار والعمالة للدول الشريكة معها.
3- فتح الخزائن التكنولوجية الصينية وتقديمها كـ"هدية" استراتيجية للأعضاء في منظمة شنغهاي. وكانت أنظمة مثل "بيدو" للملاحة (منافس الجي بي إس الأمريكي) ومشروع محطة الأبحاث القمرية الدولية رموزًا واضحة على قدرة بكين على تقديم بدائل تقنية متطورة وآمنة، بعيدًا عن المراقبة الغربية.
وفي هذا السياق، من المتوقع أن تكون قمة تيانجين بمثابة إعلان صريح بأن "نادي الشرق" قد نضج وأصبح جاهزًا للعب دور محوري في الشؤون العالمية كمنصة "للتعددية الحقيقية"، في تناقض صارخ مع ما تعتبره الصين، أحاديةً وحمائيةً تقودها الولايات المتحدة.
كذلك من المتوقع أن تسعى بكين، خلال هذه القمة وما بعدها، إلى توسيع نطاق التعاون بين دول منظمة شنغهاي للتعاون. وفي هذا الإطار، أكد المسئولون الصينيون أن القمة سترسم ملامح خطة تطوير المنظمة للعقد المقبل، والتي ستتجسد في "إعلان تيانجين" المرتقب، والذي سيركز على مواجهة تحديات اليوم، بما في ذلك التشرذم الاقتصادي والمخاطر الأمنية والتحولات التكنولوجية. بالإضافة إلى ذلك، من المتوقع أيضًا، خلال هذه القمة، توقيع أكثر من 20 وثيقة وقرارًا، تحدد أهدافًا للتعاون على المديين القصير والطويل. وربما الأهم من ذلك، من المتوقع أن تتناول المناقشات في قمة تيانجين بنك التنمية التابع لمنظمة شنغهاي للتعاون، وهو مؤسسة مالية جديدة مصممة جزئيًا على غرار بنك التنمية الجديد التابع لمجموعة البريكس.
الملفت في قمة تيانجين هو قدرتها الواضحة على جمع دول توجد خلافات حادة بينها - مثل الهند وباكستان كعضوين كاملين، وأرمينيا وأذربيجان كشركاء حوار. وفي الوقت نفسه، تأتي هذه القمة بعد إنشاء بكين للمنظمة الدولية للوساطة في هونغ كونغ في وقت سابق من هذا العام، الأمر الذي يوفر فرصة لمنظمة شنغهاي للتعاون لإحالة النزاعات بين أعضائها إلى هيئة دولية موثوقة في المستقبل. كما تنعقد هذه القمة أيضًا في وقت حققت فيه المنظمة تقدمًا كبيرًا في التعاون الأمني، خاصة في مجال إبرام الاتفاقات الأمنية لمكافحة الإرهاب أو في مجال إجراء مناورات عسكرية مشتركة بانتظام.
كذلك، تتيح قمة تيانجين أيضًا إمكانية إحياء التعاون الثلاثي بين الصين وروسيا والهند، خاصة وأن رئيس الوزراء الهندي سوف يشارك في هذه القمة مع الرئيسين الصيني والروسي. وفي هذا الإطار، يرى عدد من المراقبين أن ضغط واشنطن على نيودلهي بشأن استيرادها للنفط الروسي يدفع الهند نحو شركائها في روسيا والصين.
ومن ناحية ثالثة، يعد تعزيز التكامل الاقتصادي بين أعضاء المنظمة أمرًا محوريًا أيضًا في أعمال قمة تيانجين، حيث تجاوزت التجارة بين الصين ودول منظمة شنغهاي للتعاون 512 مليار دولار في عام 2024 ويتجاوز رصيد استثمارات بكين في الدول الأعضاء الأخرى 84 مليار دولار. وفي هذا السياق، يشير المراقبون إلى أن منظمة شنغهاي للتعاون رسخت مكانتها ككتلة تجارية وتحالف تكنولوجي في آنٍ واحد، حيث يحرص أعضاؤها على تقليل تأثرهم بالعقوبات الغربية وانقطاعات سلاسل التوريد.
رؤية مشتركة للتعاون الاقتصادي والأمني
ظل التعاون الاقتصادي دائما المحرك الأبرز لمسيرة منظمة شانغهاي. من تشغيل قطارات الشحن بين الصين وأوروبا بشكل منتظم، إلى تسارع بناء الممر الدولي عبر بحر قزوين، ومن التشغيل المستقر لأنابيب النفط بين الصين وكازاخستان والصين وروسيا، إلى توسع الممر الاقتصادي الصيني/ الباكستاني، تتشكل شبكة مترابطة تغطي الطرق البرية والسكك الحديدية وقطاع الطاقة. وتشير البيانات إلى أن حجم التجارة بين الصين ودول المنظمة بما فيها الدول المراقبة والشركاء في الحوار بلغ 890 مليار دولار في عام 2024 أي ما نسبته 14.4% من إجمالي التجارة الخارجية للصين وهو رقم يعكس القوة الحركية الاقتصادية وآفاقها الرحبة.
وفي الوقت ذاته، دفعت الصين إلى إنشاء قواعد زراعية تجريبية، ومناطق نموذجية للتجارة المحلية وقواعد للابتكار البيئي، ومراكز للتعاون في مجال البيانات الضخمة ضمن إطار المنظمة. ومن خلال تبادل الخبرات ونقل التكنولوجيا، تساعد الصين الدول الأعضاء على تحسين سلاسل الإنتاج والإمداد وتعزيز استقلالية التنمية واستدامتها. وأكد الرئيس شي أن المنظمة ينبغي أن تركز على بناء منصات تعاون في مجالات الطاقة النظيفة، والصناعات الخضراء، والاقتصاد الرقمي، والذكاء الاصطناعي وغيرها، بما يعزز إنتاجية نوعية جديدة. إن "الشعور بالكسب" الناتج عن هذه المشاريع العملية هو ما يمنح المنظمة قوة الاستمرار والتجدد.
أما ملف الأمن هو أساس التنمية وقد شدد الرئيس شي على أن الأمن الحقيقي هو أن يكون الجميع في مأمن لذلك، تركز الدول الأعضاء في المنظمة على تعزيز التعاون في المجالات الاستراتيجية والدفاع وإنفاذ القانون وأمن المعلومات والأمن البيئي والبيولوجي، مما يشكّل شبكة حماية متماسكة تجعل من المنظمة ركيزة استراتيجية لمواجهة مختلف التهديدات الأمنية التقليدية وغير التقليدية.
وفي قمة أستانا عام 2024، اتفقت الدول الأعضاء على إنشاء أربعة مراكز أمنية: مركز شامل لمواجهة التهديدات والتحديات الأمنية، مركز لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الحدود، مركز لأمن المعلومات، ومركز لمكافحة المخدرات واليوم، تسعى قمة تيانجين إلى دفع بناء هذه "المراكز الأمنية الأربعة" لتوفير دعم أقوى لأمن المنطقة.
مسار تطور النظام الدولي
تشكل القمة المقبلة لمنظمة شنغهاي للتعاون في تيانجين بالصين لحظة محورية في مسار تطور النظام الدولي، لا كمحطة دبلوماسية تقليدية، بل كإعلان عملي عن نضوج نموذج جيوسياسي واقتصادي بديل تقوده قوى شرقية بصورة أساسية. وهذا التحول قد يعيد تعريف مفاهيم السيادة والأمن والتعاون الاقتصادي في عالم يتجه بقوة نحو تعددية الأقطاب.
ولا شك أن قمة تيانجين والعرض العسكري الضخم، الذي سوف يعقبها، مصممان بعناية لإرسال رسالة واضحة إلى العالم مفادها أن "أركان نظام دولي جديد متعدد الأقطاب قد اكتملت، وهنا قادته وجنوده وآلياته". فهذا المشهد، الممتد من قاعة المؤتمرات في تيانجين إلى ساحة العرض العسكري في ميدان تيانمين في العاصمة بكين، هو أدق تعبير بصري عن رؤية بكين الجيوسياسية: عالم تقوده تحالفات شرقية، وتحميه قوات مسلحة حديثة، وتحكمه قيم سيادية لا غربية.
وفي ضوء هذه الاعتبارات، وغيرها، يتطلب الأمر من مؤسسات الدول المختلفة الاستفادة من هذه "الفرصة الاستراتيجية" التي توفرها منظمة شنغهاي للتعاون، وذلك من خلال العمل على ما يلي:
1- إجراء دراسة متعمقة لإمكانيات الانضمام إلى هذه المنظمة كعضو كامل.
2- تحديد المجالات ذات الأولوية للتعاون الاقتصادي والأمني والثقافي مع أعضاء المنظمة.
3 - تعزيز التنسيق الأمني مع دول المنظمة في إطار يحافظ على السيادة الوطنية.
على أية حال، يمكن القول إن قمة تيانجين لمنظمة شنغهاي للتعاون تمثل نافذة مهمة على طبيعة التحولات العميقة في النظام العالمي، وصعود دول الشرق في هذا النظام بشكل غير مسبوق، كما أن الجمع بين هذه القمة والعرض العسكري الصيني الضخم، الذي سيعقبها، ليس "صدفة"، وإنما يجسد هذا الجمع الربط الوثيق بين القوة الناعمة والصلبة في الاستراتيجية الصينية ففي تيانجين، سيتم وضع أدوات النظام الاقتصادي والأمني البديل، من تسوية المدفوعات بالعملات المحلية إلى آليات مكافحة الإرهاب وفي ساحة العرض العسكري، سيتم استعراض الأدوات العسكرية القادرة على حماية هذا النظام الناشئ، في حضور قادة روسيا وكوريا الشمالية وإيران والهند وغيرها والمشهدان معًا يشكلان عرضًا متكاملاً للقوة الشاملة التي تقدمها الصين كراعٍ للنظام العالمي الجديد.
المصدر: مركز الأهرام للدرسات السياسية والاستراتيجية
الكاتب: د. أحمد قنديل
التاريخ: 30/8/2025
---------------------------------------------------------------------------------
المصدر: العربية
الكاتب : تيان جيانينغ
التاريخ : 1/9/2025