في سياق دولي يزداد تعقيداً بفعل الأزمات المتعددة، عاد الحوار المباشر بين باريس وموسكو إلى الواجهة، بعدما أقدم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على الاتصال بنظيره الروسي فلاديمير بوتين في الأول من يوليو 2025. وهذا الاتصال الذي دام لأكثر من ساعتين لم يكن مجرد خطوة دبلوماسية عابرة، بل حمل في طيّاته رسائل إستراتيجية متشعّبة، في ظل رهانات متباينة لكل من فرنسا وروسيا على إعادة فتح قنوات التواصل. فمن جهة، تراهن باريس على استعادة دورها الدولي وسط التهميش الأوروبي المتزايد، ومن جهةٍ أخرى تستغل موسكو هذه المبادرة لكسر عزلتها وتثبيت موقعها كلاعب لا يمكن تجاهله في هندسة الأزمات العالمية.
دلالات رئيسية
جاء الاتصال بين ماكرون وبوتين في توقيت بالغ الدقة يعكس ظروفا دولية متشابكة فرضت إعادة فتح قنوات التواصل:
1- إحياء قنوات الاتصال بعد قطيعة دبلوماسية طويلة: جاء الاتصال بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره الروسي فلاديمير بوتين بعد قطيعة دامت قرابة ثلاث سنوات، وهو توقيت لا يمكن فصله عن السياق السياسي المضطرب الذي تمر به الساحة الدولية. ومنذ 11 سبتمبر 2022، تاريخ آخر مكالمة بين الرجلين، كان الحوار المباشر مجمّداࣧ بفعلالتصعيد العسكري الروسي في أوكرانيا وتزايد عزلة موسكو على الساحة الأوروبية. ومع ذلك، ظل ماكرون من القلائل في أوروبا الذين احتفظوا بخيوط اتصال غير مباشرة مع الكرملين، رغم الانتقادات التي واجهها داخلياً وخارجياً. واليوم، بعد تراكم الأزمات الإقليمية، وعلى رأسها النزاع الإيراني-الإسرائيلي (أو حرب 12 يوماً)، برزت الحاجة الملحّة لإعادة تفعيل القنوات الدبلوماسية مع روسيا باعتبارها فاعلاً مركزياً في ملفات الأمن الإقليمي والدولي، ما يكشف أن التوقيت لم يكن عفوياً، بل استجابة لحسابات دقيقة تتجاوز ملف الحرب في أوكرانيا.
2- تأثير ملف التصعيد النووي الإيراني: لم يكن الاتصال بين ماكرون وبوتين انعكاساً لرغبة في إذابة الجليد بقدر ما كان ضرورة فرضتها التطورات المتسارعة في الملف النووي الإيراني. بعد الضربات الصهيونية والأمريكية ضد المنشآت النووية الإيرانية، وتصاعد الحديث عن احتمال انسحاب طهران من معاهدة عدم الانتشار النووي، باتت فرنسا أمام خطر انهيار منظومة ضبط التسلح النووي في الشرق الأوسط. وفي هذا الإطار، برزت موسكو كلاعب لا يمكن تجاهله، بالنظر إلى دورها التاريخي في مفاوضات الاتفاق النووي لعام 2015، وقدرتها على التأثير على القيادة الإيرانية.
لكنّ اللافت في هذا السياق هو تقاطع الموقفين الفرنسي والروسي حول مستقبل البرنامج النووي الإيراني، في مقابل تصلّب واشنطن. ففي حين يطالب الأمريكيون بتفكيك كامل لقدرات تخصيب اليورانيوم الإيرانية، أظهرت باريس وموسكو استعداداً للقبول باستمرار التخصيب على الأراضي الإيرانية لأغراض مدنية تحت رقابة مشددة من مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بما يجنّب المنطقة انفجار أزمة نووية جديدة، ويؤسس لنهج تفاوضي أكثر واقعية بعيداً عن منطق الشروط التعجيزية.
3- حاجة فرنسا إلى استعادة حضورها في ملفات الشرق الأوسط: شهدت الأسابيع الأخيرة ما يشبه الإقصاء التدريجي للأطراف الأوروبية من طاولة القرارات الكبرى في الشرق الأوسط، وهو ما دفع باريس للتحرك لإعادة فرض حضورها. وفضلت الولايات المتحدة، تحت إدارة دونالد ترامب، العمل العسكري المباشر ضد إيران بالتنسيق مع إسرائيل، في حين بدا الاتحاد الأوروبي مهمشاً، يراقب من بعيد تصاعد التوترات دون القدرة على التأثير الفعلي. وبالنسبة لماكرون، فالاتصال ببوتين كان محاولة لاستعادة موقع فرنسا كوسيط دولي قادر على المبادرة، خصوصاً في ظل الفراغ الذي خلّفه ضعف الأداء الأوروبي الجماعي.
4- التنسيق الدولي ضمن إطار الدول النووية الخمس: حرص ماكرون على أن يتزامن اتصاله ببوتين مع سلسلة من المشاورات التي أطلقها مع بقية الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، ضمن ما يعرف بمجموعة "P5"، والتي تضم فرنسا، روسيا، الصين، الولايات المتحدة، وبريطانيا. والهدف الظاهري لهذه التحركات هو احتواء الأزمة النووية الإيرانية، لكن البعد الأعمق يتمثل في محاولة تنشيط دور هذه المجموعة كآلية لضبط الاستقرار العالمي، خاصة في ظل تصاعد المخاطر المرتبطة بانتشار الأسلحة النووية. بهذا المعنى، يصبح توقيت الاتصال جزءاً من استراتيجية فرنسية أشمل تسعى إلى توظيف الشرعية الدولية التي يوفرها مجلس الأمن، في ظل مخاوف من تفكك منظومة الضمانات النووية التي تأسست عقب الحرب الباردة.
5- استباق التحولات في العلاقة الأمريكية الروسية: يشهد السياق الدولي مؤشرات متزايدة على عودة الحوار الأمريكي-الروسي المباشر، خاصة مع صعود ترامب مجدداً إلى سدة الحكم، ما يثير مخاوف الأوروبيين من أن يتم تجاوزهم في الملفات الحساسة، مثل أوكرانيا وإيران. في هذا السياق، قرأ ماكرون التوقيت بدقة، فالاتصال ببوتين ليس فقط مبادرة فرنسية منعزلة، بل محاولة لإعادة أوروبا إلى قلب اللعبة الدبلوماسية، ومنع واشنطن من التفرد بإدارة الأزمات العالمية بالشراكة مع موسكو. ويرتبط التوقيت أيضاً بمحاولة باريس إعادة ترتيب أولوياتها الخارجية بعد إدراكها أن ترك فراغ في العلاقة مع الكرملين يهدد بإضعاف وزنها الاستراتيجي، خاصة إذا ما تم التوصل إلى تفاهمات ثنائية بين ترامب وبوتين بعيداً عن الأوروبيين، وهو ما سيجعل من فرنسا مجرد متلقٍ للقرارات بدل أن تكون جزءاً من صناعتها.
6- تهميش فرنسا وروسيا في الملف الإيراني: جاء توقيت الاتصال بين ماكرون وبوتين ليعكس بوضوح حجم التهميش الذي تعانيه كل من فرنسا وروسيا في الأزمة الإيرانية الأخيرة، حيث تحولت القرارات إلى رهينة للثنائية الأمريكية-الإسرائيلية بعيداً عن أي تنسيق فعّال مع بقية القوى الدولية. غير أن هذه الخطوة طرحت جدلاً داخلياً في فرنسا حول ما إذا كان من الضروري أن يضع رئيس الجمهورية نفسه في الواجهة للحوار مع بوتين، في ظل المخاوف من ردود فعل أوكرانيا ودول أوروبا الشرقية التي تعتبر أي تواصل مع موسكو بمثابة مكافأة سياسية غير مبررة.
محفزات سياسية
يكشف هذا الاتصال بين بوتين وماكرون عن تحولات في ميزان القوى الأوروبي وسط تباين رهانات الأطراف الأوروبية حول جدوى الحوار مع موسكو:
1- تراجع التأثير الأوروبي في تسوية أزمات الشرق الأوسط: يعكس اتصال ماكرون ببوتين حجم التراجع الأوروبي في القدرة على التأثير الفعلي في ملفات الشرق الأوسط الحساسة، خصوصاً بعد التصعيد النووي الأخير بين إيران والكيان الصهيوني. ولعبت أوروبا وتحديداً فرنسا دوراً محورياً منذ عام 2003 في المفاوضات المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني، لكنها وجدت نفسها مؤخراً على الهامش مع دخول الولايات المتحدة والكيان الصهيوني فيخيارات عسكرية أحادية الجانب. إدراكاً لهذا التهميش، أعلن الرئيس الفرنسي في 26 يونيو 2025 خلال قمة المجلس الأوروبي في بروكسل، عن نيّته إطلاق جولة مشاورات دبلوماسية مع الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، بهدف توحيد المواقف الدولية حول الملف النووي الإيراني ومنع تفاقم الأزمة.
2- محاولة فرنسية لملء الفراغ الأمريكي على الساحة الأوروبية: يشكّل الاتصال الذي أجراه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع نظيره الروسي محاولة واضحة من باريس لسدّ جزء من الفراغ الذي خلفه تراجع الدور الأمريكي في الملفات الأوروبية، خصوصاً في ظل مقاربة واشنطن المتذبذبة تجاه موسكو. فمنذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض، تزايدت مؤشرات انسحاب الولايات المتحدة التدريجي من الانخراط المباشر في بعض ملفات النزاع كأوكرانيا، كما عكسته قرارات مثل وقف تسليم منظومات باتريوت لكييف، ما أثار قلق العواصم الأوروبية من ترك الساحة فارغة أمام روسيا والصين. أمام هذا الواقع، تحاول باريس طرح نفسها كضامن لاستمرارية الحضور الأوروبي في إدارة الأزمات.
3- توظيف موسكو الحوار مع باريس لكسر العزلة الدولية: من منظور روسي، شكّل الاتصال مع ماكرون فرصة استراتيجية لكسر العزلة المتزايدة التي فرضها الغرب على موسكو منذ الهجوم على أوكرانيا. رغم العقوبات الواسعة والمقاطعة الدبلوماسية الأوروبية، أدرك بوتين أن مجرد انفتاح باريس على الحوار، ولو في قضايا محددة كإيران، يمنحه ورقة سياسية لإظهار روسيا كفاعل لا يمكن تهميشه دولياً. ويعكس الخطاب الروسي، الذي صوّر الحوار مع ماكرون كمؤشر على تآكل الجبهة الغربية الموحدة، محاولات الكرملين توظيف التناقضات الأوروبية لخدمة أهدافه في تثبيت السيطرة على أوكرانيا وتعزيز نفوذه في الشرق الأوسط.
4- غياب إستراتيجية أوروبية موحدة بشأن الحوار مع موسكو: لا يُبرز اتصال ماكرون ببوتين غياب رؤية أوروبية مشتركة تجاه روسيا فقط، بل أيضاً تصاعد الشكوك حول جدوى أي انفتاح دبلوماسي مع الكرملين. فقد سبق أن شهدت أوروبا انقساماً مماثلاً حين بادر المستشار الألماني السابق أولاف شولتز إلى التواصل مع بوتين في خريف العام الماضي، وهي خطوة قوبلت حينها بانتقادات واسعة من عدة عواصم أوروبية، وعلى رأسها كييف. هذه الشكوك تعمّقت بعدما أشار المستشار الألماني الحالي فريدريش ميرتس، إلى أن "آخر مكالمة بين بوتين وشولتز أعقبتها مباشرة هجمات على منشآت مدنية، بينها مستشفى للأطفال".
5- مخاوف باريس من تحوّل أوروبا إلى ساحة صراع بالوكالة: تخشى باريس من أن يؤدي استمرار الحرب في أوكرانيا من دون أفق دبلوماسي إلى ترسيخ حالة استنزاف طويلة الأمد للقارة، وسط سباق تسلّح متسارع وتوسّع النزعات العدائية التي قد تدفع أوروبا إلى موقع الساحة الرئيسية لصراع مفتوح بين موسكو والغرب. في هذا السياق، سعى الرئيس ماكرون، من خلال الاتصال ببوتين، إلى كبح هذا الانزلاق عبر طرح فكرة وقف إطلاق النار كمدخل ضروري لإعادة إطلاق المفاوضات، معتبراً أن غياب أي إطار تفاوضي حقيقي سيُبقي أوروبا تحت ضغط دائم ويهدد أمنها الجماعي. بالمقابل، جاء الموقف الروسي متشدّدا، حيث ربط بوتين أي تسوية بضرورة إزالة الأسبابالعميقة للأزمة الأوكرانية والاعتراف بالوقائع الجديدة على الأرض، في إشارة إلى احتلال أجزاء واسعة من أوكرانيا (نحو 20% من الأراضي الأوكرانية).
6- تآكل الدور الأوروبي الموحد مقابل تصاعد الأدوار الفردية: يعكس الاتصال بين ماكرون وبوتين مظهراً آخر من مظاهر التحولات في ميزان القوى الأوروبي، يتمثل في تراجع قدرة الاتحاد الأوروبي كمؤسسة جماعية على التأثير، مقابل عودة الأدوار الفردية للدول الأوروبية الكبرى، خاصة فرنسا وألمانيا، في إدارة الملفات الدولية. فبينما يفترض أن يتحدث الأوروبيون بصوت موحّد عبر مؤسساتهم، بات واضحاً أن المبادرات الفردية أصبحت البديل الواقعي أمام غياب توافق أوروبي شامل. هذا النمط من الحراك المنفرد يعكس أيضاً إدراك العواصم الأوروبية الكبرى أن توازن القوى الدولي يشهد إعادة تشكيل لصالح محاور محددة، حيث تلعب روسيا والصين والولايات المتحدة الأدوار الحاسمة، في حين يجد الاتحاد الأوروبي نفسه أمام معضلة التهميش والاضطراب الداخلي.
ختاماً، في ضوء هذا الاتصال، يتضح أن الملف الإيراني مثّل أرضية تقارب نسبي بين باريس وموسكو، ولا سيما بشأن حق إيران في تطوير الطاقة النووية المدنية ورفض امتلاكها للسلاح النووي. أما فيما يتعلق بأوكرانيا، فقد ظهرت مجددا الهوة العميقة بين الجانبين، مع إصرار روسيا على تحميل الغرب مسؤولية الحرب، وفرض واقع ميداني جديد في الأراضي الأوكرانية. في المقابل، لا تزال فرنسا متمسكة بخطاب دعم سيادة أوكرانيا وضرورة إقامة وقف لإطلاق النار. ورغم اختلاف المواقف، شكّل هذا الاتصال بداية انفتاح دبلوماسي لا يمكن التقليل من أهميته. لكن في ظل التناقضات الجوهرية، يبدو أن التوصل إلى تسوية حقيقية في أوكرانيا ما زال بعيد المنال في المدى المنظور.
المراجع
_ نورا الصمد، 7/7/2025، ما هي رسائل الانفتاح الدبلوماسي بين ماكرون وبوتين؟، انترريجونال للتحليلات السياسية.
_ وكالات، 3/7/2025،أول تواصل مباشر بين ماكرون وبوتين منذ 2022، TRANSPARENCY.