تعيش منطقة القرن الأفريقي حالة من الترقب مخافة اندلاع حرب إقليمية جديدة محتملة طرفيْها إثيوبيا وإريتريا، وذلك في ضوء حرب التصريحات العدائية المتبادلة لمسئولي البلدين على مدار الشهور القليلة الماضية، بما يعكس دينامية التحالفات الإقليمية المتغيرة في المنطقة. إذ سرعان ما انتقل آبي أحمد، رئيس الوزراء الإثيوبي، والرئيس الإريتري أسياس أفورقي، من حالة التحالف المقدس في الحرب الإثيوبية الأخيرة على إقليم تيجراي (نوفمبر 2020- نوفمبر 2022) إلى مرحلة جديدة من العداء ربما تدفع الطرفين إلى التورط في صراع إقليمي موسع، ستكون تداعياته كارثية على الاستقرار النسبي الذي تتمتع به المنطقة.
وحقيقة الأمر، إن الطرفين الإثيوبي والإريتري ليسا بحاجة إلى هذه الحرب، عمليًّا، في ضوء التركة الثقيلة التي خلفتها حرب تيجراي قبل ثلاث سنوات بالنسبة للدولة الإثيوبية ولا تزال تداعياتها السلبية مستمرة حتى الوقت الراهن على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية، بالإضافة إلى سلسلة الأزمات الداخلية التي تشكل عبئًا ثقيلًا على حكومة آبي أحمد، التي تستعد لتجديد الثقة فيها خلال الانتخابات التشريعية المقبلة في 2026. وعلى الجانب الآخر، تعاني إريتريا منذ سنوات حالة من العزلة المفروضة عليها إقليميًّا ودوليًّا، وما يترتب عليها من تأثير سلبي على أوضاعها الاقتصادية والسياسية.
الاتجاهات الرئيسية في القرن الأفريقي
يتسم المشهد الإقليمي في منطقة القرن الأفريقي بدرجة كبيرة من التعقيد، في ضوء سلسلة الأزمات الإقليمية التي تواجه دول المنطقة من حروب أهلية وإقليمية وصراعات سياسية وسيادة متنازع عليها ونزعات انفصالية ومنافسات دولية وإقليمية، وهو ما يدفع لإلقاء المزيد من الضوء حول أبرز الاتجاهات الرئيسية التي تسهم في تشكيل المشهد الإقليمي بالمنطقة. ويمكن الإشارة إلى أبرز تلك الاتجاهات على النحو التالي:
1- علاقات إقليمية معقدة: يزداد التوتر الإقليمي بين بعض دول القرن الأفريقي خلال الفترة الأخيرة. وذلك نتيجة تعارض المصالح في عدد من الملفات الإقليمية، حيث أدى توقيع إثيوبيا اتفاقًا مبدئيًا مع إقليم "أرض الصومال" في يناير 2024 إلى خلاف محتدم مع الصومال، الذي نجح في ممارسة المزيد من الضغط على الجانب الإثيوبي للتراجع عن هذا الاتفاق.
2- ديناميكيات الصراع بالوكالة: أضحت بمثابة ورقة رابحة تلوح بها دول القرن الأفريقي ضد بعضها البعض من أجل ممارسة المزيد من الضغط في بعض الأزمات. فعلى الرغم من تراجع فكرة الصراع بالوكالة -ولو نسبيًّا- في المنطقة خلال السنوات الأخيرة، نتيجة للعلاقات الإيجابية التي ربطت بين دولها، لكن سرعان ما أدت الخلافات بينها إلى التلويح بهذه الورقة.
3- تصاعد الخطاب التحريضي: تعكس الخطابات التحريضية التصعيدية العدائية بين بعض دول المنطقة خلال الفترة الماضية مناخًا ملائمًا لاشتعال حرب إقليمية في القرن الأفريقي. فقد فجرت تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد حول إصرار إثيوبيا على الوصول إلى البحر الأحمر باعتباره ضرورة وجودية، سلسلة التوترات الإقليمية مع كل من إريتريا والصومال وجيبوتي، لا سيما أنها اعتُبرت بمثابة إعلان حرب كما وصفها الرئيس الإريتري أفورقي، كونها تكشف عن النوايا الإثيوبية التوسعية في دول جوارها الإقليمي؛ بما يهدد سيادتها الوطنية على سواحلها البحرية وموانئها الاستراتيجية، وهو ما دفع الرئيس الجيبوتي إلى القول بأن جيبوتي ليس جزيرة القرم، في إشارة إلى رفضه للوجود الإثيوبي البحري على أراضيه.
4- تحالفات إقليمية وداخلية متغيرة: هناك تحولات دراماتيكية تطرأ على التحالفات الإقليمية التي باتت تتسم بالتغير خلال الفترة الأخيرة في القرن الأفريقي إذ سرعان ما تحول التحالف المقدس بين آبي أحمد وأفورقي الذي استمر أربع سنوات تقريبًا (2018- 2022) إلى تجدد العداء التاريخي بينهما منذ توقيع اتفاق بريتوريا في 2022، وهو ما دفع أسمرة للتوجه نحو محور (مقديشو – القاهرة) في محاولة للضغط على إثيوبيا من أجل التراجع عن ممارساتها الإقليمية التي تهدد أمن واستقرار دول المنطقة.
5- سباق التنافس على منفذ بحري: تمثل محاولات إثيوبيا للوصول إلى البحر الأحمر أحد أبرز دوافع تصاعد التوترات الإقليمية في منطقة القرن الأفريقي. وذلك في ظل المخاوف لدى دول المنطقة من النمط التوسعي الإثيوبي الذي تعكسه تصريحات آبي أحمد على مدار العامين الماضيين بشأن حتمية الحصول على منفذ بحري للتغلب على معضلة الدولة الحبيسة بالنسبة لإثيوبيا، وهو ما أدى إلى توتر العلاقات بين إثيوبيا وكل من الصومال وإريتريا التي تكثف استعداداتها العسكرية تحسبًا لأي مواجهة عسكرية محتملة مع أديس أبابا.
6- تصاعد النشاط الإرهابي: يُضاعف توسع نشاط تنظيم داعش في ولاية بونت لاند بالصومال من مخاطر تهديدات الإرهاب في الصومال وانعكاساته السلبية على أمن واستقرار دول الجوار الإقليمي في القرن الأفريقي، بالإضافة إلى تهديد أمن الملاحة البحرية في البحر الأحمر. فلا تزال حركة الشباب المجاهدين تنشط في وسط وجنوب الصومال، وما يشكله ذلك من تهديد متنامٍ لدول المنطقة، وفي مقدمتها كينيا التي تشهد تمددًا لعناصر حركة الشباب الذين يتورطون في تنفيذ عدد من الضربات الإرهابية خلال السنوات الأخيرة.
7- تنافس دولي مستمر: تكتسب منطقة القرن الأفريقي باستمرار المزيد من الاهتمام من قبل الأطراف الدولية، بما تتميز به من مقومات جغرافية واستراتيجية واقتصادية وغيرها جعلتها على رأس أجندات القوى الفاعلة والطامحة للعب دور بارز في المنطقة. ويحتدم التنافس بين الولايات المتحدة والصين هناك بشكل أساسي، في ظل رغبة كل طرف في تأكيد نفوذه على حساب الطرف الآخر، وهو ما دفع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى دعم وجود القوات الأمريكية في القرن الأفريقي -وذلك عكس سياسته في فترة ولايته الأولى 2017- ولعب دور بارز في مواجهة الإرهاب في الصومال، وذلك بهدف عدم ترك الساحة للاعب الصيني أو الروسي لتوسيع نفوذهما على حساب واشنطن.
محفزات اندلاع حرب محتملة
فرضت الأزمة الراهنة بين إثيوبيا وإريتريا نفسها على الساحة الإقليمية في القرن الأفريقي، وذلك في ضوء التكهنات بالتصعيد وصولًا إلى اندلاع حرب إقليمية واسعة بين الطرفين مع احتمال انخراط أطراف أخرى بما يؤجج الصراع في المنطقة.
ولا يمكن التسليم بأن الأطماع الإثيوبية البحرية التي تجلت في تصريحات رئيس الوزراء آبي أحمد منذ أكتوبر 2023 بشأن الضرورة الحتمية للوصول إلى البحر الأحمر، تشكل وحدها الدافع الرئيسي لتفاقم التوتر بين البلدين بل يمكن القول إن الخلاف بين الحليفيْن السابقيْن قد بدت ملامحه تتشكل في أواخر عام 2022 مع توقيع حكومة آبي أحمد اتفاق بريتوريا في نوفمبر 2022، الذي أنهى القتال العنيف مع جبهة تحرير تيجراي، والذي تعمد فيه الأخير تهميش حليفه أفورقي، الذي سعى بشكل رئيسي من خلال تورطه في هذه الحرب إلى القضاء بشكل نهائي على الجبهة التي مثلت خصمًا لدودًا وتهديدًا وجوديًّا لنظامه الحاكم في أسمرة منذ تسعينيات القرن الماضي، وهو ما أدى إلى انهيار التحالف بينهما الذي لم يتجاوز نحو 4 سنوات تقريبًا.
وسرعان ما تحول الخلاف المكتوم بين الطرفين إلى توتر متصاعد، حيث انخرط كل طرف في عدد من الإجراءات التي أسهمت في تدني مستوى العلاقات بين البلدين إلى درجة القطيعة خلال الفترة الأخيرة، وأضحت في ذات الوقت بمثابة محفز لاندلاع حرب إقليمية بين أديس أبابا وأسمرة.
إذ ترى أديس أبابا أن أسمرة متورطة في صراعات المنطقة، وأن الرئيس أفورقي مهووس بإشعال النزاعات والصراعات الإقليمية، وأنه يرى السلام الإقليمي يمثل عقبة أمام تطلعاته لتوسيع نفوذه الإقليمي في القرن الأفريقي.
لذلك، سارعت الحكومة الإثيوبية إلى إطلاق المزيد من التصريحات التي تتهم فيها إريتريا بالتحضير للهجوم على البلاد، حيث عكس خطاب آبي أحمد في 3 يوليو 2025 نوايا أديس أبابا تجاه أسمرة، إذ حمّل جبهة تيجراي مدعومة من إريتريا مسئولية أي عودة للصراع العسكري، وهو ما دفع الحكومة الإريترية لاتهام حكومة آبي أحمد باتباع أجندة تعتزم من خلالها الاستيلاء على الموانئ الإريترية عسكريًّا. كما أرسلت أديس أبابا خطابًا إلى الأمم المتحدة في 20 يونيو 2025 اتهمت فيه الجانب الإريتري وجبهة تحرير تيجراي بالتآمر للقيام بأعمال هجومية خلال موسم الأمطار الذي يستمر عادة من منتصف يونيو 2025 إلى منتصف سبتمبر 2025.
في المقابل، ترى أسمرة أن تصريحات القادة في إثيوبيا حول ضرورة الوصول للبحر الأحمر وبخاصة عبر ميناء عصب الإريتري، يعكس المساعي الإثيوبية لمحاولة جرِّ أسمرة إلى حرب إقليمية مدمرة. فقد اتهم الرئيس أفورقي في 19 يوليو 2025 أديس أبابا بالتجهيز للحرب، ووصف طموح آبي أحمد بالحصول على ميناء بحري بأنها "خطة رجل مجنون". وشدد أفورقي على أن بلاده لا تطمح لشن حرب، لكن إذا فُرضت عليها فهي تعرف كيف تدافع عن نفسها. كما وجه الرئيس الإريتري في 24 مايو 2025 اتهامًا للجانب الإثيوبي بارتكاب أعمال تخريب علنية وسرية، وهو ما رفضته حكومة أديس أبابا متهمة أسمرة بالتدخل في السيادة الإثيوبية.
وفي تطور لافت، صوتت إثيوبيا في يوليو 2025 ضد طلب إريتري إنهاء مهمة المقرر الخاص للأمم المتحدة لحالة حقوق الإنسان في إريتريا. ويُظهر التصويت الإثيوبي تحولًا جذريًّا في النهج الدبلوماسي نحو أسمرة منذ توقيع اتفاق السلام الإقليمي في عام 2018.
كما تتهم أديس أبابا حكومة أفورقي بالسعي لمحاصرتها في إقليم تيجراي، وذلك في ضوء العلاقة التي تربط النظام الإريتري مع جبهة تحرير تيجراي (فصيل ديبرتسيون جبريمايكل)، بما يعزز دعم أسمرة للجبهة؛ بهدف السيطرة على إدارة جنوب تيجراي، خاصة بعدما أعلن جبريمايكل في مايو 2025 نية الجبهة تأكيد السيطرة الإدارية على منطقة جنوب تيجراي والتخلص من إدارتها، في ضوء مساعي حكومة آبي أحمد لتقسيم الإقليم إلى ثلاث مناطق مستقلة.
وفي الوقت الذي أكد فيه آبي أحمد أن بلاده أخطأت بالتخلي عن الوصول للموانئ البحرية في إريتريا، وأن تصحيح الخطأ هو مسألة وقت، يشير الإريتريون إلى أن استقلال بلادهم جاء بعد حرب استمرت ثلاثة عقود أطاحت خلالها بنظامي هيلا سيلاسي ومانجستو في إثيوبيا، وهو ما يعكس تحذيرًا إريتريًّا مستترًا من تورط الجانب الإثيوبي في أي مشروع عسكري محتمل ربما يعجل بانهيار نظام آبي أحمد.
تحركات تكتيكية مشتركة
يصاحب الخطاب التصعيدي من جانب إثيوبيا وإريتريا الذي أسهم في تعميق التوتر بين البلدين خلال الفترة الأخيرة، تحركات تكتيكية يقوم بها الطرفان في محاولة لتعزيز قدراتهما وحضورهما العسكري بالقرب من الحدود المشتركة وتتمثل أبرز تلك التحركات في مسارين أساسيين هما؛ حشد واستمالة المزيد من الحلفاء والشركاء المحليين، والحشد والتعبئة العسكرية بما في ذلك تعزيز التجهيزات اللوجستية للقوات من الجانبين.
وتتزايد التكهنات حول اندلاع الحرب المحتملة في ساحتين للقتال هما إقليم تيجراي شمال إثيوبيا، ومنطقة عصب في إريتريا، حيث أن ميناء عصب يمثل رمزًا استراتيجيًّا كأحد أبرز أسباب قيام الحرب الإثيوبية-الإريترية (1998- 2000)، كما يُنظر إلى عصب باعتبارها نقطة اشتعال محتملة للحرب في هذه المرحلة، مع احتمال تمدد القتال المحتمل إلى منطقة عفر شرق إثيوبيا بالقرب من الحدود المشتركة مع إريتريا. إذ ربما تصبح منطقة عفر المحور التالي للمنافسة العسكرية بين إريتريا وإثيوبيا، بما يجذب الأطراف الإقليمية إلى مواجهة عسكرية مفتوحة تغذيها تمدد وتداخل قومية عفر إثنيًّا في دول إثيوبيا وإريتريا وجيبوتي، بما يجعل منطقة عفر مسرحًا مثاليًّا للحرب المباشرة وكذلك الحرب بالوكالة بين الطرفين.
ومع ذلك، تشير تقارير إلى صعوبة قيام الحرب في عصب الإريترية وضواحيها، ما قد يدفع أسمرة لنقل جبهة القتال إلى إقليم تيجراي -الذي يعد الساحة الأكثر ترجيحًا لاستقبال الحرب المحتملة المقبلة- مستفيدة من علاقتها مع جبهة تحرير تيجراي، خاصة عقب انسحاب القوات الإثيوبية من الحدود الشمالية الإثيوبية المشتركة مع إريتريا، بما قد يخفف الضغوط على الجيش الإريتري ليعزز قواته عند الحدود المشتركة مع إقليم عفر، الذي ربما يتفجر فيه القتال المحتمل بين الطرفين الإثيوبي والإريتري، وذلك في ضوء احتضانه مجموعات معارضة إريترية وفصيل من إقليم تيجراي، ربما تستفيد منه الحكومة الإثيوبية في قتالها ضد القوات الإريترية، وهو ما قد يزيد من تعقيد المشهد الأمني الهش في الداخل الإثيوبي، وبالتبعية في منطقة القرن الأفريقي.
وفي هذا الصدد، تسعى حكومة آبي أحمد إلى حشد معظم أبناء قومية عفر، للانخراط في الحرب المحتملة حال اندلاعها، مستغلة في ذلك التداخل الإثني لقومية عفر في إريتريا وكذلك جيبوتي، وبالتالي أحقيتها في الوصول إلى البحر الأحمر. ومن هنا، تقدم الحكومة الإثيوبية الدعم للجماعات العفرية المعارضة للنظام الإريتري، بحيث تمنحها مكاتب ومساحة حرية للعمل في إقليم عفر، ومن أبرز تلك الجماعات منظمة البحر الأحمر الديمقراطية في عفر، والمؤتمر الوطني الإريتري للعفر.
ومع تقارب النظام الإريتري مع جبهة تحرير تيجراي، فيما يعرف بتحالف Tsimdo الذي بات يشكل تهديدًا استراتيجيًّا لآبي أحمد، خاصة أنه في حالة تطوره لتحالف ملموس، من المرجح أن يلعب دورًا في الحيلولة دون قدرة آبي أحمد على الضغط عسكريًّا على إريتريا أو تيجراي. وربما يفتح هذا التحالف المجال أمام استقطاب أطراف داخلية في إثيوبيا مثل ميلشيا فانو في أمهرة المتحالفة مع أسمرة، التي ربما تنجح في تجاوز حليفيْها الجديدين (تيجراي وأمهرة) للخلافات القائمة بينهما على مدار السنوات الماضية، وهو ما قد يحد من قدرة آبي أحمد العسكرية في المنطقة، وربما يدفعه نحو إعادة التفكير جيدًا في بدء حرب شاملة في الشمال الإثيوبي مع احتمال توسعها إقليميًّا في الأراضي الإريترية.
على صعيد آخر، يسعى كل طرف إلى الاستعداد جيدًا على الصعيد العسكري، تحسبًا لأي تصعيد عسكري محتمل في أي وقت. ففي يوليو 2023، تم رصد نقل القوات الإثيوبية أسلحة ثقيلة إلى المناطق الشرقية من البلاد بالقرب من الحدود المشتركة مع إريتريا على مسافة قريبة من عصب. وشهدت الشهور الأخيرة حشدًا وتعبئة عسكرية من الطرفين الإثيوبي والإريتري على جانبي الحدود المشتركة بين البلدين؛ مما أدى إلى تعميق الشكوك المتبادلة بينهما.
ومع ذلك، تظل هذه التحركات بين الجانبين الإثيوبي والإريتري مؤشرًا دالًا على تصعيد التوتر بين البلدين، لكنها ليست دليلًا على قرب اندلاع الحرب الإقليمية في القرن الأفريقي، لا سيما أن الطرفين المتنازعين يؤكدان في أكثر من مناسبة خلال الفترة الأخيرة أنهما لا يرغبان في التورط في صراع عسكري بالمنطقة.
حسابات الأطراف الفاعلة
تبدو حسابات الأطراف الفاعلة في المشهد الإقليمي الراهن بالقرن الأفريقي متباينة في ضوء تضارب المصالح والأهداف الاستراتيجية لكل منها، ويمكن الإشارة إلى أبرزها على النحو التالي:
1- إثيوبيا: بات آبي أحمد يدرك أن الرئيس أفورقي أصبح عائقًا أمام وصول إثيوبيا إلى البحر الأحمر عبر موانئ إريتريا وبخاصة ميناء عصب الاستراتيجي بالنسبة لأديس أبابا لقربه الجغرافي منها. ومن ثم، إن وصول إثيوبيا لميناء عصب يتطلب التخلص من نظام الرئيس أفورقي، وربما يرى آبي أن الحل الوحيد هو اندلاع حرب تستطيع من خلالها إثيوبيا استعادة فرض سيطرتها على موانئ إريتريا بالقوة، إلا أن الأمر يبدو صعبًا في هذه المرحلة التي بدأت تطرأ عليها مستجدات وتغيرات استراتيجية ربما تسهم في قلب توازنات القوة العسكرية في المنطقة -ولو نسبيًّا- لغير صالح إثيوبيا.
2- إريتريا: تسعى أسمرة إلى حماية سيادتها الوطنية الكاملة على موانئها البحرية، من خلال التأكيد على رفضها لأي وجود إثيوبي على سواحلها البحرية في ميناء عصب الإريتري الاستراتيجي، وهو ما يدفعها باستمرار للتحذير من أي خطوة إثيوبية غير محسوبة قد تؤدي إلى زعزعة استقرار القرن الأفريقي.
3- جبهة تحرير تيجراي: تدرك الجبهة أنها لا تزال رقمًا صعبًا في المعادلة السياسية الإثيوبية، وأيضًا في المعادلة الإقليمية بالقرن الأفريقي، خاصة أنها باتت تشكل مصدر خطر لآبي أحمد في ضوء علاقاتها المتميزة مع النظام الإريتري الحاكم خلال الفترة الأخيرة، والذي أضحى واقعًا سياسيًّا ربما يترتب عليه إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية في القرن الأفريقي.
وفي ضوء مساعي آبي أحمد لضمان تقويض جبهة تيجراي ونفوذها السياسي والعسكري الذي يتحدى حكمه منذ عام 2018، تجد الجبهة نفسها بحاجة إلى حليف إقليمي جديد لكي تفرض المزيد من الضغوط السياسية على الحكومة الإثيوبية، وضمان عدم تعرضها لحرب جديدة من قبل نظام آبي أحمد. ويمثل التحالف مع الجانب الإريتري هو الخيار الأمثل لجبهة تحرير تيجراي، نظرًا لما يعنيه بانهيار التحالف السابق بين أسمرة وأديس أبابا، وبالتالي ضمان عدم شن حملة عسكرية مزدوجة محتملة على الإقليم في المستقبل. وربما يسهم تحالف تيجراي مع أسمرة في الإطاحة بنظام آبي أحمد، على غرار التحالف الإريتري الإثيوبي للتخلص من نظام مانجستو (الدرج) في عام 1991، وهو ما قد يعكس أهمية التحالف الجديد Tsimdo الذي يستهدف تعزيز التضامن بين شعب تيجراي وإريتريا.
ومع ذلك، تتخوف جبهة تحرير تيجراي من الإجراءات التي تدعمها حكومة آبي أحمد إزاء الإقليم من أجل تقسيمه، حيث تسعى الإدارة المؤقتة الجديدة لإقليم تيجراي المدعومة من أديس أبابا إلى استيعاب كل مطالب التقسيم بالإقليم، بما في ذلك السماح ضمنيًّا لزعيم منطقة تيجراي الجنوبية بإعلان منطقة جديدة. كما دعمت تأسيس ميلشيا Tekeze Zeb في غرب تيجراي، وهو ما يعد سابقة خطيرة تنذر بتفكيك وتقسيم منطقة تيجراي إلى ثلاث مناطق جديدة، وهو ما يعني إضعاف الإقليم وتهميشه، بما يعزز قوة وسيطرة الحكومة الإثيوبية في الإقليم، الأمر الذي يعمق تعقيد المشهد السياسي الإثيوبي.
يبدو أن إثيوبيا باتت تطمح للعب دور -بإيعاز من أطراف دولية وإقليمية ذات مصالح حيوية في القرن الأفريقي- يهدف إلى محاولة إعادة هندسة الجغرافيا السياسية لمنطقة القرن الأفريقي، حيث أن أصداء الطموحات الإمبريالية لإثيوبيا تطل من جديد في عهد آبي أحمد، الذي أصدر تصريحات مثيرة للجدل بشأن ضرورة إصلاح أخطاء الماضي باستعادة ميناء عصب مرة أخرى بما يعكس طموحات آبي أحمد التي ربما تكون أبعد من مجرد الاستيلاء على ميناء عصب، ليتجاوزه إلى رغبته في الهيمنة الكاملة على القرن الأفريقي، مستفيدًا في حالة قيام حرب مع إريتريا من الدعم الدولي المتوقع على غرار مساندته في حرب تيجراي الأخيرة، ومحاولة إقناع بعض الأطراف الإثيوبية الداخلية مثل قومية عفر بمساندة الجيش الإثيوبي في مواجهته العسكرية المحتملة مع إريتريا.
في المقابل، تدرك إريتريا جيدًا مطامع وطموحات النظام الإثيوبي، وهي تعبر عن مخاوفها باستمرار من مخاطر التوسع الإثيوبي، ما يدفعها نحو محاولة تأسيس منطقة عازلة استراتيجية بينها وبين أديس أبابا عبر تحالفها مع جبهة تحرير تيجراي (فصيل ديبرتسيون جبريمايكل) في إقليم تيجراي، وهو ما يعكس انعدام الثقة بين الحليفيْن السابقيْن، بما قد يترتب عليه تفاقم الخلاف الإقليمي بينهما، وربما اندلاع صراع عسكري في القرن الأفريقي.
إجمالًا، يدرك الجميع في القرن الأفريقي أن تكلفة أي حرب محتملة قادمة ستكون باهظة، ومع ذلك من الوارد أن يغلب آبي أحمد وأفورقي طموحاتهما الشخصية لتحقيق أهدافهما الاستراتيجية في المنطقة على حساب مصالح بلديهما. فلا يزال كل طرف يحشد حلفاءه الداخليين والدوليين تمهيدًا لنقطة اشتعال الحرب هناك. وإن كان الأمر يظل مرهونًا بعدد من العوامل المهمة على رأسها موقف المجتمع الدولي بما في ذلك القوى الفاعلة الكبرى بشأن مخاطر احتمال اندلاع صراع إقليمي في المنطقة وتأثيره على المصالح الاستراتيجية الدولية هناك، الأمر الذي ربما يرجح ممارسة القوى الدولية سلسلة من الضغوط الدولية على الجانبين الإثيوبي والإريتري من أجل التراجع عن أي خطط عسكرية تؤدي إلى حرب إقليمية في القرن الأفريقي خلال الفترة المقبلة.
المصدر: مركز الأهرام للدرسات السياسية والاستراتيجية
الكاتب : د. أحمد عسكر
التاريخ : 16/9/2025
---------------------------------------------------------------------------------
المصدر: أمد للدراسات
التاريخ : 9/4/2025