الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية
فرع القاهرة

شهدت الأيام الماضية زخماً دبلوماسياً تاريخياً لصالح الاعتراف بالدولة الفلسطينية ومن المتوقع أن يصل عدد الدول المعترِفة بفلسطين إلى 159 دولة من أصل 193 دولة عضواً في الأمم المتحدة، مع اعتراف ما يقارب 10 دول جديدة.

وقد قامت كل من بريطانيا، وفرنسا، وكندا، وأستراليا، والبرتغال بالفعل بالاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينية ومن المتوقع أن تحذو حَذْوها دول أخرى مثل بلجيكا، ولوكسمبورغ، ومالطا، وسان مارينو وأندورا.

وتأتي هذه التطوُّرات بالتزامن مع انعقاد الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث تستضيف الأمم المتحدة مؤتمراً حول "حلّ الدولتين".

يحمل هذا الاعتراف الدولي المتنامي عدة دلالات إستراتيجية، أبرزها أن هذا التوجه غير المسبوق يمثل نقطة تحوُّل في مسار تعاطي المجتمع الدولي مع القضية الفلسطينية، ومحاولة الدول المعترِفة تصحيح خطأ تاريخي تعرض له الشعب الفلسطيني.

وتعكس هذه الاعترافات محاولة من حكومات هذه الدول لاتخاذ مواقف إيجابية لنسبة كبيرة من الناخبين والمواطنين في بلدانها، بحيث تبدو هذه الحكومات وكأنها قامت بما ينبغي القيام به في مواجهة عمليات الإبادة والتهجير التي تشهدها غزة منذ أكثر من عامين.

أهمية الاعتراف الرسمي

بالنسبة لفلسطين، تحمل هذه الاعترافات أهمية على المستوى الدبلوماسي والقانوني. فعلى المستوى الدبلوماسي، ستسمح هذه الخُطوة برفع مستوى تمثيل السفارات الفلسطينية، مما يعزز الشخصية القانونية للدولة كما أنها قد تزيد الضغط على إسرائيل لإنهاء الاحتلال، وتساعد فلسطين على السعي للحصول على عضوية كاملة في الأمم المتحدة بدلاً من وضع "عضو مراقب" ، رغم أن هذا يتطلب موافقة مجلس الأمن، حيث تملك الولايات المتحدة حقّ النقض (الفيتو).

وعلى الرغم من أهميتها الرمزية، فإن هذه الخُطوة محدودة التأثير على الأرض على المستوى القصير، خاصة في ظلّ استمرار الحرب في غزة وتصاعُد الاستيطان في الضفة، ولا تعدو في الواقع أن تكون مجرد "لفتة رمزية" لتخفيف الضغط السياسي الداخلي على حكومات الدول المعترِفة بفلسطين.

إلا أن هذه الاعتراف يُرتّب على المستوى المتوسط والبعيد التزامات على الدول المعترِفة لمراجعة علاقاتها مع إسرائيل، وربما اتخاذ خُطوات عملية مثل حظر منتجات المستوطنات.

وبلا شك فإن الاعترافات المتتالية تُمثّل خسارة دبلوماسية بالنسبة لإسرائيل على المستوى الدولي، وهي التي رفضت -وما تزال ترفض- بحث فكرة حلّ الدولتين، وتؤكد بشكل مستمر على أن فكرة الدولة الفلسطينية مرفوضة بالمطلق إسرائيلياً.

وفي ظلّ سيطرة اليمين المتطرف على السلطة في إسرائيل، ففي الغالب ستدفع هذه الاعترافات إلى مزيد من الإجراءات العدوانية في غزة والضفة الغربية، حيث سيحاول بنيامين نتنياهو وحلفاؤه في الائتلاف الحاكم إرضاء ناخبي اليمين، وإقناعهم بأن إسرائيل لم تتأثر بهذه الخسارة الدبلوماسية، وأنها أخذت خُطوات إضافية على الأرض بما يمنع بأيّ شكل قيام دولة فلسطينية.

كما أعلنت فرنسا رسميًا اعترافها بدولة فلسطين، في خطوة تحمل بعدًا رمزيًا ودبلوماسيًا يهدف إلى إعادة رسم موازين القوى في الشرق الأوسط، وتوجيه رسالة قوية حول التزام المجتمع الدولي بحق الفلسطينيين في دولة مستقلة.

وإلى جانب فرنسا، أعلنت بلجيكا ولوكسمبورغ ومالطا وسان مارينو وأندورا الانضمام إلى هذه الموجة من الاعترافات، في حين سبقتها المملكة المتحدة وأستراليا وكندا والبرتغال بيوم واحد.

وهذه الخطوة تأتي في سياق تصاعد التوترات في الشرق الأوسط بعد أقل من عامين على هجوم حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، الذي أسفر عن مقتل نحو 1200 شخص واختطاف 251 رهينة، وهو ما وضع إسرائيل في حالة عزلة دولية غير مسبوقة، بحسب صحيفة "تايمز أوف إسرائيل".

تبرز الخطوة الفرنسية جملة من الرسائل المتناقضة: من جهة، تؤكد الدول الغربية دعمها لحل الدولتين وحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة؛ ومن جهة أخرى، تثير هذه التحركات غضب إسرائيل والولايات المتحدة، اللتين تعتبران أن الاعتراف في هذا التوقيت قد يمنح حماس مكافأة رمزية دون أن يساهم في إطلاق سراح الرهائن أو إنهاء الحرب في غزة.

وبحسب مسؤولين إسرائيليين وأمريكيين، فإن هذه الاعترافات قد تزيد التعقيد في إدارة الأزمة الإنسانية والسياسية، بدل أن تعالجها.

واقع قانوني جديد

إن هذا الاعتراف يسمح للدول بإبرام المعاهدات مع فلسطين، ويتيح الاعتراف برؤساء البعثات الفلسطينية رسمياً كسفراء كاملين. وبصورة عامة، ينظر إلى الاعتراف على أنه بمثابة بيان حول مستقبل فلسطين وانتقاد لرفض إسرائيل التفاوض في شأن إقامة دولة فلسطينية، وربما كان هذا هو المغزى الأساس من الحملة التي قادتها السعودية وفرنسا نحو الاعتراف الدولي بدولة فلسطين وهو تقديم دفعة قوية للمحادثات نحو "حل الدولتين".

و أن اعتراف دول كبرى مثل فرنسا وبريطانيا رسمياً بالدولة الفلسطينية سيظل أمراً ذا قيمة حتى لو لم يتغير كثير على أرض الواقع وأن الأمر "سيكون بمثابة التزام أخلاقي وموقف قوي تجاه فلسطين في لحظة يعد فيها الوضع في غزة والضفة الغربية أكثر خطورة من أي وقت مضى.

سوف يمثل الاعتراف موقفاً دبلوماسياً يفتح المجال أمام تغييرات في السياسات، أما على المدى الطويل، فإن عادت الأطراف لمناقشة الصراع، فسيساعد هذا الاعتراف في تعزيز موقع الفلسطينيين خلال المفاوضات. ومن ثم، قد لا ينعكس على الواقع بصورة فورية، لكنه يبقى خطوة ذات قيمة". 

في المحصِّلة، يُشكّل الاعتراف الدولي المتسارع بالدولة الفلسطينية محطّة مهمة في المسار السياسي والدبلوماسي للقضية، لكنه لا يرقى بعدُ إلى مستوى التحوُّل الإستراتيجي الكامل ما لم يُترجم إلى إجراءات عملية على الأرض.

وبينما يمنح الفلسطينيين زخماً معنوياً وسياسياً، ويُعمّق عزلة إسرائيل على الساحة الدولية، فإنه في الوقت ذاته يكشف محدودية قدرة المجتمع الدولي على فرض حلول ملزمة في ظلّ استمرار الفيتو الأمريكي والدعم الغربي لإسرائيل.

وعليه، يبقى الاعتراف خُطوة ذات طابع مزدوج: رمزياً يعزز شرعية القضية الفلسطينية، وإستراتيجياً يفتح الباب لاحتمالات ضاغطة على المدى المتوسط والبعيد، لكنها مشروطة بمدى استعداد الدول المعترِفة لتحويل مواقفها إلى سياسات ملموسة تُؤثّر على ميزان القُوى الفعلي في الصراع.

 

المصدر: الجزيرة نت 

الكاتب : محمد وتد

التاريخ : 22/9/2025

--------------------------------------------------------------

المصدر: مركز أبعاد للدراسات الإستراتيجية

التاريخ : 23/9/2025


المقالات الأخيرة