تطوير التعليم الفني والمهني في ليبيا
فرع بنغازي

يُعدّ التعليم الفني والمهني (TVET) من الركائز الأساسية لتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة، حيث يمثل الجسر الذي يربط مخرجات التعليم باحتياجات سوق العمل. وفي ليبيا، التي تعتمد بشكل شبه كلي على قطاع النفط، يكتسب تطوير هذا النوع من التعليم أهمية قصوى كضرورة حتمية لتحقيق التنويع الاقتصادي وتقليل معدلات البطالة بين الشباب. ففي ظل التحديات الهيكلية التي يواجهها الاقتصاد الليبي، أصبح تطوير نظام تعليم فني ومهني حديث وفعال شرطاً أساسياً لتمكين القوى العاملة من المساهمة في بناء قطاعات اقتصادية جديدة وواعدة.

تتقاطع الأزمة الاقتصادية في ليبيا مع أزمة بطالة هيكلية بين الشباب، وجذور كلتيهما تعود إلى اعتماد شبه أحادي على قطاع النفط كما ذكرنا سابقا الذي يتسم بتقلباته وعدم قدرته على خلق فرص عمل كافية. في هذا السياق، يبرز التعليم والتدريب التقني والمهني (TVET) ليس كخيار تربوي فحسب، بل كاستراتيجية وطنية ملحة لبناء جسر متين بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل، وتمهيد الطريق لتنويع الاقتصاد وخلق فرص عمل مستدامة.

الواقع الحالي للتعليم الفني والمهني في ليبياتحدياتوعقبات 

على الرغم من الجهود المبذولة، لا يزال نظام التعليم الفنيوالمهني في ليبيا يواجه العديد من التحديات التي تحد منفعاليتهأبرز هذه التحديات هو انفصال المناهج التعليمية عن متطلبات سوق العمل الفعلية. فالمناهج الحالية قديمة ولا تواكب التطورات التكنولوجية في الصناعات المختلفة، مما يؤدي إلى تخرج كوادر غير مؤهلة بالشكل الكافي لشغل الوظائف المتاحة. بالإضافة إلى ذلك، تعاني المؤسسات التعليمية من نقص حاد في التمويل والمعدات الحديثة، مما يجعل التدريب العملي محدودًا وغير فعال.

يُضاف إلى ذلك الرؤية الاجتماعية السلبية تجاه التعليمالفني والمهني، حيث يُنظر إليه غالبًا على أنه خيار للطلابالذين لم يتمكنوا من الالتحاق بالتعليم الجامعيهذه النظرةتساهم في تقليل الإقبال على هذا النوع من التعليم، وتجعل من الصعب جذب الكفاءات والمواهب إلى القطاعات الفنية. كما أن غياب الشراكات الفعالة بين مؤسسات التعليم الفني والقطاع الخاص يحول دون الاستفادة من خبرات الشركات في تصميم المناهج وتوفير فرص التدريب للطلاب، مما يُضعف من كفاءة خريجي هذه المعاهد.

أهمية تطوير التعليم الفني والمهني لتنويع الاقتصاد

إن تطوير التعليم الفني والمهني يمكن أن يكون له أثرإيجابي كبير على الاقتصاد الليبي من عدة جوانبأولاً،يساهم في تقليل معدلات البطالة، خاصة بين الشباب، منخلال تزويدهم بالمهارات العملية التي يحتاجها سوق العمل. فبدلاً من التركيز على الشهادات الأكاديمية النظرية، يمكن للتعليم الفني أن يُخرج كوادر متخصصة في مجالات مثل الكهرباء، الميكانيكا، البرمجة، والخدمات الصحية.

ثانيًا، يُعد التعليم الفني والمهني محركًا أساسيًا للتنويعالاقتصاديفبدلًا من الاعتماد على قطاع النفط، يمكن للكوادر الفنية أن تُساهم في تطوير قطاعات أخرى مثل الصناعة التحويلية، الزراعة، السياحة، والبنية التحتية. فوجود قوى عاملة ماهرة يُشجع المستثمرين المحليين والأجانب على إقامة مشروعات جديدة في هذه القطاعات.

ثالثًا، يُمكن للتعليم الفني والمهني أن يُعزز ريادة الأعمال. فعبر توفير برامج تدريبية تركز على المهارات العملية وإدارة الأعمال، يمكن للطلاب أن يؤسسوا مشروعاتهم الخاصة، مما يُساهم في خلق فرص عمل إضافية ويُحفز الابتكار في الاقتصاد المحلي.

إستراتيجيات مقترحة لتطوير التعليم الفني والمهني

يتطلب تطوير التعليم الفني والمهني في ليبيا إستراتيجيةشاملة ومُنسقةيمكن أن تتركز هذه الإستراتيجية علىالنقاط التالية:

تحديث المناهج الدراسيةيجب إعادة النظر في المناهجالحالية لتكون متوافقة مع أحدث التطورات التكنولوجيةواحتياجات السوق.

تعزيز الشراكات مع القطاع الخاصيجب إقامة شراكاتاستراتيجية بين المعاهد الفنية والشركات المحلية والدولية،لضمان أن التدريب العملي يعكس الواقع الحقيقي لسوقالعمل.

الاستثمار في البنية التحتيةيجب توفير التمويل اللازملتجهيز المعاهد الفنية بالمعدات والورش الحديثة، وتقديم برامج تدريب مستمرة للمدربين.

تغيير الصورة الذهنيةيجب إطلاق حملات توعية إعلاميةلتسليط الضوء على أهمية التعليم الفني والمهني، والفرصالوظيفية المتاحة لخريجيه.

لماذا الآن؟ الأهمية الاستراتيجية في مرحلة إعادة الإعمار والتحول

إن الاستثمار في تطوير التعليم الفني والمهني هو استثمار في رأس المال البشري، وهو الاستثمار الأعلى عائدًا على المدى الطويل، وذلك للأسباب التالية:

 

1.  محاربة البطالة من جذورها: يمتلك التعليم الفني القدرة على معالجة البطالة بين الشباب (التي تصل إلى نسب مرتفعة جدًا) من خلال منحهم "حزمة مهارات" قابلة للتسويق فورًا في مجالات مطلوبة بشدة مثل: الطاقة المتجددة، الصيانة التقنية، تكنولوجيا المعلومات، اللوجستيات، السياحة والفندقة، والرعاية الصحية.

2.  المحرك الأساسي للتنويع الاقتصادي: لا يمكن بناء قطاعات اقتصادية جديدة (صناعية، زراعية، سياحية، لوجستية) بدون وقود بشري مؤهل. وجود قوى عاملة فنية مدربة هو عامل جذب رئيسي للاستثمارات المحلية والأجنبية، حيث يطمئن المستثمر إلى توفر الأيدي العاملة الماهرة التي يحتاجها.

3.  تعزيز ثقافة الابتكار وريادة الأعمال: يجب ألا يقتصر دور التعليم الفني على إعداد "موظفين" بل يجب أن ينتج "أصحاب أعمال". من خلال دمج مناهج في ريادة الأعمال وإدارة المشاريع الصغيرة، يمكن تمكين الخريجين من تحويل مهاراتهم إلى مشاريع صغيرة ومتوسطة تُنشئ وظائف للآخرين وتُحفز الاقتصاد المحلي.

4.  الدروس المستفادة من النماذج الدولية: نجحت دول مثل ألمانيا (نظام التلمذة المهنية Dual System) وسنغافورة وكوريا الجنوبية في تحقيق معجزات اقتصادية путемمحاكاة نموذجها التعليمي لخدمة الاقتصاد. هذه النماذج تثبت أن الجودة والكفاءة هما الأساس، وليس كثرة عدد الخريجين.

 

الخاتمة

إن تطوير التعليم الفني والمهني في ليبيا ليس مجرد خيار،بل هو ضرورة ملحة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. فمن خلال الاستثمار في الموارد البشرية وتأهيلها بالمهارات اللازمة، يمكن لليبيا أن تتحول من اقتصاد ريعي يعتمد على النفط، إلى اقتصاد متنوع ومستدام قادر على خلق قيمة مضافة وتوفير حياة كريمة لمواطنيه. إن الطريق قد يكون طويلًا ومليئًا بالتحديات، لكن العائد سيكون كبيرًا على المدى الطويل.


المراجع

مؤسسة الأفق للدراسات والبحوث، 2021، التنويع الاقتصادي فيليبيادور التعليم الفني والمهني، مؤسسة الأفق للدراسات والبحوث.

مركز البحوث والاستشارات، 2019، تحديات ومستقبل التعليم الفني في ليبيا: دراسة تحليلية، مركز البحوث والاستشارات.

المقالات الأخيرة