مزايا وقيود تعويم ساعات العمل في البيئات المؤسسية
فرع بنغازي

أدى التنامي المضطرد في العمل عن بُعد، لا سيّما إثر تفشي وباء 'كورونا'، فضلاً عن التطور في وسائل الاتصال الحديثة، إلى ازدهار فكرة العمل المرن. وقد صار هذا الازدهار مدعومًا بتغيير في مقاربات الإدارة يُولي أهمية لإنجاز المهام بغض النظر عن التوقيت أو المكان الذي تُجرى فيه؛ إلى ازدهار فكرة العمل المرن. وتبدو ساعات العمل المرنة أسلوباً مبتكراً يمنح الموظفين قدراً وافراً من الحرية والاستقلالية في أداء مهام عملهم، وربما تُمكنهم هذه المرونة من تحقيق توازن أفضل بين العمل ومتطلبات الحياة الأخرى، كإدارة شؤون الأسرة، أو الاعتناء بشخص مسن. 

وفي هذا الإطار، تخلت شركة "لومين" (Lumen SEO)، المتخصصة في أبحاث التسويق في المملكة المتحدة، منذ عدة أشهر، عن أسبوع العمل المكون من أربعة أيام، واتجهت نحو نموذج أكثر ابتكاراً لتعويم ساعات العمل؛ أي العمل من أي مكان وفي أي وقت لمدة 32 ساعة أسبوعياً، وأوجزت تجربة "الأسبوع العائم" التي ستستمر لمدة ثلاثة أشهر بمقولة: "العمل يجب أن يكون معززاً للحياة، لا مثبطاً لها". وقد أعاد هذا الأمر الحديث مرة أخرى عن مسألة حدود انتشار العمل المرن في ظل التطورات التكنولوجية الحالية.

فكرة متجددة:

يشير العمل المرن (flexible working) إلى السماح للموظفين باختيار ساعات البدء والانتهاء من المهام الموكلة إليهم في نطاق زمني عام مُتفق عليه مع أرباب العمل، فضلاً عن حرية اختيار مكان العمل. وترجع نشأة فكرة العمل المرن إلى ستينيات القرن الماضي، فقد عانت ألمانيا الغربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أزمة كبرى، حيث واجهت الشركات فيها نقصاً حاداً في القوة العاملة؛ بسبب ما ألحقته الحرب ثم قرار التقسيم بسوق العمل من خسائر، وفي تلك الظروف باتت ألمانيا الغربية في أمس الحاجة إلى جهود المرأة؛ مما أثار معضلة واضحة بشأن كيفية التوفيق بين رعاية الأطفال ومتطلبات العمل. وهنا اقترح عالم الاجتماع الألماني، كريستيل كاميرر، (Christel Kammerer)، عام 1965، في إحدى مقالاته، أن يُسمح للعمال بتعديل موعد بدء وإنهاء أعمالهم كما يحلو لهم، طالما يحققون في نهاية الأمر العدد الإجمالي لساعات عملهم. 

وفي عام 1967، تعاقدت شركة Messerchmitt-Bölkow-Blohm (MBB) الألمانية مع كاميرر للمساعدة على تخفيف الأزمات الداخلية التي تواجهها الشركة بسبب ارتفاع معدلات تغيب العمالة والتأخر عن العمل. واقترح كاميرر إلغاء وجود ساعات ثابتة لبدء العمل وانتهائه، وعندما شرعت الشركة في تطبيق بعض أفكاره، تمكنت بالفعل من التغلب على تبعات مشكلة الازدحام المروري في أوقات الذروة؛ وهو ما حفز الشركة على تبني أسلوب الساعات المرنة.

وحالياً، يمكن عرض نماذج لشركات كبرى تطبق أسلوب العمل المرن، ومنها ما يلي:

1- سيسكو (Cisco): تتبنى هذه الشركة الأمريكية، التي تعمل في مجال تكنولوجيا الاتصال الرقمي، مقاربة "العمل الهجين" (Hybrid Work)، والذي يمزج بين العمل المكتبي التقليدي والعمل عن بُعد بالنسبة لكل المستويات. وتتيح "سيسكو" لعامليها الانتقال بين هذين النموذجين بصورة متكررة بحسب احتياجاتهم، حيث ترى أن هذه الاستراتيجية ملائمة لاجتذاب أصحاب المواهب والمبدعين.

2- غيت لاب (GitLab): تعمل هذه الشركة الأمريكية في مجال البرمجة، وتُشغل أكثر من 1500 موظف ينتمون لأكثر من 60 دولة، ولا تملك أي مكاتب تقليدية، حيث إنها تطبق أسلوب العمل عن بُعد بشكل كامل (all-remote company)، وتركز فلسفتها الإدارية على النتائج وليس الإجراءات. 

مزايا جاذبة:

يربط المؤيدون للعمل المرن تلك المقاربة بالعديد من المزايا، لعل في مقدمتها ما يلي:

1- رفع الإنتاجية وخفض التكلفة: ثمة مجموعة من العوامل دفعت بعض الشركات والمؤسسات إلى تبني ممارسات العمل المرن بشكل متزايد في الآونة الأخيرة، ويأتي في مقدمتها المصاعب التي تواجهها اقتصاديات الدول المتقدمة، والتي تجعل تعويم ساعات العمل استجابة إدارية لرفع الإنتاجية وخفض التكلفة، حيث تتيح ترتيبات العمل المرنة لبعض الشركات تخفيض تكاليف التشغيل؛ إذ يسمح العمل عن بُعد بتخفيض نفقات التشغيل (الطاقة، والمكان)، وإدارة موارد العمل بشكل أكثر كفاءة. وتعزز التطورات التقنية قدرة الموظفين على العمل من أي مكان، وفي أي وقت.

2- اجتذاب الكفاءات: نظراً لاحتدام المنافسة بين أرباب العمل، تجد العديد من المؤسسات في الوقت الحالي صعوبة أكبر في اجتذاب أصحاب المواهب، وفي نفس الوقت يبدو صاحب العمل الذي يعرض أسلوب ساعات العمل المرنة أكثر جاذبية لأصحاب المواهب الخلاقة، ويكتسب هذا المتغير أهمية خاصة في وقت يزداد فيه إسهام قطاع تكنولوجيا المعلومات في الاقتصادات القومية. وفي إحدى الإحصائيات الحديثة في بريطانيا، أعرب 87 %من المبحوثين عن تفضيلهم العمل وفق ترتيبات مرنة، لكن 11 %فقط من الوظائف تتيح بشكل صريح العمل المرن.

3- تحسين الرضا الوظيفي: تشير الدراسات إلى أن العمل المرن يرتبط طردياً بدرجة الولاء والرضا الوظيفي؛ الأمر الذي يعني تحسين الأداء العام وزيادة الإنتاجية، بفعل قدرة الموظفين على التحكم بدرجة أكبر في مهنهم وتحقيق التوازن المطلوب بين العمل والواجبات الأسرية. وتوضح العديد من استطلاعات الرأي أن العمل المرن أكثر قدرة على تحفيز الموظفين مقارنةً بالمكافآت المالية الإضافية. 

4- خفض معدلات التغيب عن العمل: يكون ذلك من خلال السماح للموظفين بتحديد وقت ومكان العمل، وإدارة ظروفهم الصحية، فضلاً عن تقليل معدلات التوتر والقلق الناتجة عن الالتزام الصارم بجدول زمني مُعد مسبقاً؛ مما يسهم في تحسين مستوى الرفاه العام لديهم.

5- تعزيز قوة العمل: يُعد العمل المرن وسيلة لتشجيع المرأة التي تعول أطفالاً والموظفين الذين يعتنون بكبار السن، على العودة إلى مباشرة العمل؛ الأمر الذي يعزز تدفق المواهب واستبقاءها.

تحديات الانتشار: 

هناك العديد من التحديات التي تعترض تطبيق العمل المرن في العديد من المؤسسات على نطاق واسع، ومن أهمها الآتي:

1- رسوخ ثقافة العمل التقليدي: اعتادت الأجيال الحالية لفترة طويلة العمل بدوام كامل وفق ساعات عمل ثابتة ومحددة مسبقاً، وربما يصعب على كثير منها تقبل ترتيبات مختلفة من العمل. وفي العديد من المجالات مثل القطاع المصرفي والقانوني، يساوي المُديرون بين الالتزام الوظيفي والطموح من جهة، والعمل وفق الأسلوب التقليدي من جهة أخرى؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى تقليل التقدير لمن يؤدون أعمالهم وفق ترتيبات مرنة. وتشير بعض استطلاعات الرأي إلى أن نسبة كبيرة من أولئك الذين يعملون وفق ترتيبات مرنة يشعرون أنهم أقل أهمية وأنهم يحصلون على فرص أقل للترقي مقارنةً بمن يعملون وفق الأسلوب التقليدي في نفس المؤسسة.

2- تحدي مراقبة الأداء: يسهم العمل المرن في تفكيك النموذج التقليدي لبيئة العمل؛ مما يجعل أساليب رقابة الأداء القائمة على الحضور الجسدي لساعات محددة غير ملائمة. وهذا يبرز الحاجة إلى اعتماد آليات تركز على نتائج الأداء بدلاً من ساعات الحضور، مع وضع أهداف أداء واضحة وسهلة القياس.

3- صعوبة الحفاظ على هوية المؤسسة: وذلك نظراً لغياب التواصل الجسدي بين الموظفين، وما يؤدي إليه من ضعف روح الزمالة والهوية المشتركة التي يكتسبها العاملون من العمل في مكان واحد.

صيحة مؤقتة؟ 

تشهد بيئة العمل تطورات مستمرة، يُعزى السبب الرئيسي فيها إلى التقدم التكنولوجي، ولا سيّما في وسائل الاتصال الحديثة. وتُظهر إحصائيات المؤسسة الأوروبية لتحسين ظروف المعيشة والعمل (Eurofound)، وهي وكالة تابعة للاتحاد الأوروبي، وجود اتجاه عام نحو تجزئة المهام داخل المشروع الواحد، مع التركيز على مخرجات العمل. ويعتمد هذا النمط من العمل بدرجة متزايدة على التخصيص المرن للمهام. وقد أدت زيادة الطلب على تحسين نوعية الحياة، وتحقيق الاستقلالية عقب تراجع وباء "كورونا"؛ إلى تنامي الدعوات لتطبيق واسع لساعات العمل المرنة. ومع التسليم بأن الوباء هو أحد العوامل وراء المد الحاصل في ترتيبات العمل المرن، فمن المُلاحظ أن بعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا واليونان والبرتغال وهولندا، قد شهدت زيادة في العمل عن بُعد، ولكن مع ثبات ساعات العمل؛ أي العمل وفق جدول زمني تقليدي. 

وفي دول أخرى مثل إيطاليا وإسبانيا وفرنسا، تظل ساعات العمل المُعتادة (من التاسعة صباحاً حتى الخامسة عصراً) هي القاعدة العامة، ولا توجد تعديلات تشريعية بخصوص منح العاملين مزيداً من الحرية لانتهاج العمل المرن. وفي دولة كإيطاليا، حرص صُناع السياسة العامة في صياغتهم للاستراتيجية الوطنية للطاقة والمناخ لعام 2023 على تخفيض ساعات العمل كمدخل لتحسين نوعية الحياة وتقليل التلوث، دون تضمين استراتيجيتهم هدف تعويم ساعات العمل. وفي إسبانيا، تركز الجدل في البرلمان في شهر مايو الماضي على تخفيض ساعات العمل، وليس تعويم ساعات العمل.

ومن جهة أخرى، تطبق العديد من الدول مثل النمسا وفنلندا وهولندا والسويد، ترتيبات العمل المرن حتى قبل تفشي وباء "كورونا"، وتبقى معدلات العمل المرن في فنلندا مستقرة خلال السنوات العشر الماضية، حيث استفاد 85% من موظفي الدولة و58%من موظفي القطاع الخاص بصورة جزئية من ترتيبات العمل المرن عام 2022. وبصفة عامة، تنتشر ثقافة العمل عن بُعد في الدول الإسكندنافية مقارنةً بدول شرق وجنوب أوروبا، حيث تسود ثقافة العمل التقليدي. كما أن ترتيبات العمل المرن تُتاح بشكل أكبر للعاملين في القطاعات التي تتطلب مهارات مرتفعة كقطاع تكنولوجيا المعلومات، فضلاً عن بعض القطاعات الأخرى التي قد لا يكون الحضور الجسدي فيها مهماً كالترجمة. 

ويبدو أن العمل المرن ليس متاحاً لكافة أنواع العمالة، بل هو امتياز يمكن أن تتمتع به بعض الفئات فقط، ولا تعزز التشريعات الحالية حتى في الدول المتقدمة النظر إلى العمل المرن باعتباره حقاً بالنسبة لمن لديهم مسؤوليات العناية بالأطفال أو كبار السن، بينما تُتاح لفئات من العمالة الفرصة للعمل المرن وفق اتفاقيات خاصة مع الشركات، بحسب نوع الوظيفة وطبيعة المهام.




المراجع:

رامز إبراهيم، 24.6.2025، مزايا وقيود تعويم ساعات العمل في البيئات المؤسسية، المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة.

سارة محمد عبد الهادي، 2024، العمل المرن وتأثيره على كفاءة المنظمات، المجلة الدولية للإدارة الحديثة.

المقالات الأخيرة