اليورانيوم في أفريقيا بين تحوُّل الطاقة والتنافُس الجيوسياسي
فرع القاهرة

يُعَدُّ اليورانيوم أحدَ أهمِّ المعادن الاستراتيجية في العالم؛ نظرًا لدوره المحوري في إنتاج الطاقة النووية وصناعة الأسلحة النووية، يتميز هذا المعدن بقدرة عالية على إنتاج الطاقة الحرارية من خلال عملية الانشطار النووي؛ مما جعله أساسًا في تشغيل المفاعلات النووية وتوليد الكهرباء، فضلًا عن كوْنه عنصرًا حيويًّا في التوازنات الأمنية والعسكرية الدولية، ومع تصاعُد الطلب العالمي على مصادر بديلة ومستدامة للطاقة، تزايدت أهمية اليورانيوم كأداة لإعادة تشكيل خريطة النفوذ الجيوسياسي، في هذا السياق برزت أفريقيا كإحدى أهم القارات الغنية باحتياطيات اليورانيوم، حيث تحتضن دولًا، مثل “النيجر وناميبيا وجنوب أفريقيا” بعضًا من أكبر المناجم عالميًّا، وهو ما جعلها محورًا للتنافُس بين القوى الكبرى الساعية إلى تأمين مواردها من الوقود النووي، وهكذا لم يعُدْ اليورانيوم مجرد مورد اقتصادي، بل تحوَّلَ إلى ورقة ضغط إستراتيجية ترتبط بمسائل الأمن القومي، والسياسات الطاقوية، والتوازنات الدولية.

التوزيع الجغرافي لليورانيوم

يُوزَّع اليورانيوم في أفريقيا بشكلٍ غير متكافئٍ؛ حيث تتركز احتياطياته وإنتاجه في عددٍ محدودٍ من الدول التي أصبحت لاعبين أساسيين في سوق الطاقة النووية العالمية، هذا التوزيع يعكس الطابع الاستراتيجي للموارد الأفريقية؛ إذ يجمع بين دول تُعتبر من كبار المنتجين، مثل “النيجر وناميبيا”، وأخرى تمتلك احتياطيات واعدة لم تدخل بعد مرحلة الاستغلال الكامل:

النيجر: تُعتبر النيجر من أبرز المنتجين العالميين لليورانيوم؛ حيث تمتلك مناجم رئيسية مثل أرليت (Arlit) وأكوتا (Akouta)، إلى جانب مشروع إيمورارن (Imouraren) الذي يُعَدُّ من أكبر الاحتياطيات المكتشفة عالميًّا رغْم تعثُّر استغلاله، يلعب يورانيوم النيجر دورًا محوريًّا في تغذية المفاعلات النووية الفرنسية؛ ما جعل البلاد جزءًا أساسيًّا من معادلة الأمن الطاقوي الأوروبي، إلا أن هذا المورد الاستراتيجي ظَلَّ مرتبطًا بإشكاليات هيكلية أبرزها الاعتماد المُفْرِط على الشركات الأجنبية، فضلًا عن التحديات الأمنية والسياسية التي تشهدها منطقة الساحل، وهو ما جعل اليورانيوم ورقة ضغط في التوازنات الجيوسياسية الأخيرة.

ناميبيا: تتصدر ناميبيا قائمة الدول الأفريقية الغنية باليورانيوم، وتحتلُّ المركز الثالث عالميًّا؛ حيث تُقدَّرُ احتياطياتها بنحو 470 ألف طن؛ مما يجعلها لاعبًا حاسمًا في صناعة الطاقة النووية، وتضُمُّ ويندهوك 3 مناجم رئيسية ضخمة مثل روزنغ (Rössing)، وهاوساب (Husab)، ولانجر هاينريش (Langer Heinrich)، والتي جعلت البلاد في قلْب الاستثمارات الأجنبية، خصوصًا الصينية، من ناحية أخرى، يُمثِّلُ اليورانيوم الناميبي موردًا استراتيجيًّا لا يقتصر على البُعْد الاقتصادي فقط، بل يرتبط كذلك بالسياسات الدولية الخاصة بالطاقة النووية، ورغم أن الإنتاج الناميبي مستقرٌّ نِسْبِيًّا مقارنةً بدول أخرى، فإن مسألة تنويع الشركاء الدوليين وتعزيز الاستفادة الوطنية من العائدات تظلُّ من أبرز التحديات التي تواجه الدولة في إدارة هذا المورد الحيوي.

جنوب أفريقيا: يُعَدُّ تعدين اليورانيوم في جنوب أفريقيا نشاطًا مرتبطًا بشكلٍ وثيقٍ بصناعة الذهب أكثر من كوْنِهِ نشاطًا مستقلًّا؛ فقد كانت منطقة ويتبـارتسـرانـد (Witwatersrand Basin) أهم مركز لإنتاج اليورانيوم؛ حيث جرى استخراجه منذ خمسينيات القرن العشرين وحتى أواخر التسعينيات بصفته منتجًا ثانويًّا لمناجم الذهب، وتشير التقديرات إلى أن هذه المنطقة وحدها أنتجت قرابة 150 ألف طن من اليورانيوم المكرر بين عامي 1952 و1998، كما شهدت منطقة الكارو (Karoo Basin) محاولات استكشافية منذ ستينيات القرن الماضي، بعد أن عثرت فِرَق الاستكشاف النفطي على مؤشرات لليورانيوم، إلا أن هذه المشاريع بقيت في مراحل الدراسة بسبب التحديات الاقتصادية والبيئية.

وفي السنوات الأخيرة، بدأت شركات تعدين كبرى مثل Sibanye-Stillwaterفي إعادة استغلال الموارد المتبقية، من خلال معالجة المخلفات التعدينية (tailings) في مواقع مثل Cooke وBeatrix، ورغم هذه الجهود، لا يزال قطاع اليورانيوم في جنوب أفريقيا يواجه تحديات تتعلق بارتفاع تكاليف الاستخراج ومشاكل البيئة والصحة العامة الناتجة عن الأنشطة الإشعاعية؛ الأمر الذي جعل إنتاجه أقلَّ استقرارًا مقارنةً بدول أفريقية أخرى، مثل “النيجر وناميبيا”.

الجابون: يرتبط تاريخ الغابون مع اليورانيوم أساسًا بمنجم (Mounana) الذي بدأ العمل في ستينيات القرن العشرين؛ حيث بلغ إجمالي إنتاجه حتى إغلاقه عام 1999 نحو 28 ألف طن من اليورانيوم، ورغم أن هذا النشاط توقَّفَ اليوم؛ بسبب نُضُوب المنجم وتراجع الانتاجية في نهاية التسعينات، إلى جانب الآثار البيئية والتدهور الصحي الذي خلَّفَه التلوُّث الإشعاعي الناتج عن عملية تعدين اليورانيوم، فإن الغابون لا تزال تُعَدُّ واحدةً من أبرز الدول الأفريقية التي امتلكت تجربة تاريخية في استغلال هذه الثروة.

الأهمية الاستراتيجية والعسكرية لليورانيوم

من الناحية الاستراتيجية، يُعتبر اليورانيوم موردًا حيويًّا يمنح الدول التي تتحكم فيه مزايا جيوسياسية استثنائية؛ إذ إن السيطرة على مناجم اليورانيوم أو على سلسلة التوريد النووي تعني القدرة على توجيه سياسات الطاقة العالمية، فضلًا عن تعزيز النفوذ السياسي والعسكري، فالدول الكبرى تنظر إلى تأمين إمدادات اليورانيوم كمسألة أمن قومي؛ نظرًا لاعتمادها على المفاعلات النووية في إنتاج الكهرباء وفي تشغيل الغواصات وحاملات الطائرات النووية، بالإضافة إلى ذلك، فإن امتلاك دورة الوقود النووي الكاملة (التعدين، التخصيب، إعادة المعالجة) يوفر للدول استقلالية استراتيجية عن الضغوط الخارجية، ويُعزِّزُ مكانتها كقوة إقليمية أو عالمية، ومن هنا جاءت أهمية أفريقيا، التي تضم احتياطيات هائلة من اليورانيوم (خاصة في النيجر وناميبيا)؛ مما جعلها مجالًا للتنافس بين القوى الكبرى.

أما من الناحية العسكرية، يُعَدُّ اليورانيوم العنصر الأساسي في بناء القدرات النووية العسكرية، فعند تخصيبه إلى نِسَبٍ مرتفعة (أعلى من 90% من النظير U-235)، يتحول إلى ما يُعرف بـ “اليورانيوم عالي التخصيب” (HEU)، وهو المادة الخام لصناعة الرؤوس الحربية النووية، هذا النوع من اليورانيوم مكَّنَ دولًا، مِثْل “الولايات المتحدة، روسيا، الصين، وفرنسا” من بناء ترسانات نووية قادرة على تحقيق توازن الرَدْع، في إطار الحرب الباردة وما بعدها، كذلك لم يقتصر الاستخدام العسكري على الأسلحة النووية الاستراتيجية، بل امتدَّ إلى الذخائر التقليدية المطوّرة؛ إذ يُستعمل اليورانيوم المنضب (Depleted Uranium) في صناعة القذائف الخارقة للدروع؛ نظرًا لكثافته العالية (أكثر من الرصاص بمرة ونصف)، هذه الذخائر استُخدمت بكثافة في حرب الخليج (1991) والعراق (2003) والبلقان؛ حيث أثبتت فعاليتها ضد الدبابات الحديثة، لكنها أثارت أيضًا جدلًا واسعًا؛ بسبب آثارها الصحية والإشعاعية على السُّكَّان المحليين.

كما يُمثِّلُ اليورانيوم أحدَ أهمِّ أدوات الرَّدْع الاستراتيجي، ليس فقط عبْر امتلاك السلاح النووي، بل أيضًا من خلال القدرة على حرمان الآخرين من الوصول إلى موارده؛ فعلى سبيل المثال، فرنسا تعتمد بشكلٍ كبيرٍ على اليورانيوم المستورد من أفريقيا (خاصَّةً النيجر) لتشغيل مفاعلاتها النووية التي تنتج أكثر من 70% من الكهرباء، هذا الارتباط يمنحها نفوذًا في غرب أفريقيا ويجعلها تتمسك بوجودها سياسيًّا في المنطقة، بالمقابل تحاول الولايات المتحدة وروسيا والصين الدخول بقوة إلى هذا المجال لضمان مصالحها الطاقوية والعسكرية، إذن لم يعُدْ اليورانيوم  مجرد معدن، بل تحوَّلَ إلى أداة جيوسياسية للهيْمنة والتوازن الدولي، تُستخدم في المساومات السياسية، والتحالفات، وأحيانًا كوسيلة ضغط في الأزمات الدولية.

تنافُس جيوسياسي وصراع محموم

يُعَدُّ الصراع على اليورانيوم من أبرز الصراعات المحمومة في أفريقيا، التي يسعى فيها كُلُّ طرفٍ للهيْمنة؛ نظرًا لأهميته الإستراتيجية في أمْن الطاقة العالمي، وقدرته على تغيير موازين القوي في العالم:

الولايات المتحدة الأمريكية: تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى تعزيز حضورها في ملف اليورانيوم الأفريقي، انطلاقًا من اعتبارات أمن الطاقة والأمن القومي معًا؛ إذ يُمثِّلُ اليورانيوم عنصرًا حيويًّا في تشغيل محطاتها النووية، كما أنها تنظر إلى أفريقيا، باعتبارها ساحةً استراتيجية لتأمين موارد اليورانيوم بعيدًا عن الهيْمنة الروسية والصينية المتنامية، إلى جانب دعْم مبادرات الشفافية وحوْكمة الموارد عبْر برامج مثل (Power Africa) ومؤسسات التمويل والتنمية التابعة للحكومة الأمريكية، كما تُوظِّفُ واشنطن أدواتها الدبلوماسية والعسكرية عبْر التواجُد في القيادة العسكرية الأمريكية لأفريقيا (AFRICOM) لتأمين استقرار المناطق الغنية بالمعادن، غير أن التحدي الأكبر يتمثَّلُ في المنافسة المباشرة مع القوى الأكثر رُسُوخًا في القارة، مثل “فرنسا وروسيا”؛ مما يجعلها تُركِّزُ على موازنة نفوذ خصومها وضمان استمرار تدفُّق اليورانيوم الأفريقي في أسواق الطاقَّة العالمية.

فرنسا: تُعَدُّ من أبرز اللاعبين الدوليين المنخرطين في الصراع حول اليورانيوم الأفريقي، ويرجع السبب الرئيسي لذلك إلى الإِرْث الاستعماري، الذي يُعَدُّ جُزْءا لا يتجزأ من الذاكرة التاريخية للعديد من الدول الأفريقية؛ حيث كانت تعتمد باريس بشكلٍ كبيرٍ على وارادات اليورانيوم من أفريقيا خاصَّةً النيجر؛ لتشغيل محطاتها النووية التي توفر نحو 70% من احتياجاتها من الكهرباء، عبْر شركة “أورانو” (Orano) الفرنسية التي تدير عِدَّة مناجم في البلاد، ومع صعود النفوذ الروسي والصيني، لم تعُدْ معركة فرنسا للحفاظ على حِصَّتها من اليورانيوم مرتبطة فقط بتأمين الطاقة، بل أصبحت جزءًا من صراع أوسع حول إعادة تشكيل موازين القوى في القارة الأفريقية.

الصين: تُعَدُّ بكين من أهمِّ المشتركين في سباق السيطرة على اليورانيوم الأفريقي؛ حيث تنظر إليه كجزء أساسي من استراتيجيتها الشاملة لأمن الطاقة وتعزيز مكانتها الجيوسياسية، وتعتمد بكين على الطاقة النووية بشكل متزايد ضمن خططها للانتقال إلى اقتصاد منخفض الكربون؛ إذ تسعى إلى بناء عشرات المفاعلات النووية خلال العقود المقبلة؛ مما يجعل تأمين موارد اليورانيوم مسألة أمن قومي بالنسبة لها؛ ولهذا الغرض ضاعفت الصين استثماراتها في قطاع التعدين الأفريقي عبْر شركات مثل China General Nuclear (CGN)، التي اشترت حِصَصًا استراتيجية في مناجم رئيسية في ناميبيا مثل منجم “هوساب” (Husab)، أحد أكبر المناجم عالميًا، لتضمن إمدادات طويلة الأمد، كما أنها وظّفت أدواتها التمويلية من خلال مبادرة الحزام والطريق لربط استثمارات البِنْيَة التحتِيَّة بمشروعات الطاقة والتعدين؛ مما يمنحها نفوذًا مزدوجًا اقتصاديًّا وسياسيًّا.

روسيا: تلعب دورًا متزايد الأهمية في هذا الصراع، في إطار استراتيجيتها لتعزيز النفوذ في القارة عبْر أدوات الطاقة النووية، تعتمد موسكو على شركة روس آتوم (Rosatom) كذراعٍ رئيسيٍّ لتوسيع حضورها؛ حيث لم يقتصر نشاطها على استكشاف وتعدين اليورانيوم فقط، بل امتدَّ ليشمل توقيع اتفاقيات طويلة الأمد للتعاون في بناء مفاعلات نووية للأغراض السلمية، وتزويد الدول الأفريقية بالوقود النووي والتكنولوجيا اللازمة، وقد عزَّزَتْ روسيا من مكانتها خصوصًا في دولٍ، مثل “ناميبيا، جنوب أفريقيا، ونيجيريا”، عبْر شراكات رسمية واتفاقيات ثنائية تدعمها مصالح استراتيجية تتعلق بالموارد الحيوية.

يمكن القول: إن اليورانيوم في أفريقيا لم يعُدْ مجرد مورد طبيعي تقليدي، بل أصبح عنصرًا مركزيًّا في معادلة التنافس الجيوسياسي العالمي؛ حيث تسعى القوى الكبرى، مثل “فرنسا والولايات المتحدة والصين وروسيا” إلى ترسيخ نفوذها، عبْر الاستثمار في التعدين، وإبرام الاتفاقيات النووية، وتوظيفه كورقة ضغط في الصراعات الدولية، وتكشف هذه المنافسة أن أفريقيا لم تعُدْ هامشًا في النظام الدولي، بل ساحةً استراتيجية تتقاطع فيها اعتبارات الأمن الطاقوي، والتنمية الاقتصادية، والسيادة الوطنية، بما يُعيدُ رسْم موازين القوة على المستوييْن الإقليمي والدولي، ومن ثَمَّ؛ فإن مستقبل القارة الأفريقية بات مرهونًا بقدرتها على إدارة مواردها النووية بفعالية، وتوظيفها لتعزيز مكانتها التفاوضية في النظام العالمي، بَدَلًا من أن تكون مجرد ساحةٍ لصراع النفوذ بين القوى الكبرى




المصدر: مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية

الكاتب : أسماء حسن

التاريخ : 29/9/2025

--------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

المصدر: إرم نيوز

التاريخ : 10/9/2025

المقالات الأخيرة