آفاق تطور العلاقات التركية الأميركية
فرع القاهرة

 

شكّلت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى البيت الأبيض للقاء نظيره الأمريكي دونالد ترامب في 25 سبتمبر 2025 لحظةً فارقةً ذات ثِقَلٍ استراتيجيٍ، تجاوزت كونها مجرد لقاء سياسي روتيني هذه الزيارة وهي الأولى لأردوغان إلى واشنطن منذ عام 2019، مثّلت نقطة تحوّلٍ محوريةٍ في مسار العلاقات الثنائية خاصةً بعد فترةٍ دامت أربع سنواتٍ من الجمود والتوتر في ظل إدارة الرئيس السابق جو بايد

أسفر الاجتماع عن إشاراتٍ إيجابيةٍ بارزةٍ، أهمّها التلميح إلى إمكانية رفْع الحظر الأمريكي عن مبيعات مقاتلات F-35 لتركيا، إلى جانب التوقيع على اتفاقيات طاقةٍ مهمةٍ، كما تمَّ التوافق على دورٍ محتملٍ لأنقرة كـ وسيطٍ في الأزمات الإقليمية، لا سيَّما في ملفي أوكرانيا وغزة و بالرغم من أن هذه المُخرجات كانت إنجازاتٍ رمزيةً وبصريةً أكثر من كونها قرارات نهائية وفورية، إلا أنها عكست بوضوح الرغبة المشتركة لدى الطرفين في إعادة ضبط العلاقة بين البلدين العضوين في الناتو.

لم تتمكنْ الزيارة من حلّ جميع نقاط الخلاف الجذرية، فالتوتراتُ قائمةٌ بشأن استمرار تركيا في واردات الطاقة من روسيا، بالإضافة إلى ذلك، لا تزال هناك مخاوفُ عميقةٌ لدى الكونغرس الأمريكي والحلفاء الأوروبيين الأوسع بشأن سجل أنقرة في ملف حقوق الإنسان وطبيعة علاقاتها مع موسكو.

والمحور الأبرز في الزيارة تمحور حول البُعد الشخصي للعلاقة بين ترامب وأردوغان، والتي وصفتها بعض التحليلات بأنها أشبهُ بـ “الأخوة التي أُعيد إحياؤها”. فقد كشف ترامب عن أنه ظل على تواصلٍ مع الرئيس التركي حتى خلال فترة خروجه من المشهد السياسي الأميركي، وهو ما يعكس عمق الطابع الشخصي لهذه الصلة، بعيدًا عن الأعراف الدبلوماسية التقليدية

أي يمكن القول إن الروابطَ الشخصيةَ بين الزعيمين بمثابة المحرك الأساسي للعلاقات الثنائية في المرحلة الراهنة، حيث تساعد على تجاوز مؤسساتٍ تقليديةٍ لطالما شكّلت عقباتٍ في طريق التعاون، مثل وزارة الخارجية أو البنتاغون، خلال فترة حكم بايدن، ومع أن هذه الصيغة تتيح تحقيق نتائج آنية وسريعة، إلا أنها تبقى عُرضةً للتقلب.

التعاون العسكري والدفاعي

ركّز أردوغان خلال زيارته على ملف اعتبره أولويةً قصوى، وهو إعادة إدماج تركيا في برنامج المقاتلة F-35، بعد أن جرى استبعادها عام 2019 عقب شرائها منظومة الدفاع الجوي الروسية S-400، التحدي الرئيسي بالنسبة لواشنطن يتمثّل في المخاوف الأمنية؛ إذ يرى البنتاغون أن تشغيل المنظومة الروسية قد يمنح موسكو فرصةً لاستخلاص بياناتٍ استخباراتيةٍ حسّاسةٍ عن تكنولوجيا الطائرة المتطورة، وهو ما يُعد تهديدًا مباشرًا لأمن الحلفاء.

وفي هذا السياق، لمّح ترامب إلى إمكانية مراجعة قرار تعليق بيع المقاتلات، قائلاً إن أنقرة قد تحقق ما تسعى إليه في هذا الملف ويكشف هذا التوجّه أن قضية F-35 لم تعدْ محصورةً في بُعدها التِقَني أو الأمني، بل تحولت إلى أداةٍ تفاوضيةٍ بيد ترامب، يستخدمها كورقة ضغط على أردوغان للحصول على تنازلاتٍ في ملفاتٍ أخرى، وعلى رأسها العلاقات التركية مع روسيا في مجال الطاقة.

لكن هذا الطرح يفتح الباب أمام مواجهةٍ محتملةٍ بين البيت الأبيض والكونجرس، الذي لا يزال يتبنّى موقفًا متشددًا تجاه أنقرة بسبب تعاونها العسكري مع موسكو وتراجع مؤشرات حقوق الإنسان بداخلها. كما يثير هذا التوجّه حساسية بعض الحلفاء، وفي مقدمتهم إسرائيل.

الطاقة والعلاقات الاقتصادية

أعاد اللقاء بين ترامب وأردوغان إحياء الهدف المعلن سابقًا برفْع حجم التبادل التجاري بين الولايات المتحدة وتركيا إلى 100 مليار دولار، وهو الطموحُ الذي طُرح لأول مرةٍ خلال ولاية ترامب الأولى وفي الوقت ذاته، شكّلت واردات أنقرة من النفط والغاز الروسي محورًا رئيسيًا للنقاش، إذ وجّه ترامب انتقاداتٍ علنيةً للرئيس التركي، داعيًا إياه إلى تقليص هذا الاعتماد.

وأسفر الاجتماع عن صياغة أو إضفاء طابع رسمي لاتفاقيتين:

عقد طويل الأمد لشراء الغاز الطبيعي المسال (LNG) بقيمة 43 مليار دولار يمتد لعشرين عامًا.

تفاهم للتعاون في تطوير مشاريع الطاقة النووية المدنية، يشمل المفاعلات المعيارية الصغيرة.

وتصدرت المباحثات صفقة ضخمة مع شركة بوينغ، حيث يُنتظر أن تقتني الخطوط الجوية التركية أكثر من 200 طائرة مدنية من طرازي 737 و787، بمحركات من إنتاج شركة جنرال إلكتريك، بقيمة تقترب من 10 مليارات دولار.

وتندرج هذه الصفقة ضمن حزمة تفاهمات تجارية قد تصل قيمتها الإجمالية إلى 50 مليار دولار وفق تقديرات إعلامية، ما يشكل دفعة قوية للتبادل الاقتصادي بين البلدين.

كما ناقش الطرفان مسألة الرسوم الجمركية، في ظل مساعي تركيا لإزالة القيود التي تعيق صادراتها إلى السوق الأميركية، وفي هذا السياق، أثنى ترامب على جودة الصناعة التركية قائلا إن أنقرة "تصنع منتجات رائعة، ونحن نشتري منها الكثير وهم يشترون منا الكثير"، في إشارة إلى تشابك المصالح الاقتصادية.

تُبرز هذه الصفقات أن الموقف الأميركي تجاوز مجرد ممارسةِ ضغوطٍ سياسيةٍ أو توجيه انتقادات علنية، إذ تبنّت واشنطن نهجًا يقوم على توفير بدائل عمليةٍ تسمح لتركيا بتنويع مصادرها الطاقية وتقليل ارتباطها الاستراتيجي بموسكو.

تنسيق العمل السياسي الاقليمي

احتلت الأزمة السورية موقعا بارزا في مباحثات أردوغان وترامب، في تحول لافت بعد سنوات من التباعد بين أنقرة وواشنطن حيال هذا الملف

واعتبر ترامب أن أردوغان يمثّل “شريكًا محوريًا” و”وسيطًا يمكن الوثوق به”، قادرًا على لَعبِ دورٍ بارزٍ في تسوية النزاعات الدائرة في كل من أوكرانيا وغزة.

ملف غزة سبق أن شارك أردوغان في اجتماع جمع ترامب بعددٍ من ممثلي الدول العربية والإسلامية على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث أعلن دعمه للمساعي الأمريكية قائلاً إن “جهود السلامِ التي يقودها الرئيس ترامب يمكن أن تفتح الطريق أمام تجاوز التحديات في المنطقة” من جانبه، أشار ترامب إلى أنه يقترب من التوصل إلى اتفاقٍ لإنهاء الحرب، مع تركيزٍ خاصٍ على قضية الرهائن.

ملف أوكرانيا أشاد ترامب بقدرة أردوغان على الحفاظ على قنوات اتصالٍ مع كل من فلاديمير بوتين وفلوديمير زيلينسكي، معتبرًا أن أنقرة تستطيع أن تمارسَ تأثيرًا ملموسًا في مسار الحرب إذا أرادت ذلك.

ولا يقتصر توصيف ترامب لأردوغان كـ “وسيط” على الاعتراف بدوره الحالي، بل يعكسُ توجّهًا أوسع ضمن استراتيجية “أمريكا أولاً”، يقوم على نقل مسؤولية إدارة الأزمات الإقليمية إلى قوى محليةٍ أو إقليميةٍ فاعلة مثل تركيا.

وأكدت القمة مكانة تركيا المحورية في الحلف وحرص واشنطن على تعزيز التعاون معها، فترامب شدد على أن التفاهم مع أنقرة هو مفتاح الاستقرار في المنطقة، مطالبا تركيا بوقف شراء النفط الروسي تضامنا مع الجهود الغربية لعزل موسكو.

فتناولت المحادثات مشروع “طريق ترامب للسلام والازدهار الدولي” (TRIPP)، الذي يهدف إلى ربط أذربيجان بأراضيها المنعزلة عبر الممرات الأرمنية، ولا يُنظر إلى هذا المشروع على أنه مجرد خطةٍ اقتصاديةٍ، بل باعتباره مبادرةً جيوسياسيةً ترعاها واشنطن، تستهدف تقليص مساحة النفوذ الروسي والإيراني في منطقة القوقاز، ويصبُّ هذا التوجّه مباشرةً في صالح أنقرة، التي تراه متسقًا مع رؤيتها لمشروع “العالم الطوراني”، مما يعكس انسجامًا استراتيجيًا بين ترامب وأردوغان في مناطق طالما ارتبطت تقليديًا بموسكو وطهران.

يمكن القول إن زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى البيت الأبيض مثّلت خطوةً لافتةً على صعيد الرمزية السياسية والرسائل الشكلية. فقد حرص كل من ترامب وأردوغان على إظهار أن علاقتهما الشخصية ما زالت متينةً، وأن فترة الجمود التي طبعت السنوات الماضية قد طُويت. من جانبه، استطاع ترامب أن يُبرزَ رؤيته لتركيا كشريكٍ محوريٍ في إدارة أزمات الإقليم والحدِّ من النفوذ الروسي، بينما حققت أنقرة مكسبًا مهمًا عبر إعادة فتح قنوات الحوار على أعلى مستوى، بما يمهّد الطريق أمام صفقاتٍ عسكريةٍ واقتصادية كبرى، وفي مقدمتها ملف مقاتلات F-35.

لكن هذه المكاسب تصطدم بتحدياتٍ عميقةٍ؛ فالإطار الجديد للعلاقة يعتمد بدرجةٍ كبيرةٍ على الروابط الشخصية بين الزعيمين، من دون وجود مؤسسات أو آلياتٍ تضمن استدامته في حال تغيّر القيادة السياسية في أي من البلدين. ولكي تتحول هذه الزيارة من مجرد محطة عابرة إلى نقطة تحول استراتيجية، يتعين بناء قواعد تعاون راسخة في مجالات الأمن الإقليمي، مكافحة الإرهاب، والطاقة.

كما أن نجاحَ هذا المسار يستلزم مواءمة المصالح الأمريكية والتركية مع أولويات الحلفاء الأوروبيين، تفاديًا لأي تصدّعاتٍ داخل حلف الناتو، فبينما قد يحقق النهْج البراغماتي لترامب مكاسب سريعة، فإنه يحمل في طياته خطر تقويض التحالفات التقليدية على المدى الطويل. ومن هنا، فإن استدامة هذا التقارب ستعتمد على قدرة واشنطن على تحويل العلاقة الشخصية إلى شراكةٍ مؤسسيةٍ متوازنةٍ، تراعي مصالح الأطراف كافة وتدعم استقرار المنظومة الأطلسية ككل.

 

 

المصدر: مركز شاف للدراسات الاستراتيجية

الكاتب : هنا داود

التاريخ : 28/9/2025

---------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

المصدر: الجزيرة نت

الكاتب : زيد اسليم

التاريخ : 26/9/2025

المقالات الأخيرة