لماذا تطور أمريكا اللاتينية ذكاءها الاصطناعي الخاص؟
فرع بنغازي

في وقت تحتدم فيه وتيرة السباق العالمي نحو السيطرة على تقنيات الذكاء الاصطناعي وكيفية تنظيم أدواته، شرعت أمريكا اللاتينية في إعادة رسم ملامح هذا السباق، لكن بمنظور مختلف، يقدم بديلاً ملائماً للواقع اللاتيني، ولا ينافس كبريات شركات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي الغربية، ويتكيف مع خصوصيات شعوبه، وذلك عبر تطوير أول نموذج لاتيني للذكاء الاصطناعي "لا تام جي بي تي (Latam-GPT)" والمقرر إطلاقه للجمهور في سبتمبر 2025

إرهاصات المشروع: 

بدأت القصة بموقف بسيط تعرض له مصمم الجرافيك التشيلي خوان بالما، حين طلب من "شات جي بي تي" إرشاداً إلى أقرب محطة مترو في سانتياغو؛ لكن الرد الخاطئ الذي تلقاه كان كافياً للكشف عن أن النماذج العالمية قد يُصيبها بعض الإخفاق في فهم الخصوصيات اللغوية والثقافية المحلية. 

نتيجة لهذا، بدأت دول أمريكا اللاتينية في تطوير المشروع منذ يناير 2023؛ بقيادة المركز الوطني للذكاء الاصطناعي (CENIA) بمشاركة أكثر من 30 مؤسسة أكاديمية وتقنية في المنطقة، تحت قيادة دولة تشيلي، التي برزت كرائد إقليمي منذ إنشاء المركز الوطني للذكاء الاصطناعي في عام 2021؛ حيث جمعت مشاريعها أكثر من خمسين مليار معلمة (Parameter) تدريبية؛ وهو ما قد يُعزز فرصها في منافسة النماذج العالمية رغم تواضعها. ورغم محدودية الموارد، أحرز المشروع تقدماً ملحوظاً؛ حيث وصل إلى نحو 60% من الإنجاز، مع تدريب النموذج على أكثر من 2,6مليون وثيقة من أمريكا اللاتينية وبورتوريكو وإسبانيا. وعلى الرغم من صغر حجمه مقارنةً بالنماذج العالمية الأكثر تقدماً، فضلاً عن أن بنيته أقرب إلى ChatGPT-2 منها إلى GPT4 الحالي؛ فإن ميزته لا تكمن في كمية البيانات، بل في جودة هذه البيانات وأهميتها. 

إضافة إلى ذلك، اعتمد المشروع على منصة Llama 3 التي تحتوي على 70مليار مُعامل؛ ليُصبح بمثابة عقل مفتوح يسمح للمطورين المحليين بإنشاء تطبيقاتهم الخاصة دون الاعتماد على التكنولوجيا الأجنبية. ونتيجة لذلك، تم تخزين 17,5 تيرابايت من المعلومات التي تنوعت بين الوثائق التاريخية الرقمية، والأعمال الأدبية المحلية التي لا يمكن العثور عليها على الإنترنت؛ في مركز الحاسوب العملاق بجامعة تاراباكا بتشيلي؛ لتصبح بذلك أول مستودع رقمي للمعرفة في المنطقة. 

مزايا عديدة: 

يُتطلَّع أن يسهم مشروع "لاتام جي بي تي (Latam-GPT)" في تحقيق عدة أهداف لدول المنطقة، وهو ما يمكن استعراضه على النحو التالي: 

1.ضمان التمثيل اللغوي والثقافي: اعتمدت معظم نماذج الذكاء الاصطناعي التقليدية بشكل أساسي على مجموعة من البيانات باللغة الإنجليزية؛ وهو ما أسهم في تهميش العديد من اللغات والثقافات، بجانب القيود في الأداء وعدم الدقة عند تطبيق هذه النماذج على سياقات غير إنجليزية. 

انطلاقاً من هذا، طورت دول أمريكا اللاتينية المشروع؛ ليصبح أول نموذج لغوي قائم على الذكاء الاصطناعي، ومُدرب تدريباً عميقاً على الخصوصيات الثقافية والتاريخية واللغوية للمنطقة؛ مما يمنحه قدرة أكبر على التفاعل الواقعي؛ إذ يكمن الاختلاف الجوهري بينه وبين نماذج الذكاء الاصطناعي الشائعة حالياً في فلسفة تطويره، فبدلاً من الاعتماد على مصادر البيانات الإنجليزية من أمريكا الشمالية أو أوروبا؛ يعتمد هذا النموذج على بيانات محلية من المدارس والجامعات والشركات والمكتبات، فضلاً عن دمجه الناجح للغتيْن أصليتيْن هما: لغة رابانوي في جزيرة إيستر ولغة مابودونغون لشعب المابوتشي، التابعتيْن لدولة تشيلي، إلى جانب لهجات نادرة من منطقة الكاريبي؛ مما يمهد الطريق للحفاظ على عشرات اللغات الأصلية الأخرى المهددة بالانقراض. 

2. دعم مختلف القطاعات: يسعى المشروع إلى توفير منصة شاملة تغطي تطبيقاتها مجموعة واسعة من القطاعات، وتتصدرها برامج المحادثة الآلية والمساعدون الافتراضيون. فمن المتوقع أن تُحسن هذه التقنيات تجارب خدمة العملاء في مختلف القطاعات، بما في ذلك الخدمات المصرفية والرعاية الصحية والخدمات العامة، من خلال توفير تفاعلات أكثر سهولة ومرونة خاصة بكل منطقة. كذلك، من الممكن أن تسهم قدرات "لاتام جي بي تي Latam-GPT" في إنشاء أنظمة تعليمية مُخصصة تتكيف مع وتيرة وأساليب التعلم الفردية؛ مما يُحسن النتائج التعليمية للطلاب في جميع أنحاء المنطقة. 

يُنبئ "لاتام جي بي تي Latam-GPT" أيضاً بتقدم كبير في قطاع الرعاية الصحية، فبفضل قدرته على معالجة اللغات المحلية والمصطلحات الطبية، يُمكن تشغيل روبوتات دردشة تشخيصية في العيادات والمستشفيات في المناطق النائية، مُقدماً بذلك نصائح طبية أولية ومُخففاً العبء على الممارسين الطبيين. 

إضافة إلى ذلك، وبصفته مبادرة مفتوحة المصدر، يُمكن للمطورين والأخصائيين الطبيين في جميع أنحاء المنطقة تحسين التطبيقات المرتبطة بالصحة بشكل تعاوني؛ مما يضمن التكيف المُستمر مع احتياجات وتحديات الرعاية الصحية الإقليمية.

3. توسيع فرص الوصول إلى الذكاء الاصطناعي: يمتاز المشروع بأنه مفتوح المصدر؛ إذ لا يُتيح الوصول إلى تقنية الذكاء الاصطناعي فحسب، بل يدعو أيضاً إلى المشاركة المجتمعية؛ مما يمنح الباحثين والمطورين والمؤسسات المحلية في المنطقة القدرة على تخصيص النموذج وتحسينه بما يناسب احتياجاتهم الخاصة؛ ومن ثم تعزيز قدرتهم على الابتكار والمنافسة في الاقتصاد الرقمي العالمي؛ وهو ما سيدفع أمريكا اللاتينية إلى الساحة العالمية للذكاء الاصطناعي كمنطقة تُولي الأولوية للشفافية والنمو الشامل في مشاريعها التكنولوجية. 

4. تعزيز الروابط الإقليمية: يمثل مشروع "لاتام جي بي تي Latam-GPT" خطوةً نحو تعزيز التعاون الإقليمي والشراكات القائمة على التكنولوجيا بين دول أمريكا اللاتينية. فمن خلال تجميع مواردها وخبراتها، لا تهدف هذه الدول إلى تحسين قدرات الذكاء الاصطناعي فحسب، بل أيضاً إلى تعزيز الروابط الإقليمية وقوة التفاوض الجماعي على الساحة العالمية. باختصار، لن يصبح "لاتام جي بي تي" مجرد مشروع تقني، بل سيُمثل استراتيجية إقليمية لبناء سيادة رقمية شاملة. فمن خلال التعاون، ستمتلك أمريكا اللاتينية فرصة فريدة لإعادة تشكيل الذكاء الاصطناعي بما يخدم شعوبها خلال السنوات المقبلة. 

تحديات قائمة: 

بالرغم من تحقيق مشروع "لاتام جي بي تي Latam-GPT" تقدماً حتى الآن؛ فإنه لن يخلو من بعض العقبات، التي يمكن تسليط الضوء عليها على النحو التالي:

1. تراجع البنية التحتية التكنولوجية: يتطلب المشروع بنية تحتية ضخمة وخبرات متخصصة للتغلب على العقبات التكنولوجية، مثل الوصول إلى الإنترنت، الذي لا يزال مُتفاوتاً في جميع أنحاء المنطقة، ناهيك عن الصعوبات حول بناء قاعدة بيانات كبيرة وتمثيلية للمنطقة، فعلى عكس شركات مثل جوجل وميتا وأوبن آي إيه، لا يمتلك المركز الوطني للذكاء الاصطناعي (CENIA) في تشيلي مصادر معلومات خاصة به؛ وهو ما دفعه لإطلاق حملة لدعوة مراكز الأبحاث والمؤسسات العامة والأرشيفات والمكتبات والجامعات والمنظمات الاجتماعية ودور النشر ومنتجي الأفلام والأفراد من جميع أنحاء المنطقة ممن لديهم إمكانية الوصول إلى كميات كبيرة من البيانات، للتعاون في تطوير المشروع. 

2. الحاجة إلى قوانين لحماية الخصوصية: تتطلب استدامة المشروع معالجة المخاوف الأخلاقية المحتمل ظهورها جراء الاستخدام، بما في ذلك تحيزات الذكاء الاصطناعي وخصوصية البيانات، وضمان أن يكون نموذجاً لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي المسؤولة والشاملة؛ إذ يشعر المحللون القانونيون بالقلق إزاء تداخل واختلاف تشريعات خصوصية البيانات في أمريكا اللاتينية؛ مما قد يؤدي إلى خلق تعقيدات قانونية، خاصة مع الاستخدام واسع النطاق للبيانات الشخصية. فالبرازيل، على سبيل المثال، تُعد موطناً لتشريعات قوية، بينما تفتقر بوليفيا المجاورة إلى قوانين شاملة لحماية البيانات الشخصية. 

3. مُشاركة الفئات المهمشة: يبقى التحدي الأكبر هو ضمان إشراك المجتمعات الأصلية والمهاجرة والفئات المهمشة في تطوير النموذج. فغياب هذه الشريحة عن تصميم الذكاء الاصطناعي قد يُعيد إنتاج التحيزات التاريخية. ولهذا السبب، أشارت بعض التوقعات إلى أنه قد يتم تأخير إصدار هذا البرنامج؛ ليصبح في مارس 2026 بدلاً من سبتمبر 2025؛ لأن اللغات غير المكتوبة أو لغات الشعوب الأصلية، لا تحتوي إلا على موارد مكتوبة قليلة؛ ومن ثم قد يواجه المطورون صعوبة في ترجمة العديد من المفاهيم. 

4. تحديات مالية: يشكل الدعم المالي المستمر تحدياً بالغ الأهمية لضمان استدامة المشروع ونجاحه، ولا سيما مع عدم تخصيص ميزانية رسمية للمشروع حتى الآن. فعلى الرغم من تمويل المشروع من قبل بنك التنمية الإقليمي (CAF) وشركة أمازون ويب سيرفيسز العملاقة للتكنولوجيا (Amazon Web Services)، يسعى مطورو المشروع بنشاط للحصول على دعم مالي إضافي واستكشاف قنوات مختلفة لتأمين التمويل، بما في ذلك الشراكات مع شركات التكنولوجيا والمنح الحكومية والتبرعات العامة. 

كذلك، سيؤدي الدعم المالي دوراً محورياً في معالجة الفجوة الرقمية التي تُقيد حالياً الوصول إلى الذكاء الاصطناعي في العديد من مناطق أمريكا اللاتينية؛ وهو ما سيمهد الطريق أيضاً للنمو طويل الأجل، وتنمية المواهب المحلية، والنهوض الاقتصادي المُستدام؛ ومن ثم يجب أن تكون مبادرات التمويل منسجمة استراتيجياً مع الأهداف الإقليمية الأوسع نطاقاً لتعظيم أثر المشروع خلال العقود المقبلة. 

5. تحديات بيئية: حذَّر العديد من خبراء البيئة من الآثار طويلة المدى للمشروع؛ لأنه يستهلك كميات كبيرة من الطاقة والمياه؛ وهو ما أثار موجة معارضة محلية في العديد من بلدان المنطقة وعلى رأسها تشيلي؛ حيث عارض السكان المحليون مراكز البيانات، التي تضم البنية التحتية اللازمة لتدريب وبناء المشروع؛ لأنها تقع في جامعة تاراباكا، شمال تشيلي، وهي منطقة عانت من الجفاف لعقود؛ وهو ما دفع فريق المركز الوطني للذكاء الاصطناعي (CENIA) لتهدئة الرأي العام من خلال التصريح بأنهم يستخدمون بنية تحتية سحابية مرنة وقابلة للتطوير، بجانب الاعتماد على الطاقة الشمسية، للتقليل من الأثر البيئي لهذا المشروع.  

وفي التقدير، يمكن القول إنه رغم التحديات الهيكلية التي تواجه المشروع ومحاولته دخول الساحة العالمية للذكاء الاصطناعي؛ فإن هناك عدداً من العوامل التي قد تساعد على التغلب على تلك التحديات، ومنها على سبيل المثال، قيام كل من تشيلي والبرازيل وكولومبيا وبيرو والأرجنتين باتخاذ خطوات استباقية لتطوير الذكاء الاصطناعي والروبوتات، سواءً من خلال التشريعات أم الاستثمارات أم المبادرات البحثية. ففي العام الماضي (2024) على سبيل المثال، كشف الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا، عن استراتيجية وطنية للذكاء الاصطناعي تتضمن استثمار أكثر من 4 مليارات دولار بحلول عام 2028؛ لتعزيز هذه الصناعة، هذا إلى جانب الأرجنتين التي ما زالت تُحرز تقدماً ملحوظاً في مجال ابتكار الروبوتات، مع التركيز على تطوير الأتمتة في مختلف الصناعات. وعلى نفس المنوال، برزت بيرو كدولة رائدة في مجال تشريعات الذكاء الاصطناعي في أمريكا اللاتينية، فحتى يناير 2025، قدمت 17 مشروع قانون متعلقاً بالذكاء الاصطناعي، وهو أعلى رقم في المنطقة حتى الآن؛ ويعني ذلك أن منافسة المشروع في الساحة العالمية للذكاء الاصطناعي مرهونة بقدرة الدول المنضوية في هذا المشروع على التغلب على التحديات الهيكلية التي تواجهه. 

 

المراجع

_ هيسبريس، 10/8/2025، لماذا تسعى بلدان أمريكا اللاتينية لبناء نموذج الذكاء الاصطناعي الخاص به، المستقبل للدراسات الستراتيجية.

_ ابراهيم مصطفى، 21/7/2025، أمريكا اللاتينية تطوّر نموذج ذكاء اصطناعي خاص بها: “Latam-GPT، العين الاخبارية.

المقالات الأخيرة