تشهد منطقة الشرق الأوسط منذ بداية الولاية الثانية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، التي بدأت في 20 يناير 2025، تحولات أمنية واستراتيجية متسارعة، مع بروز تحالفات أمنية جديدة تعيد تغير توازن القوى الإقليمي في المنطقة، ولا سيما مع التحولات التي حدثت في العقيدة العسكرية الإسرائيلية بعد أحداث 7 أكتوبر 2023، حيث لم تعد الحكومة اليمينية المتطرفة بقيادة بنيامين نتنياهو راضية بالاكتفاء باحتواء ما تسميه "التنظيمات المعادية"، أو ردعها من خلال القوة العسكرية؛ بل تعهدت بـ"هزيمة أعدائها بصورة حاسمة"، مع السعي إلى تشكيل نظام إقليمي جديد يكفل أمن تل أبيب على المدى الطويل.
وقد تجلى هذا التموضع الهجومي - الذي يراه بعض المراقبين مسعى للهيمنة الإقليمية - في استخدام تل أبيب القوة العسكرية مؤخراً- ضد خمسة دول (إيران، لبنان، سوريا، اليمن، قطر)، واستعدادها لاستخدامها مجدداً حتى بعد إبرام اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة.
وفي المقابل، استمر الرئيس الأمريكي في تبني المقاربة ذاتها التي اعتمدها منذ إدارته الأولي التي تقوم على تقاسم الأعباء والمسئولية الأمنية مع الشركاء الإقليميين، حيث أراد نقل المزيد من مسئولية حفظ الأمن إلى حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، وتفادي التورط العسكري المباشر قدر الإمكان في صراعات المنطقة وتجنب تحولها إلى حروب إقليمية تتورط فيها القوات الأمريكية، مؤكداً أن نجاح إدارته يقاس بعدد الصراعات التي تنتهي وبالحروب التي يتم تفادي خوضها. وقد صرح مستشاروه بأن "حقبة تدخل الغرب في شئون الشرق الأوسط قد ولت، والمستقبل للحلول الإقليمية" في إشارة إلى رؤية الإدارة الجمهورية القائمة على أن أن تتولى دول المنطقة زمام المبادرة في حل نزاعاتها بدلاً من الاعتماد المطلق على واشنطن.
استراتيجية تقاسم المسئولية والأعباء
تبلورت مقاربة الرئيس الأمريكي تجاه منطقة الشرق الأوسط على مبدأ تقاسم الأعباء والمسئولية كأداة مركزية في إعادة ضبط الدور الأمريكي في المنطقة، والتي تقوم على نقل مهمة الأمن إلى الحلفاء مع إبقاء الإشراف الاستراتيجي بيد الولايات المتحدة. وقد كرست استراتيجية الأمن القومي خلال إدارته الأولي (ديسمبر 2017) هذا الاتجاه، حيث أشارت إلى أهمية استمرار حلفاء واشنطن في تقاسم أعباء الحفاظ على أمن واستقرار المنطقة، والعمل بشكل مستقل عن المساعدات الأمريكية وبالتوازي، صاغ ترامب خطاباً خلال إدارتيه الأولى والثانية، ضاغطاً ضد "الراكبين المجانيين"، ملوحاً بأن الحماية الأمريكية مشروطة بزيادة الإنفاق والمساهمة العملياتية في تحقيق الآمن والاستقرار الإقليميين. فالمبدأ الحاكم لسياسة الإدارة في الشرق الأوسط هو: استدامة النفوذ الأمريكي بأدنى تكلفة عبر شبكة من الشركاء القادرين على تولي الجزء الأكبر من العبء الأمني يومياً.
هذه المقاربة ليست خياراً أيديولوجياً محضاً، بل استجابة براجماتية لحقيقتين: الأولى، تعقد الأزمات الإقليمية واستعصاؤها على الحلول الأمريكية المنفردة؛ والثانية، تحول الأولويات الجيوسياسية مع الاستدارة نحو منطقة الإندو-باسيفيك. ومع تآكل فاعلية أدوات الضغط الأمريكية في بعض ملفات المنطقة، باتت القوى الإقليمية-العربية وغير العربية-أكثر انخراطاً وقدرة على فرض مقارباتها، أحياناً بما يتجاوز الدور الأمريكي. لذا، تميل واشنطن إلى التنسيق مع تلك القوى وليس إعاقة أدوراها الإقليمية طالما أن المبادرات الإقليمية تسير في اتجاه لا يتعارض مع المصالح الأمريكية العليا، الأمر الذي يتيح لواشنطن الحفاظ على مواردها وقدراتها لجبهات وأزمات تعد أكثر أولوية لأمنها القومي.
وبموازاة إعادة توزيع الأدوار، وبناء القدرات للدول الحليفة للولايات المتحدة في المنطقة لرفع الجاهزية والتشغيل البيني مع القوات الأمريكية، وتحويل الردع الأمريكي إلى قدرات محلية مستدامة تخفف الطلب على التدخل الأمريكي المباشر، مع فائدة صناعية داخلية بتوليد وظائف أمريكية، سعت واشنطن إلى بناء تحالف وتكتلات بين حلفائها في المنطقة عبر مبادرات مثل التحالف الاستراتيجي للشرق الأوسط (MESA) الذي طرح في قمة الرياض 2017 لضم دول مجلس التعاون ومصر والأردن في إطار مواجهة أزمات المنطقة المتعددة وإيران، وتنسيق الدفاعات وحماية البنية التحتية، وإدارة الصراعات من سوريا إلى اليمن، ومكافحة الإرهاب وانتشار أسلحة الدمار الشامل ورغم تعثر تحويله إلى حلف رسمي كامل الأركان، خاصة مع رفض العديد من الدول الانخراط في تحالف موجه ضد أحد الأطراف، فقد ظلت فكرته قائمة بشأن بناء روابط سياسية-اقتصادية-أمنية بين الحلفاء التقليديين بما يمكنهم من الدفاع الذاتي الجماعي، فيما تتولى الولايات المتحدة دور المنسق والضامن الأخير للأمن الإقليمي. وبذلك تصبح استراتيجية مشاركة الأعباء والمسئولية العمود الفقري لنهج أمريكي جديد في منطقة الشرق الأوسط يقوم على هيمنة أمريكية مرنة تحافظ على النفوذ بتكلفة أقل، عبر تمكين الشركاء وتوجيه المبادرات الإقليمية كي تعمل مع الرؤية الأمريكية لا خارجها.
توافق التحالفات الأمنية الجديدة مع الرؤية الأمريكية
تخدم اتفاقية الدفاع المشترك بين السعودية وباكستان، التي وقعها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ورئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف في 17 سبتمبر الفائت (2025)،من منظور استراتيجي، مصالح واشنطن في منطقة الشرق الأوسط في ثلاث نقاط مركزية، يتمثل أولاها في أنه يرسخ سياسة ردع إيران دون الحاجة إلى تدخل أمريكي مباشر فوجود قوة نووية إسلامية كإسلام آباد تقف إلى جانب الرياض يضيف طبقة ضغط جديدة على طهران، وهو ما يتوافق مع فلسفة "السلام عبر القوة" التي تتبناها إدارة ترامب.
وثانيتها، أن واشنطن تفضل أن تتجه الرياض إلى إسلام آباد، الحليف التاريخي للولايات المتحدة، بدلاً من أن تنزلق نحو شراكة أمنية أعمق مع الصين أو روسيا. وثالثتها، أن نجاح التحالف قد يخفف تدريجياً من عبء الوجود العسكري الأمريكي في الخليج العربي، وهو هدف طالما أعلن عنه ترامب في سياق إنهاء "الحروب التي لا تنتهي" في منطقة الشرق الأوسط.
وعلى خلاف هذه المكاسب تبرز مخاوف جوهرية تهدد صميم الرؤية الأمريكية للأمن الإقليمي. أبرزها خطر الانتشار النووي؛ إذ ترى الولايات المتحدة في دخول دولة نووية على خط تأمين منطقة الخليج العربي احتمالاً لسباق تسلح جديد، خاصة بعد التصريحات السعودية التي لمحت فيها إلى امتلاك قدرات نووية لردع إيران إذا امتلكتها. كما تخشى تحليلات أمريكية من أن يوفر التمويل السعودي غطاءاً لتطوير القدرات الصاروخية والنووية الباكستانية، ما يثير قلق إسرائيل ويهدد توازن الردع الأمريكي في المنطقة. لذا تتعامل واشنطن مع هذا الاتفاق بوصفه "سيفاً ذا حدين" فهو مفيد ضد إيران، لكنه خطير على استقرار النظام الأمني الأوسع في الشرق الأوسط.
إحدى نقاط التعارض الأكثر حساسية تتعلق بالهند، التي تراها واشنطن ركيزة أساسية في استراتيجيتها الآسيوية لاحتواء الصعود والنفوذ الصيني آسيويا فنيودلهي تعتبر باكستان خصمها التاريخي، والتحالف السعودي–الباكستاني اعتبر في نيودلهي اصطفافاً يضر بمصالحها في منطقة الخليج العربي، خاصة بعد زيارة قائد الجيش الباكستاني إلى البيت الأبيض في صيف 2025 وما تبعها من تصريحات لترامب بأنه توسط لوقف إطلاق النار بين البلدين. فقد أضعفت هذه التطورات الثقة بين واشنطن ونيودلهي، وأحرجت البيت الأبيض الذي وجد نفسه يحاول طمأنة الهند بأن التعاون الخليجي-الباكستاني لن يترجم إلى تهديد مباشر لممرات الطاقة الهندية. ومن منظور استراتيجي أوسع، فإن إغضاب نيوديلهي يعد خسارة مكلفة لواشنطن، لأنه قد يدفعها نحو تعميق تعاونها مع روسيا أو التزام الحياد في التنافس الأمريكي–الصيني.
يعكس التحالف السعودي-الباكستاني حالة الارتباك في مقاربة إدارة ترامب الثانية حيال مبدأ القيادة في الشرق الأوسط. فالإدارة تروج لسياسة دفع الحلفاء إلى تحمل مسئولياتهم، لكنها في الوقت ذاته تخشى من استقلالهم الزائد عن الحد. فكلما بنت دولة إقليمية ترتيبات أمنية جديدة دون إشراف أمريكي مباشر، شعرت واشنطن بأن قبضتها على المشهد تتراجع. هذا ما يحدث اليوم مع التحالف السعودي-الباكستاني الذي يمنح الرياض خياراً بديلاً عن المظلة الأمريكية التقليدية. وتخشى مراكز القرار في واشنطن أن تستخدم الرياض هذه الورقة كورقة ضغط سياسية واقتصادية للحصول على مزيد من التنازلات أو الضمانات الأمريكية، ما يقوض احتكار واشنطن للقرار الأمني الخليجي.
على النقيض من ذلك، يشكل التحالف الهندي-الإماراتي مثالاً على التحالفات المتوافقة بالكامل مع الرؤية الأمريكية للأمن الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط. فكل من نيودلهي وأبو ظبي شريكان مقربان لواشنطن والتحالف بينهما يعزز فلسفة الربط الشبكي بين الحلفاء التي تبنتها الإدارة الأمريكية منذ إطلاق مجموعة I2U2 التي تجمع الولايات المتحدة، والهند، والإمارات، وإسرائيل. يسهم هذا التعاون في تقوية الأمن البحري في الخليج والمحيط الهندي، ويحد من نفوذ الصين، ويحافظ على استقرار طرق التجارة والنفط التي تمثل شريان الاقتصاد العالمي. كما أن غياب أي عنصر نووي أو مواجهة ضمنية مع إسرائيل يجعل هذا التحالف في المنطقة الآمنة سياسياً بالنسبة للولايات المتحدة. علاوة على ذلك، فإن هذا التحالف لم ينتج توترات مع أي حليف أمريكي آخر في المنطقة. لذا ترى واشنطن في الشراكة الهندية–الإماراتية نموذجاً لما يجب أن تكون عليه التحالفات المستقبلية، حيث يقوم على تكامل مصالح الحلفاء ضمن بنية إقليمية مرنة تقودها الولايات المتحدة من الخلف، دون تكلفة عسكرية مباشرة.
تظهر المقارنة بين الموقفين الأمريكيين من التحالفين، السعودي-الباكستاني والإماراتي-الهندي، اختلافاً جوهرياً في مستوى القبول والمخاطر ففي حين تتعامل واشنطن مع الأول بحذر ورقابة استخباراتية مستمرة فإنها تشجع علناً على الشراكة الهندية-الإماراتية، وتشارك أحياناً في مناوراتها البحرية. يتجلى ذلك في ازدواجية الخطاب داخل الإدارة نفسها، حيث جناح براجماتي يرى أن التحالف السعودي-الباكستاني يمكن احتواؤه وتوجيهه لخدمة الردع ضد إيران، وجناح أكثر تشدداً يخشى من انزلاق الاتفاق نحو تعاون نووي أو تهديد للهند وإسرائيل لذلك فضلت إدارة ترامب إبقاء موقفها غامضاً رسمياً، مكتفية ببيانات دبلوماسية فضفاضة تؤكد التواصل مع الشركاء لفهم أبعاد الاتفاق، دون الدخول في مواجهة مباشرة قد تدفع الرياض نحو بكين.
من منظور بنيوي، يظهر التباين في موقفي واشنطن من التحالفين حدود الرؤية الأمريكية الجديدة للأمن الإقليمي، فهي ترحب بكل تحالف يخدم مصالحها في تقليص النفوذ الإيراني والصيني ويخفف أعبائها الدفاعية، لكنها تتحفظ على أي تحالف يضعف أحد أركان هيمنتها التقليدية في الشرق الأوسط. وبهذا المعنى، يمكن القول إن واشنطن لا تمانع في تعددية شبكات الحلفاء بقدر ما تسعى لضبط اتجاهاتها ضمن نظام إقليمي لا يخرج عن السيطرة الأمريكيةفهي تريد شراكات أمنية ودفاعية متقاطعة لا محاور متنافسة. كما أن كلا التحالفين-على اختلاف طبيعتهما-يؤكدان تحول المنطقة نحو توزيع أفقي للأمن بدلاً من الاعتماد على الولايات المتحدة، وهو اتجاه تدركه واشنطن وتحاول توجيهه بدل مقاومته. فترامب لا يريد تفكيك نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة، بل إعادة هيكلته ليصبح نفوذاً يدار عبر حلفاء متفاعلين بدل قوات متمركزة في دول المنطقة.
خلاصة القول، يتضح أن التحالفات الأمنية الجديدة في الشرق الأوسط تتوافق جزئياً مع الرؤية الأمنية الأمريكية لإدارة دونالد ترامب الثانية. فهي تخدم أهداف الردع ضد إيران، وتدعم فكرة تقاسم الأعباء والمسئولية، وتسهم في تحجيم الانخراط الأمريكي المباشر، لكنها في الوقت نفسه تطرح تحديات تتعلق بتوازن القوى، ومنظومة عدم الانتشار، والحفاظ على وحدة شبكة الحلفاء الأمريكيين. فالتحالف السعودي-الباكستاني يمثل تحدياً مقبولاً، ولكنه مشروط بضوابط، بينما التحالف الهندي-الإماراتي يمثل فرصة مثالية للتنفيذ العملي للرؤية الأمريكية الجديدة. وبين هذين النموذجين تتأرجح السياسة الأمريكية بين الرغبة في توسيع نفوذها غير المباشر، والخشية من أن يتحول تقاسم الأعباء إلى تقاسم للنفوذ.
إن ما يجمع بين كل تلك التحالفات هو أنها تعكس تحولاً جذرياً في مفهوم الأمن الإقليمي من وجهة نظر الولايات المتحدة، من أمن تديره واشنطن بالقوة العسكرية ووجود قوات على الأرض في الشرق الأوسط إلى أمن تنسقه واشنطن عبر تحالفات بين الحلفاء والشركاء وفي هذا الإطار، تبدو إدارة ترامب الثانية حريصة على هندسة خريطة تحالفات متوازنة لا تلغي الدور الأمريكي، بل تعيد صياغته، بحيث تبقى واشنطن مركز الثقل في نظام إقليمي متعدد الأذرع، تتداخل فيه مصالحها مع مصالح الحلفاء في مواجهة الخصوم المشتركين. وبذلك تعاد صياغة الأمن الإقليمي للشرق الأوسط وفق معادلة جديدة: أمن تقوده واشنطن من الخلف، وينفذه الحلفاء في الميدان.
المصدر: مركز الأهرام للدرسات السياسية والاستراتيجية
الكاتب : د. عمرو عبد العاطي
التاريخ : 13/10/2025
---------------------------------------------------------------------
المصدر: وكالة فرات للأنباء
التاريخ : 25/9/2025