شهد العالم في العقود الأخيرة تحولات جذرية في منظومة الاتصال والمعلومات، حيث برزت منصات الإعلام الاجتماعي كقوة مهيمنة على الفضاء الرقمي، ورغم الفوائد الجمّة التي قدمتها هذه المنصات في تسهيل التواصل وتبادل المعرفة، إلا أنها أصبحت في الوقت ذاته بيئة خصبة لانتشار خطاب الكراهية والتطرف، ومسرحًا لتجنيد الأفراد في صفوف التنظيمات الإرهابية. هذا الموضوع سيناقش، من منظور علمي، كيفية استغلال هذه المنصات في صناعة الإرهاب والتطرف، مع التركيز على آليات التجنيد، وبناء الروايات المتطرفة، والتأثير النفسي على الأفراد.
أولاً: التحول من الفضاء المادي إلى الفضاء الرقمي
تقليديًا، اعتمدت التنظيمات الإرهابية على التجنيد المباشر واللقاءات السرية في أماكن محددة. أما الآن، فقد سمحت منصات مثل فيسبوك، تويتر، يوتيوب، وتيليجرام بإنشاء "ساحات افتراضية" لا حدود لها. فمن خلالها، يستطيع المتطرفون الوصول إلى جمهور أوسع بكثير من أي وقت مضى، والتغلب على الحواجز الجغرافية والرقابية. هذه المنصات توفر ميزة الوصول السريع والمجاني، مما يسهل على التنظيمات نشر رسائلها وشعاراتها بشكل فعال.
ثانياً: آليات التجنيد عبر الإنترنت
تستخدم التنظيمات الإرهابية استراتيجيات معقدة لجذب الأفراد عبر منصات الإعلام الاجتماعي، يمكن تلخيصها في عدة خطوات:
الاستكشاف والتحليل: تقوم الجماعات المتطرفة بمراقبة المنشورات والصفحات التي تظهر عليها علامات الاستياء، الغضب، أو الشعور بالظلم. هذه المشاعر تُعتبر أرضية خصبة للاستهداف.
بناء علاقات شخصية: يبدأ المجندون بالتواصل الفردي مع الأهداف المحتملة، غالبًا تحت غطاء الصداقة أو الاهتمام المشترك. يتم بناء الثقة تدريجيًا من خلال المحادثات الخاصة.
غرس الأيديولوجية: بعد بناء العلاقة، يبدأ المجند بتقديم المحتوى المتطرف تدريجيًا، مثل مقاطع الفيديو، المقالات، والكتب التي تبرر العنف والإرهاب.
التعبئة والتحفيز: يتم تشجيع الأفراد المستهدفين على الانضمام إلى مجموعات خاصة مغلقة، حيث يتم تعريضهم لجرعات مكثفة من الخطاب المتطرف الذي يحفزهم على اتخاذ خطوات عملية، مثل التخطيط لهجمات أو تقديم دعم لوجستي.
ثالثاً: صناعة المحتوى المتطرف وبناء الرواية
تتميز التنظيمات المتطرفة بمهارة عالية في صناعة المحتوى الذي يتناسب مع طبيعة كل منصة. على سبيل المثال:
يوتيوب وفيسبوك: تُستخدم لنشر مقاطع فيديو عالية الجودة تحمل رسائل عاطفية، مثل قصص "الشهداء" أو مشاهد "الانتصارات" الوهمية. هذه المقاطع غالبًا ما تكون مصممة بشكل احترافي لجذب الشباب.
تويتر: يُستخدم كمنصة لنشر الهاشتاجات التعبوية، وتداول الأخبار المضللة، ومهاجمة الخصوم بشكل سريع ومكثف.
تيليجرام: يُعتبر الملاذ الآمن لهذه التنظيمات، فهو يوفر قنوات مشفرة تسمح بنشر الإرشادات، والتحريض على العنف، وتبادل المعلومات بسرية تامة.
هذه الروايات غالبًا ما تستغل القضايا السياسية والاجتماعية الحساسة، مثل الصراعات الإقليمية أو الظلم الاقتصادي، لتقديم نفسها كحل جذري، وتصوير الحكومات والمجتمعات الغربية كأعداء.
رابعاً: التأثير النفسي والسلوكي على الأفراد
تُمارس منصات الإعلام الاجتماعي تأثيرًا نفسيًا عميقًا على الأفراد، مما يجعلهم أكثر عرضة للتطرف.
غرفة الصدى (Echo Chamber): عندما ينضم الفرد إلى مجموعة متطرفة، فإنه يتعرض بشكل مستمر لآراء مماثلة لآرائه، مما يعزز قناعاته ويجعله يعتقد أن أفكاره هي السائدة والصحيحة. هذا يقلل من فرصة سماع وجهات نظر مخالفة.
التجريد من الإنسانية (Dehumanization): من خلال خطاب الكراهية، يتم تصوير "الآخر" على أنه عدو لا يستحق التعاطف. هذا يسهل على الأفراد تبرير العنف ضدهم.
الهروب من الواقع: يشعر بعض الأفراد الذين يعانون من مشاكل نفسية أو اجتماعية بالانتماء والقوة داخل هذه المجموعات الافتراضية، مما يجعلهم يجدون في التطرف ملاذًا يمنحهم هوية وهدفًا.
خامساً: مواجهة التحدي
تتطلب مواجهة هذا التحدي نهجًا متعدد الأبعاد:
التعاون مع شركات التكنولوجيا: يجب على الحكومات والمنظمات الدولية العمل مع شركات مثل ميتا، وتويتر، وجوجل لوضع سياسات صارمة لحذف المحتوى المتطرف ومنع الحسابات المروجة له.
التشريعات والقوانين: سن قوانين تجرم التحريض على الإرهاب عبر الإنترنت وتسمح بملاحقة المتورطين.
التثقيف والتوعية: يجب تعزيز التفكير النقدي لدى الشباب لمساعدتهم على التمييز بين المعلومات الصحيحة والمضللة، وتعريفهم بمخاطر خطاب الكراهية.
بناء روايات بديلة: مواجهة الأيديولوجيات المتطرفة من خلال نشر محتوى إيجابي يعزز قيم التسامح والتعايش السلمي.
خاتمة
إن منصات الإعلام الاجتماعي ليست مجرد أدوات، بل هي بيئات اجتماعية معقدة تتفاعل فيها العوامل التكنولوجية، النفسية، والاجتماعية. لقد أصبحت هذه المنصات سلاحًا ذو حدين، حيث استخدمها الإرهابيون ببراعة لتصنيع وتوزيع رسائل التطرف، والتأثير على عقول الأفراد. إن فهم هذه الآليات المعقدة هو الخطوة الأولى نحو بناء استراتيجيات فعالة لمكافحة هذا الخطر المتنامي، وحماية المجتمعات من آفة الإرهاب التي تتخفى وراء شاشاتنا.
المراجع
العياصرة، محمد. (2018). الإعلام الاجتماعي والإرهاب: دراسة في دور المنصات الرقمية في صناعة التطرف. عمان: دار أسامة للنشر والتوزيع.
يوسف، هبة. (2020). الشباب والتطرف الرقمي: آليات التجنيد والاستقطاب عبر الإنترنت. القاهرة: المركز العربي للأبحاث والدراسات.