يشهد العالم اليوم تحولات جيوسياسية متسارعة، حيث لم تعد الصراعات الدولية تقتصر في تأثيرها على الخرائط السياسية والعسكرية فحسب، بل امتدت لتصبح المحرك الرئيسي لإعادة تشكيل سياسات الطاقة العالمية. فكل أزمة تُحدث موجات صادمة في أسواق النفط والغاز، مسببةً تقلبات حادة في الأسعار واضطرابات غير مسبوقة في سلاسل الإمداد. هذه التحديات تُجبر الدول على إعادة تقييم استراتيجياتها في مجال الطاقة وتُعجِّل البحث عن بدائل، وتعيد صياغة التحالفات الدولية. وبينما تتجه الأنظار نحو مصادر طاقة أكثر استدامة وأمناً، يبقى فهمنا لكيفية تفاعل هذه الصراعات مع ديناميكيات الطاقة أمراً حاسماً لمستقبل الاقتصاد العالمي واستقراره.
الحروب والصراعات في المناطق الغنية بالنفط والغاز، مثل الشرق الأوسط أو أوروبا الشرقية، يمكن أن تؤدي إلى تعطيل إنتاج الطاقة أو تعطيل خطوط النقل، مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار ونقص الإمدادات. لا يقتصر هذا التأثير على النفط والغاز فحسب، بل يؤدي أيضاً إلى زيادة المضاربة في الأسواق. ومع تفاقم الاضطرابات ونقص الإمدادات، جعل ذلك الدول المنتجة للطاقة أو المتحكمة في ممرات التجارة تستخدم الطاقة كسلاح أو كورقة ضغط سياسية واقتصادية على المجتمع الدولي، كما فعلت إيران بالتهديد أثناء الصراع مع الكيان الصهيوني بغلق مضيق هرمز. كما تقوم تلك الحروب بإعادة تشكيل التحالفات الدولية، حيث تسعى الدول المستوردة للطاقة، خصوصاً النفط والغاز، لتعزيز علاقاتها مع منتجين جدد، بينما قد تبحث الدول المنتجة التي تواجه عقوبات عن أسواق جديدة لصادراتها، كما قامت روسيا في حربها ضد أوكرانيا بتقليل صادراتها من الغاز إلى الدول الأوروبية والبحث عن أسواق جديدة في آسيا (الصين والهند).
أولاً- نقطة اختناق استراتيجية: "مضيق هرمز"
تُعَدُّ الممرات الرئيسية لمرور النفط والغاز والسلع والمواد الخام شرياناً حيوياً لتدفق التجارة. وإذا حدث فيها أي إعاقة، تؤثر مباشرة على سلاسل الإمداد العالمية وتسبب ارتفاعاً في الأسعار. وغالباً ما تكون البدائل الوحيدة لهذه الممرات أطول وأكثر تكلفة وأقل كفاءة، مما يزيد الضغط الاقتصادي. ويُعَدُّ مضيق هرمز أهم نقطة اختناق استراتيجية في العالم لتجارة النفط، حيث يقع بين إيران وسلطنة عمان ويمر عبره نحو 20% إلى 25% من إجمالي النفط المستهلك عالمياً يومياً، بالإضافة إلى كميات كبيرة من الغاز الطبيعي المسال (LNG). هذا يجعله شرياناً حيوياً لاقتصاديات دول الخليج المنتجة للطاقة والعديد من الدول المستوردة الكبرى في آسيا وأوروبا.
ولهذا تقوم إيران دائماً بالتهديد بغلق مضيق هرمز كـ “ورقة ضغط" رئيسية في مواجهة العقوبات الغربية أو أي تصعيد عسكري. وحتى مجرد التلميح بهذا التهديد يُثير قلقاً بالغاً في الأسواق العالمية، مما يؤدي إلى قفزات فورية في أسعار النفط. فإذا ما أُغلق المضيق فعلياً، فإن التأثير سيكون مدمراً على الاقتصاد العالمي؛ فقد تقفز أسعار النفط إلى مستويات غير مسبوقة مما يُشعل التضخم، ويعيق النمو الاقتصادي، ويجبر الدول على السحب من احتياطاتها الاستراتيجية. ولا يتوقف هذا الارتفاع على أسعار النفط والغاز، بل يؤثر أيضاً على ارتفاع أقساط التأمين على السفن التي تمر عبر هذه المنطقة بشكل كبير خلال فترات التوتر، مما يضيف تكلفة إضافية على أسعار السلع المنقولة ويعطل سلاسل الإمداد العالمية.
وإذا ما تم إغلاق المضيق، تتوقع بعض التحليلات أن أسعار النفط قد تقفز إلى 120 أو 130 دولاراً للبرميل أو أكثر، مما قد يتسبب في صدمة تضخمية عالمية ويزيد تكاليف الشحن والتأمين بشكل كبير. وقد حدثت قفزة جزئية في الأسعار عام 2024 بعد هجوم إيران على إسرائيل، حيث قفزت أسعار خام برنت مؤقتاً فوق 90 دولاراً للبرميل، ثم تراجعت بعدما قيَّمت الأسواق عدم حصول تصعيد مباشر أو عنف واسع. ويعكس هذا التقلب مدى تأثير "التوقعات" و"المخاوف" أكثر من التغير الفعلي في تدفقات النفط.
ثانياً- استراتيجيات أمن الطاقة الإقليمية والدولية
تسعى العديد من الدول المستوردة للطاقة، خاصة في أوروبا، إلى تقليل اعتماد اقتصاداتها على الدول المنتجة للطاقة التي قد تستخدمه كسلاح سياسي للابتزاز أو الضغط. ولذلك تتخذ بعض دول الخليج والكيان الصهيونيخطوات لتعزيز أمنها للطاقة في ظل التوترات مع إيران.
فقد قامت بعض دول الخليج، مثل السعودية والإمارات، بإنشاء خطوط أنابيب بديلة. حيث تمتلك السعودية خط أنابيب نفط وغاز يمتد من المنطقة الشرقية إلى الغربية (خط أنابيب شرق-غرب)، الذي يربط حقول النفط في المنطقة الشرقية بميناء ينبع على البحر الأحمر، مما ساهم في الحفاظ على صادراتها من النفط خلال فترة الحرب بين الكيان الصهيوني وإيران عند مستويات مرتفعة. وبالمقارنة مع صادراتها في مايو 2025، تشير بعض التقديرات إلى احتمال زيادة صادراتها النفطية في يوليو إلى ما يقارب 7.5 مليون برميل يومياً، مدفوعةً بالقلق من تعطيل الإمدادات في ظل الأزمة الصهيونية -الإيرانية.
كما يُعزَّز الإنتاج المحلي. فإسرائيل تُعَدُّ حالياً منتجاً مهماً للغاز الطبيعي في شرق المتوسط، بفضل حقول مثل ليفياثان وتامار. وتقوم بتطوير استراتيجياتها لتعزيز أمنها المادي والسيبراني للمنشآت الحيوية للطاقة من الهجمات الإيرانية خلال فترة الصراع، ولتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز الطبيعي، وهي تتطلع إلى تصديره إلى الدول الأوروبية لتعزيز نفوذها الاقتصادي والسياسي. وهذا ما جعل منشآتها الحيوية هدفاً لإيران أثناء الصراع.
وقد تتخذ الدول الكبرى المستهلكة للطاقة، مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إجراءات عاجلة للتخفيف من تأثير الصراع الإسرائيلي-الإيراني. حيث تعقد بعض الدول الأوروبية عقوداً طويلة الأجل لاستيراد الغاز المسال من موردين آخرين في الشرق الأوسط وأماكن أخرى لضمان استقرار الإمدادات بعيداً عن التقلبات الجيوسياسية، كما حدث بعد الحرب الروسية-الأوكرانية.
وتقوم دول مثل الولايات المتحدة بضخ كميات كبيرة من مخزونها الاحتياطي الاستراتيجي من النفط والغاز في الأسواق العالمية في حالات الطوارئ أو انقطاع الإمدادات، بهدف تهدئة الأسوار وتجنب النقص الحاد. وتُعَدُّ هذه الآلية أداة حيوية للتحكم في صدمات السوق الناتجة عن الصراعات.
ثالثاً- سياسات الطاقة في دول الصراع
تشكل سياسات الطاقة في الكيان الصهيوني وإيران محور اهتمام دولي نظراً لتأثيرها المباشر على أسواق الطاقة العالمية والجيوسياسية الإقليمية.
فالسياسات التي يتبعها الكيان الصهيوني تركز على تحقيق الاستقلالية في مجال الطاقة وتقليل الاعتماد على الواردات، مع استغلال مواردها المكتشفة حديثاً وتعزيز موقعها كلاعب إقليمي في سوق الغاز. حيث أنتجت إسرائيل في عام 2023 نحو 22 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي من حقولها البحرية الرئيسية مثل ليفياثان وتامار، وكانت تتوقع زيادة إنتاج الغاز الطبيعي بنحو 15 مليار متر مكعب بحلول عام 2025 من خلال تطوير الحقول الحالية واستكشاف حقول جديدة، قبل اندلاع الصراع مع إيران. وتهدف هذه السياسات إلى تلبية احتياجاتها من الكهرباء باستخدام الغاز الطبيعي، مما يقلل استهلاكها للفحم والوقود السائل. وقبل حرب غزة في أكتوبر 2023، كانت إسرائيل تصدر إلى مصر نحو 800 مليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي يومياً (ما يعادل 23 مليون متر مكعب يومياً). ولكن خلال فترة الحرب، أغلق الكيان الصهيوني حقل تامار مؤقتاً، ولتعويض النقص، زادت الاعتماد على استخراج الطاقة المتجددة، مثل الطاقة الشمسية، والتي كانت تنتج نحو 6% من إجمالي الطاقة الكهربائية.
أما سياسات الطاقة الإيرانية، فتتأثر بشدة بالعقوبات المفروضة عليها من المجتمع الدولي، وخاصة الأمريكية، مما يجبرها على إيجاد طرق مبتكرة لتمويل اقتصادها والحفاظ على نفوذها. وتواجه صادرات النفط الإيراني قيوداً صارمة بموجب العقوبات. حيث صدرت طهران في عام 2025، وفقاً لتصريح وزير الخزانة الأمريكية، ما لا يتجاوز 100 ألف برميل يومياً. ويعد هذا الرقم متدنياً جداً بالمقارنة مع 1.6 مليون برميل يومياً كمتوسط خلال الأشهر الأولى من عام 2024، والتي تم تصديرها جميعاً إلى الصين. وتُعدُّ هذه الأرقام، مقارنةً بالأعوام الماضية، الأعلى منذ الربع الثالث من عام 2018، مما يظهر فجوة واضحة في إيرادات تصدير النفط بسبب العقوبات المفروضة على إيران في مجال الطاقة.
وبالنسبة لمضيق هرمز، الذي يمر عبره نحو 80 مليون طن من الغاز المسال سنوياً (ما يمثل نحو 19% من تجارة الغاز الطبيعي المنقولة بحرياً)، فقد أدت التوترات المتصاعدة حوله بعد اندلاع الحرب إلى قفزات في أسعار النفط بنحو 3% خلال الفترة الأولى القصيرة من الصراع. وقدَّر بنك جولدمان ساكس أن علاوة المخاطر الجيوسياسية وحدها قد ترفع أسعار النفط بنحو 10 دولارات للبرميل، حتى في غياب أي تعطيل فعلي للإمدادات. كما أدى ذلك إلى ارتفاع أسعار شحن النفط من الشرق الأوسط إلى آسيا بنحو 60% في أقل من أسبوع واحد خلال ذروة التصعيد. وعلى الرغم من الموارد الهائلة من النفط والغاز، تعاني إيران من نقص كبير في توليد الطاقة الكهربائية، لذلك تلجأ إلى حلول بديلة مكلفة، مثل تطوير مشاريع الطاقة المتجددة والطاقة النووية، لتوفير الكهرباء اللازمة وتحقيق قدر أكبر من الاكتفاء الذاتي.
المراجع:
سلمى حامد سليمان حامد. (14 يوليو 2025). تأثير الصراعات الدولية كمحرك للتغيير في سياسات الطاقة العالمية. مجلة السياسة الدولية.
زهير حمداني. (8 يناير 2023). خارطة الغاز العالمية.. خطوط متشابكة تشكّل النظام الدولي وصراعاته. الجزيرة نت.
