في 24 فبراير عام 2022، شنّ الجيش الروسي هجومًا واسعًا على الأراضي الأوكرانية، في خطوة أصابت سوق الطاقة العالمي بالصدمة وبينما كانت الصواريخ الروسية تسقط على المدن الأوكرانية، كانت أوروبا تتلقى ضربة أخرى من نوع مختلف، إذ وجدت نفسها فجأة في مواجهة أزمة طاقة غير مسبوقة، نتيجة اعتمادها الكبير على الغاز والنفط الروسيين اللذين شكّلا لعقود ركيزة أساسية لاقتصاد القارة وصناعتها الثقيلة.
هذا الارتباط العميق لم يكن وليد اللحظة، بل نتاج سنوات من التعاون الطاقي بين موسكو وعواصم أوروبا، ومع اندلاع الحرب، تحوّل هذا التعاون إلى ورقة ضغط سياسية بيد روسيا للمساومة في مواجهة العقوبات الغربية، الأمر الذي دفع الاتحاد الأوروبي إلى تبنّي سياسة طوارئ شاملة لإعادة رسم خريطته الطاقوية.
وبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على اندلاع الأزمة، يعود السؤال ليفرض نفسه من جديد: هل تستطيع أوروبا حقًا التحرر من قبضة الطاقة الروسية، أم أن هذا الهدف سيظل مجرد طموح سياسي على الورق؟
توجهات الطاقة الأوروبية
بدايةً، يجدر النظر في التوجهات التي انتهجها الاتحاد الأوروبي للتكيّف مع تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية وأزمة الطاقة التي أعقبتها، وذلك من خلال دراسة الخطة الأوروبية المعتمدة في هذا السياق.
تهدف هذه الخطة في جوهرها إلى إنهاء الاعتماد الكامل على الغاز الروسي بحلول عام 2027، بمعنى آخر استبعاد الطاقة الروسية، عبر تبني استراتيجية شاملة تركز على تنويع مصادر الطاقة لضمان أمن الإمدادات، وتجنّب تكرار خطأ الاعتماد شبه الكامل على دولة واحدة كما تسعى الخطة إلى تعزيز إنتاج الطاقة النظيفة والمستدامة بما يتوافق مع أهداف الاتحاد البيئية والاقتصادية طويلة الأمد.
ولتنفيذ تلك الأهداف، انتهجت دول الاتحاد الأوروبي مسارًا واضحًا تَمثّل في مجموعة من السياسات والإجراءات المتكاملة، يمكن تلخيصها في المحاورالتالية:
المسارات البديلة: بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، أعادت أوروبا تنظيم مساراتها الطاقوية لتقليل اعتمادها على مصادر الطاقة الروسية. فاتجهت مثًلا بشكل متزايد نحو استيراد الغاز الطبيعي المسال (LNG) عبر السفن، حيث شكّلت الولايات المتحدة نحو 48% من إجمالي واردات الغاز المسال في عام 2023، تلتها روسيا بنسبة بين 13 و15%، ثم قطر بنسبة تتراوح بين 10 و14%.
كما برزت النرويج كمورد رئيسي عبر خطوط الأنابيب والغاز المسال معًا. وساهم التعاون الأوروبي، خاصة مع فنلندا واليونان وتركيا، إلى جانب زيادة القدرة على استيراد الغاز المسال، في تسريع هذا التحول بعيدًا عن الغاز الروسي.
ولفهم صورة الإمدادات الحالية بشكل أدق، يمكن النظر إلى بيانات النصف الثاني من عام 2025، والتي توضح استمرار هذا الاتجاه الأوروبي نحو تنويع الشركاء وتقليل الاعتماد على روسيا، وذلك على النحو التالي:
الغاز الطبيعي: في الربع الثاني من عام 2025، كانت النرويج أكبر مورد للاتحاد الأوروبي بحصة بلغت 50.8% من إجمالي واردات الغاز الطبيعي في حالته الغازية، تلتها الجزائر بنسبة 17.8%، ثم المملكة المتحدة بنسبة 12.1%.
الغاز الطبيعي المسال (LNG): في نفس الفترة، تصدرت الولايات المتحدة قائمة موردي الغاز الطبيعي المسال إلى الاتحاد الأوروبي بنسبة 57.7%، تلتها روسيا بنسبة 12.9%، ثم الجزائر بنسبة 7.4% وقطر بنسبة 7.1%.
الزيوت البترولية: من المهم الإشارة هنا أن روسيا لم تعد ضمن أهم سبعة شركاء للاتحاد الأوروبي في تجارة النفط. فقد جاءت النرويج في المقدمة بنسبة 15.2%، تلتها الولايات المتحدة بنسبة 14.2%، ثم كازاخستان بنسبة 12.7%. ويعكس ذلك التحول الكبير في خريطة الإمدادات النفطية الأوروبية بعيدًا عن الاعتماد السابق على روسيا.
الفحم: أما في ما يتعلق بالفحم، فقد تصدّرت الولايات المتحدة قائمة المورّدين إلى الاتحاد الأوروبي في الربع الثاني من عام 2025 بنسبة 35.3%، تلتها أستراليا بنسبة 33.2% ثم كولومبيا بنسبة أقل للنصف تقريبًا.
توسيع البنية التحتية الخاصة بالطاقة: شهدت أوروبا توسعًا كبيرًا في مشروعاتها الطاقوية خلال السنوات الأخيرة بهدف دعم أمن الإمدادات وتقليل الاعتماد على روسيا. ففي كرواتيا، تمت زيادة القدرة التشغيلية لمحطة كرك من 2.9 إلى 6.1 مليار متر مكعب، بينما رفعت بولندا سعة محطة شوينويشيتش إلى نحو 8.3 مليار متر مكعب بحلول يناير 2025.
من جانب آخر، برزت تركيا كمحور أساسي لإمداد شرق أوروبا بالغاز، نظرًا لامتلاكها خمس محطات للغاز المسال وسعة احتياطية تتراوح بين 25 و30 مليار متر مكعب سنويًا. كما عززت أذربيجان دورها كمصدر رئيسي من خلال زيادة صادراتها عبر خطي تاناب وتاب إلى 12.9 مليار متر مكعب في عام 2024.إضافةً إلى ذلك، ساعد خط بالتيك بايب الذي يربط النرويج ببولندا، والربط بين بولندا وسلوفاكيا والتشيك، على تحسين حركة الغاز داخل القارة ودعم التكامل بين أسواق الطاقة في الشمال والجنوب الأوروبي.
منصة AggregateEU: أُطلقت آلية تجميع الطلب والشراء المشترك، المعروفة باسم AggregateEU عام 2023 كإحدى أهم المبادرات الأوروبية لمواجهة تداعيات أزمة الطاقة الناتجة عن الحرب الروسية الأوكرانية. وتهدف هذه المنصة إلى تعزيز أمن الطاقة داخل الاتحاد الأوروبي من خلال تنسيق جهود الدول الأعضاء وجمع طلبها على الغاز الطبيعي، خاصة الغاز الطبيعي المسال (LNG)، ضمن إطار موحد يسمح للاتحاد بالتفاوض مع المورّدين العالميين بصوت واحد بدلًا من تفاوض كل دولة على حدى.
ورغم أن الفكرة تُعدّ واعدة من حيث التصميم والتنظيم، فإن تطبيقها العملي لم يحقق النتائج المرجوة، إذ أظهرت البيانات أن آلية الشراء الموحد لم تغطِّ سوى نحو 2% من إجمالي الطلب الأوروبي بعد مرور أكثر من عام على إطلاقها.
المفاعلات النووية: منذ اندلاع أزمة الطاقة، ارتفعت المطالب داخل الاتحاد الأوروبي بضرورة إعادة النظر في دور الطاقة النووية وتمويلها على نحوٍ مماثل للطاقة المتجددة، باعتبارها خيارًا استراتيجيًا لتعزيز أمن الطاقة وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري. وقد تبنت دول مثل فرنسا وفنلندا والمجر والسويد هذا التوجه ودافعت عن إدراج الطاقة النووية ضمن الحلول المستدامة، بينما عارضته دول أخرى مثل ألمانيا والدنمارك وإسبانيا ولوكسمبورج، رغم أن ألمانيا تُعد من أكثر الدول تأثرًا بأزمة الطاقة بعد تخليها عن المفاعلات النووية.
في المقابل، برزت المفاعلات المعيارية الصغيرة (SMRs) كأحد البدائل الواعدة لتقليل التكلفة وتعزيز المرونة في إنتاج الطاقة النووية وفي فبراير 2024، أعلنت المفوضية الأوروبية عن تسريع تطوير هذه التكنولوجيا من خلال إنشاء تحالف صناعي أوروبي يهدف إلى دعم إنتاج هذه المفاعلات وتوسيع استخدامها مستقبلاً.
ومن الجدير بالذكر أن محطات الطاقة النووية التقليدية كانت قد ساهمت في عام 2023 بنحو 22.8% من إجمالي إنتاج الكهرباء في أوروبا، بزيادة قدرها 1.7% مقارنة بعام 2022، وهو ما يعكس استمرار أهمية الطاقة النووية ضمن مزيج الطاقة الأوروبي حتى في ظل الجدل القائم حولها.
آليات أخرى: اتبعت المفوضية الأوروبية مجموعة من الإجراءات التي تهدف إلى التعامل مع أزمة الطاقة بشكل أكثر شمولًا وفاعلية. ركزت هذه الإجراءات على توفير الطاقة وتقليل استهلاكها في القطاعات المختلفة، وخاصة في الصناعة والمواصلات، إلى جانب تسريع عملية التحول نحو الطاقة المتجددة كمسار أساسي لتحقيق ما يُعرف بـ “التحول الأخضر”.
سعت المفوضية من خلال تلك الخطوات إلى رفع كفاءة استخدام الطاقة، سواء عبر دعم الابتكارات الصناعية أو تشجيع المواطنين على ترشيد الاستهلاك في المنازل. كما أولت اهتمامًا واضحًا لقطاع النقل، الذي يمثل أحد أكثر القطاعات استهلاكًا للطاقة، من خلال التوسع في البدائل المستدامة وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري.
دوافع التراجع الأوروبي
على مستوى الدول، يتضح أن الصورة ليست متجانسة تمامًا؛ فبينما يعكس التقدّم العام نجاح الاتحاد الأوروبي في المضي نحو تحقيق أهدافه، إلا أن التباين بين الدول الأعضاء يكشف عن واقع أكثر تعقيدًا. إذ يبدو هذا التقدّم مختلفًا عند النظر عن قرب إلى أداء كل دولة على حدى، سواء من حيث قدرتها على تنفيذ السياسات أو سرعة تكيّفها مع التحولات الطاقية أو تقبلها لها بالأساس.
تعقيدات استقلال الطاقة: بعد ثلاث سنوات على اندلاع الحرب، يظل الاتحاد الأوروبي عاجزًا عن الاستغناء التام عن الطاقة الروسية، رغم الإصرار الخطابي على العكس. في بعض الدول، تُشكل واردات الغاز الروسي نسبة يصعب تجاهلها، سواء عبر خطوط الأنابيب القديمة أو طرق غير مباشرة عبر دول وسيطة، مما يكشف أن فك الارتباط مع موسكو أبعد مما تُظهره البيانات الرسمية هذا الواقع يُبرز تعقيدات السياسات الأوروبية، حيث تتدفق مليارات اليورو سنويًا إلى الاقتصاد الروسي، رغم العقوبات، ليصبح مصدر إيراداته الرئيسي في تمويل الحرب ضد أوكرانيا. ووفقًا لتحليل الخبير فيبهاف راغوناندان من مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف (CREA)، استورد الاتحاد الأوروبي طاقة روسية بقيمة تجاوزت 11 مليار يورو خلال الأشهر الثمانية الأولى من 2025، مما يعكس فشلًا جزئيًا في تحقيق استقلال الطاقة.
تكشف الزيادة الأخيرة في واردات الطاقة من روسيا هشاشة الاستراتيجية الأوروبية لاستقلال الطاقة، إذ إن الدول الأكثر دعمًا لأوكرانيا هي نفسها التي تموّل الاقتصاد الروسي عبر استمرار الاستيراد؛ حيث شهدت فرنسا ارتفاعًا في وارداتها من الطاقة الروسية بنسبة 40% لتصل إلى 2.2 مليار يورو مقارنة بالعام السابق مع زيادة في استيراد الغاز الطبيعي المسال عام 2024 مقارنة بـ2023. كما ارتفعت واردات هولندا بنسبة 72% إلى 498 مليون يورو.
استيراد الطاقة من روسيا
رغم أن الاتحاد الأوروبي يهدف إلى الاستغناء التام عن الطاقة الروسية بحلول 2027، فإن مسار الواردات لا يعكس التزامًا ثابتًا بهذا الهدف فرغم انخفاضها عما كانت عليه قبل الأزمة، شهدت واردات الغاز ارتفاعًا في النصف الأول من 2025 مقارنة بـ2024، بزيادة تقارب 1.01 مليار يورو. هذا التراجع غير المنتظم يوضح الفجوة بين الخطط والتنفيذ، إذ تعيق العقود طويلة الأمد والاعتبارات الاقتصادية مسار الاستقلال، مما يبقي الاعتماد على روسيا قائمًا ومستمرًا في تعزيز اقتصادها الحربي.
مصالح متشابكة: أظهر تقرير مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف (CREA) في يوليو 2025 أن المجر تصدرت قائمة الدول الأوروبية الأكثر استيرادًا للطاقة الروسية، تلتها فرنسا، ثم سلوفاكيا، وبلجيكا، وإسبانيا. هذا الترتيب يظهر أن أوروبا لا تزال متشابكة اقتصاديًا مع موسكو رغم المساعي لإنهاء الاعتماد على الطاقة الروسية كليًا. فاعتماد المجر الكبير على الإمدادات الروسية يُضعف جهود التنويع ويمنح موسكو نفوذًا سياسيًا واقتصاديًا، بينما يُظهر استمرار ارتفاع الواردات في فرنسا وسلوفاكيا تناقضًا واضحًا بين الدعم المعلن لأوكرانيا واستمرار تمويل الخصم، مما يكشف الحاجة إلى سياسات أكثر صرامة لتحقيق التوازن بين الأمن والاقتصاد.
محفزات داخلية: في الواقع، تمثل المصالح الاقتصادية والقيود الداخلية أحد أبرز العوائق أمام تنفيذ سياسات الاتحاد الأوروبي الهادفة إلى إنهاء الاعتماد على الطاقة الروسية. ويبرز الموقف الإسباني مثالًا واضحًا، إذ قادت نائبة رئيسة المفوضية الأوروبية (الإسبانية) تيريزا ريبيرا حملة غير معلنة لتخفيف خطة حظر استيراد الغاز الروسي بحلول عام 2027، مدفوعة بمخاوف من تأثير القرار على اقتصاد بلادها التي تُعد ثالث أكبر مستورد للغاز الطبيعي المسال الروسي في أوروبا.
تستند هذه المخاوف إلى عقد طويل الأمد بين شركة ناتورجي الإسبانية ونوفاتيك الروسية يمتد حتى عام 2042، ما يجعل إنهاءه المبكر مكلفًا قانونيًا وماليًا ورغم نفي ريبيرا الاتهامات، فإن جهودها بدعم من المجر والنمسا وسلوفاكيا، أسفرت عن تعديل يسمح بتعليق الحظر إذا تعرض أمن الإمدادات للخطر.
أثار هذا التعديل انتقادات حادة من ليتوانيا ومنظمات أوكرانية رأت فيه إضعافًا للموقف الأوروبي الموحد واستمرارًا لتمويل الحرب الروسية.
أما المجر، فتبرر استمرار اعتمادها على الطاقة الروسية بضعف البنية التحتية وموقعها الداخلي، محذّرة من “انهيار اقتصادي فوري بنسبة 4%” وفق تصريحات فيكتور أوربان في سبتمبر 2025. غير أن خبراء مثل لاسلو ميكلوس يؤكدون أن هذا الموقف سياسي بالأساس، إذ تسمح البنية التحتية القائمة مثل خط أدريا القادم من كرواتيا باستيراد نفط غير روسي، لكن بودابست ترفض التنويع حفاظًا على أرباحها من خط دروجبا الروسي، ما يجعلها تساهم فعليًا في تمويل الحرب الروسية يضاف إلى ذلك أن أسعار الغاز للمستهلكين المجريين من الأعلى بين دول الاتحاد الأوروبي.
وختامًا؛ إذا أردنا رسم صورة لمستقبل الطاقة الأوروبية استنادًا إلى ما سبق، فإن تحقيق الاستقلال الكامل عن الطاقة الروسية بحلول عام 2027 يبدو هدفًا طموحًا يصعب بلوغه. ويمكن القول إن أوروبا لن تتمكن من وقف اعتمادها على روسيا كليًا، لا سيما مع تمسّك دول مثل المجر وإسبانيا وفرنسا بإمدادات الطاقة الروسية. فالمجر، على وجه الخصوص، تختار الاستمرار في هذا الاعتماد بدوافع سياسية ومصالح اقتصادية، رغم توافر بدائل مثل خط “أدريا”، مما يسهم في تمويل الحرب الروسية. أما إسبانيا، فتخشى الخسائر المالية الناتجة عن العقود طويلة الأمد، بينما تواصل فرنسا استيراد الغاز المسال الروسي لتلبية الطلب المحلي.
في هذا السياق، من المرجّح أن يشهد الاتحاد الأوروبي استمرارًا في الاعتماد الجزئي على الغاز الروسي خلال السنوات المقبلة، مع تسجيل ارتفاعات متقطعة في الواردات، كتلك التي سُجلت في النصف الأول من عام 2025، بزيادة بلغت نحو 1.01 مليار يورو مقارنة بالعام السابق هذا الواقع يعني أن مليارات اليوروهات ستواصل التدفق إلى الاقتصاد الروسي، ما يُقوّض فاعلية العقوبات المفروضة ويُضعف الموقف الأوروبي الداعم لأوكرانيا.
المصدر: مركز رع للدراسات الاستراتيجية
الكاتب : شهد محمود
التاريخ : 20/10/2025
----------------------------------------------------------------------------
المصدر: CNBCARABIA.COM
التاريخ : 21/6/2025
