تعيش الدول الصغيرة في بيئة جيوسياسية متقلبة، حيث تهديدات الأمن القومي لم تعد تقتصر على الغزو العسكري التقليدي المباشر. فظهور الفاعلين من غير الدول (الميليشيات، الجماعات الإرهابية)، والحروب بالوكالة، والحروب السيبرانية، والحروب المعلوماتية (نشر الأخبار الكاذبة والتضليل)، والضغوط الاقتصادية، والهجمات الهجينة التي تخلط بين الأساليب العسكرية وغير العسكرية، كلها عوامل جعلت الدفاع التقليدي القائم على جيش نظامي كبير ومكلف غير كافٍ بل وغير عملي للعديد من هذه الدول. في هذا السياق، برز مفهوم "الدفاع الهجين" (Hybrid Defense) كاستراتيجية مرنة وشاملة، تقدم للدول الصغيرة وسيلة فعالة لتعزيز صمودها وردع العدوان بكفاءة أكبر واستخدام أمثل لمواردها المحدودة. هذا المقال يستكشف أبعاد الدفاع الهجين، ومكوناته، وتطبيقاته، وفوائده، وتحدياته بالنسبة للدول الصغيرة.
الفصل الأول: تفكيك مفهوم الدفاع الهجين
الدفاع الهجين هو إستراتيجية أمنية ودفاعية متكاملة تهدف إلى مواجهة التهديدات الهجينة المعاصرة. لا يعتمد فقط على القوة العسكرية التقليدية، بل يدمج بشكل وثيق ومتعمد مجموعة واسعة من الأدوات والأساليب العسكرية وشبه العسكرية وغير العسكرية، التقليدية وغير التقليدية، النظامية وغير النظامية، لتحقيق الردع والصمود والدفاع.
التمييز عن المفاهيم المشابهة:
الدفاع التقليدي: يركز بشكل شبه حصري على الجيش النظامي والأسلحة التقليدية لصد هجمات جيش نظامي معادٍ. يعاني من قصور في مواجهة التهديدات غير المتماثلة وغير التقليدية.
الحرب غير التقليدية (Unconventional Warfare): تركز على دعم المقاومة داخل أراضي العدو باستخدام قوات خاصة أو وكالة قوات محلية. هي جزء من الدفاع الهجين، وليست الإستراتيجية الشاملة بحد ذاتها.
الحرب الهجينة (Hybrid Warfare): هي التهديد الذي يواجهه الدفاع الهجين. تشير إلى استخدام خصم لمزيج متزامن ومتكامل من أساليب الحرب التقليدية وغير التقليدية، النظامية وغير النظامية، العسكرية وغير العسكرية (سيبرانية، معلوماتية، اقتصادية، سياسية) لتحقيق أهدافه مع تجنب التصعيد أو إنكار المسؤولية.
الركائز الأساسية: يقوم الدفاع الهجين على:
التكامل (Integration): دمج جميع عناصر القوة الوطنية (العسكرية، الدبلوماسية، الاقتصادية، المعلوماتية، الاستخباراتية، القانونية، المجتمعية) في إطار إستراتيجي واحد.
المرونة (Resilience): بناء قدرة الدولة والمجتمع على امتصاص الصدمات والتكيف معها والتعافي منها بسرعة في وجه الهجمات الهجينة (مثل الهجمات السيبرانية على البنية التحتية الحيوية أو الحملات التضليلية).
الردع الشامل (Comprehensive Deterrence): استخدام مجموعة متنوعة من الأدوات (العسكرية التقليدية، الميليشيات، العقوبات الاقتصادية، التفوق المعلوماتي، التعبئة المجتمعية) لجعل أي عدوان محتمل مكلفًا وغير مجدٍ للخصم على جميع المستويات.
الاستخدام الأمثل للموارد (Resource Optimization): التركيز على الحلول الذكية والفعالة من حيث التكلفة بدلاً من الحجم الهائل، وهو أمر حيوي للدول الصغيرة.
الفصل الثاني: مكونات إستراتيجية الدفاع الهجين للدول الصغيرة
العمود الفقري: القوة النظامية الصغيرة لكن عالية الجاهزية والفعالية:
قوات محترفة ونخبوية: الاستثمار في تدريب عالي المستوى وتجهيز متطور لقوات صغيرة الحجم نسبيًا تكون قادرة على تنفيذ عمليات معقدة (قوات خاصة، استطلاع، دفاع جوي وصاروخي متقدم، مضادة للدروع).
قدرات ردع غير متماثلة: تطوير قدرات تسبب ضررًا غير متناسب للعدو المحتمل (أنظمة صواريخ مضادة للسفن دقيقة بعيدة المدى، أنظمة دفاع جوي متطورة، ألغام بحرية ذكية، أسلحة مضادة للدبابات متطورة مثل Javelin أوNLAW). هذه القدرات تجعل غزو الأراضي مكلفًا للغاية.
نظام احتياطي فعال: قوة احتياطية مدربة جيدًا ويمكن تعبئتها بسرعة لدعم القوات النظامية وتأمين المناطق الحيوية. يزيد من عمق الدفاع وقدرة الصمود.
ذراع التمديد: قوات الدفاع الإقليمي / الحرس الوطني / القوات الشعبية:
حماية المجتمعات المحلية: تنظيم وتدريب وتسليح وحدات دفاعية محلية قادرة على تأمين قراها ومدنها، جمع المعلومات الاستخباراتية، تنفيذ عمليات المناوشات والتأخير ضد قوات الغزو.
المقاومة الشاملة: إعداد السكان للمقاومة في حال الاحتلال الجزئي أو الكلي، مما يخلق بيئة معادية وغير قابلة للحكم للعدو. يشمل هذا التدريب على حرب العصابات الأساسية، الإسعافات الأولية، الاتصالات البديلة.
التماسك المجتمعي: يعزز شعور المسؤولية والانتماء الوطني ويمنح المجتمع دورًا مباشرًا في الدفاع عن الوطن.
ساحة المعركة الجديدة: الفضاء السيبراني والحرب الإلكترونية:
الدفاع السيبراني: حماية البنية التحتية الحيوية للدولة (شبكات الكهرباء، المياه، الاتصالات، الخدمات المالية، المرافق الحكومية) من الهجمات الإلكترونية التي تهدف إلى شل الدولة وإثارة الفوضى.
القدرات الهجومية السيبرانية: تطوير قدرات دفاعية نشطة(Active Defense) وقدرات ردع سيبرانية محدودة تسمح بالرد على الهجمات الإلكترونية الخطيرة.
التعاون المدني-العسكري: بناء شراكات مع القطاع الخاص والأكاديمي لتعزيز الأمن السيبراني الوطني.
ساحة المعركة الحاسمة: الفضاء الإعلامي والمعلوماتي:
مكافحة التضليل الإعلامي (Counter-Disinformation): آليات سريعة وكوادر مدربة لاكتشاف ونفي الأخبار الكاذبة والدعاية المعادية ونشر المعلومات الدقيقة.
التواصل الإستراتيجي (Strategic Communications): إيصال الرسائل الوطنية الموحدة والمقنعة داخليًا وخارجيًا، تعزيز الروح المعنوية، فضح نوايا وأفعال الخصوم.
تعليم الإعلام والمعلومات (Media and Information Literacy): تمكين المواطنين من التحقق من المعلومات وتقييم مصادرها بشكل نقدي، مما يقلل من تأثير الحملات التضليلية.
التماسك الداخلي: المرونة الوطنية والمجتمعية:
تأمين سلاسل الإمداد: ضمان توفر الغذاء والأدوية والطاقة الأساسية في حالات الأزمات أو الحصار.
استمرارية الحكومة: خطط لضمان استمرار عمل المؤسسات الحكومية الحيوية تحت الضغط أو بعد هجمات.
الاستعداد للطوارئ المدنية: تدريب السكان على الإجراءات في حالات الطوارئ (الغارات الجوية، الهجمات السيبرانية، حوادث المواد الخطرة).
التماسك الاجتماعي: مكافحة محاولات الخصوم لاستغلال الانقسامات العرقية أو الدينية أو السياسية الداخلية.
الفصل الثالث: دروس عملية وتطبيقات من واقع الدول الصغيرة
فنلندا: نموذج للردع الشامل:
الجيش + الاحتياطي الشامل: جيش نظامي صغير لكن مدعوم بنظام احتياطي ضخم (حتى 900,000 فرد مدربين) يمكن تعبئته بسرعة. خدمة عسكرية إلزامية طويلة نسبيًا تضمن قاعدة تدريب واسعة.
قدرات غير متماثلة: تركيز قوي على حرب الغابات، المدفعية بعيدة المدى والصواريخ، أنظمة مضادة للسفن والدبابات المتطورة.
المرونة المجتمعية: ثقافة وطنية قوية للاستعداد والدفاع عن النفس، مخابئ مدنية واسعة الانتشار، خطط لتأمين الاحتياجات الأساسية.
الرسالة: أي عدوان على فنلندا سيواجه مقاومة شاملة ومكلفة للغاية. هذا الردع نجح تاريخيًا.
سويسرا: الدفاع في العمق والحياد المسلح:
نظام الميليشيات: يعتمد بشكل أساسي على قوة احتياطية مدربة بشكل ممتاز (الجيش النظامي صغير جدًا). كل مواطن لديه سلاح وتدريب في المنزل.
الدفاع الإقليمي: بنية تحتية دفاعية هائلة (ملاجئ للجميع، مستشفيات تحت الأرض، طرق يمكن تحويلها إلى مدارج طائرات، أنفاق جبلية محصنة).
المرونة: اكتفاء ذاتي عالٍ في مجالات حيوية، خطط دقيقة لاستمرارية الحكومة والعمل.
الحياد المسلح: رسالة واضحة بأن سويسرا لن تبدأ حربًا ولكنها مستعدة تمامًا للدفاع عن حيادها بشراسة.
سنغافورة: القوة الذكية والتكامل التام:
قوة نظامية صغيرة لكن متطورة جدًا: استثمار ضخم في التكنولوجيا والتدريب، واحدة من أكثر الجيوش تقدمًا في آسيا.
الدفاع الإقليمي / الحرس الوطني: قوة كبيرة وفعالة(Singapore Police Force, Singapore Civil Defence Force) قادرة على التعامل مع الأزمات الأمنية والمجتمعية الشاملة.
الأمن السيبراني: اعتبار الأمن السيبراني أولوية وطنية عليا، استثمارات ضخمة، مركز متقدم للدفاع السيبراني.
المرونة الاقتصادية والاجتماعية: تنوع اقتصادي، مخزونات استراتيجية، سياسات لتعزيز التماسك الاجتماعي في مجتمع متعدد الأعراق.
الفصل الرابع: الفوائد والتحديات للدول الصغيرة
الفوائد الرئيسية:
الردع الفعال: يجعل تكلفة العدوان المحتمل باهظة وغير مضمونة النتائج للخصم على جميع المستويات (عسكري، اقتصادي، سياسي، مجتمعي).
الصمود المتزايد: يسمح للدولة والمجتمع بتحمل الضربات والتعافي بسرعة أكبر، مما يحافظ على استمرارية الدولة.
التكلفة-الفعالية: يوفر حلاً دفاعيًا قويًا باستخدام الموارد المحدودة للدول الصغيرة بشكل أكثر ذكاءً وكفاءة مقارنة بمحاولة بناء جيش تقليدي كبير.
التعبئة الوطنية: يعزز التماسك الوطني ويشرك المجتمع بشكل مباشر في مسؤولية الدفاع، مما يقوي الروح المعنوية والإرادة الوطنية.
المرونة الإستراتيجية: يوفر خيارات رد متنوعة ومتدرجة لمواجهة طيف واسع من التهديدات الهجينة، بدءًا من الهجمات السيبرانية وحتى الغزو المحدود.
التحديات الكبرى:
التنسيق والتعقيد: يتطلب مستوى عاليًا جدًا من التنسيق بين جميع المؤسسات الحكومية (الجيش، الشرطة، الاستخبارات، الدبلوماسية، الاقتصاد، الصحة، الاتصالات) وبين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني. تحقيق هذا التكامل صعب عمليًا.
التوازن بين الحريات والأمن: تعزيز المرونة ومكافحة التضليل قد يتطلب إجراءات (مثل مراقبة الاتصالات في حالات محدودة، تنظيم المحتوى الإلكتروني) تثير مخاوف بشأن الحريات المدنية والخصوصية. إيجاد التوازن الصحيح حساس.
التدريب المستمر والاستثمار: يحتاج إلى استثمار مستمر في تدريب واسع النطاق ليس فقط للقوات النظامية والاحتياط، بل أيضًا للقوات الإقليمية والموظفين الحكوميين والمواطنين في مجالات الأمن السيبراني والتواصل ومكافحة التضليل والاستعداد للطوارئ.
الاعتماد على الإرادة الشعبية: نجاح الدفاع الهجين، خاصة في شق الدفاع الإقليمي والمقاومة الشاملة، يعتمد بشكل حاسم على دعم وتصميم السكان. استدامة هذا الدعم في أوقات السلم تحدي.
خطر الاستفزاز: قد ينظر الخصوم المحتملون إلى بناء قدرات دفاعية هجينة قوية، خاصة غير التقليدية منها، على أنه تهديد أو استعداد للعدوان، مما قد يؤدي إلى سباق تسلح أو تصعيد غير مرغوب فيه. إدارة الرسالة الدبلوماسية هنا محورية.
التمويل: رغم كونه أكثر فعالية من حيث التكلفة من البدائل التقليدية، إلا أن تطوير وصيانة القدرات المتعددة والمتكاملة (نظامية، إلكترونية، معلوماتية، بنى تحتية مرنة) لا يزال يتطلب موارد كبيرة من ميزانيات الدول الصغيرة.
الفصل الخامس: توصيات وتطلعات نحو المستقبل
تطوير إستراتيجية وطنية شاملة للدفاع الهجين: يجب أن تنبثق هذه الإستراتيجية من رؤية واضحة وتكون مدعومة من أعلى المستويات السياسية. يجب أن تحدد الأدوار والمسؤوليات بوضوح وتوفر إطارًا للتنسيق بين جميع الجهات.
استثمار الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة: استخدام هذه التقنيات لتحسين جمع المعلومات الاستخباراتية وتحليلها، اكتشاف التهديدات السيبرانية والتضليل الإعلامي بسرعة، وتحسين كفاءة التدريب والعمليات.
تعزيز التعاون الإقليمي والدولي: مشاركة المعلومات الاستخباراتية حول التهديدات الهجينة، تدريبات مشتركة، تطوير معايير للسلوك في الفضاء السيبراني ومكافحة التضليل. الدول الصغيرة يمكن أن تجد قوة في التكتل والتعاون.
الاستمرار في التركيز على المرونة: جعل المرونة (الطاقة، الغذاء، الصحة، الاتصالات، التماسك المجتمعي) جزءًا لا يتجزأ من التخطيط الإستراتيجي الوطني والاستثمار طويل المدى.
التوازن بين الأمن والحريات: ضمان أن الإجراءات الأمنية تتم في إطار قانوني واضح، مع رقابة برلمانية وقضائية كافية، وحوار مجتمعي مفتوح حول المفاضلات الضرورية.
الابتكار في التدريب والمحاكاة: استخدام الواقع الافتراضي(VR) والواقع المعزز (AR) لتدريب القوات النظامية والإقليمية والمواطنين على سيناريوهات هجينة معقدة بكفاءة وتكلفة معقولة.
الحوكمة الرشيدة: يعتبر الدفاع الهجين أكثر فعالية في الدول التي تتمتع بمؤسسات قوية وشفافية ومحاربة للفساد. الثقة بين الحكومة والمواطن هي أساس المشاركة المجتمعية الفعالة.
الخاتمة: خيار إستراتيجي لا ترف فيه
لم يعد الدفاع الهجين خيارًا ترفيهيًا للدول الصغيرة؛ بل أصبح ضرورة استراتيجية في عالم تختلط فيه خطوط المعركة وتتنوع التهديدات. إنه يمثل نهجًا واقعيًا وفعالاً من حيث التكلفة لتحقيق الردع وتعزيز الصمود في وجه التحديات الأمنية المعقدة التي تتجاوز قدرات الدفاع التقليدي. بينما تواجه هذه الدول تحديات جسيمة في التنفيذ – خاصة في مجال التنسيق بين المؤسسات وحماية الحريات والحفاظ على الإرادة الشعبية – فإن فوائد بناء قدرة دفاعية هجينة متكاملة تفوق المخاطر بكثير. إن الاستثمار في تكامل القوة العسكرية المتطورة مع قوات الدفاع الإقليمي، والأمن السيبراني القوي، والمناعة المعلوماتية، والمرونة المجتمعية الشاملة، هو استثمار في السيادة والاستقلال والقدرة على الصمود في القرن الحادي والعشرين. مستقبل أمن الدول الصغيرة يكمن في فهم وإتقان فن وعلم الدفاع الهجين.
المراجع:
عمر عاشور ،9.7.2025، الدفاع الهجين للدول الصغيرة: دروس وتداعيات إستراتيجية من أوكرانيا وغزة (2014-2024)، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
ب، ن، 1.7.2025، إستراتيجيات للدفاع عن الدول الصغيرة في عالم متغير، مجلة درع الوطن.
