انعقدت الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي لعام 2025 في واشنطن العاصمة، في الفترة من 13 إلى 18 أكتوبر 2025، على عكس الأعوام السابقة التي كانت تركز بشكل رئيسي على إدارة الأزمات الدورية (كالركود أو ارتفاع أسعار الفائدة)، اختلفت اجتماعات البنك والصندوق لعام 2025 جوهريًا بتركيزها على التكيف مع التفكك الهيكلي والتعددية القطبية في النظام العالمي. تمحور الاختلاف حول ثلاثة محاور؛ أولًا: تصدرت التجزئة الجيوسياسية الأجندة؛ حيث تحولت المناقشات من مجرد تقييم المخاطر إلى الانخراط المباشر في ملفات إعادة الإعمار بعد الصراع (مثل خطط غزة وأوكرانيا). ثانيًا: أصبحت المؤسستان تواجهان تحديًا هيكليًا مباشرًا لسلطتهما، تمثل في مطالب تكتل “بريكس” الجريئة بضرورة إصلاح حوكمة صندوق النقد الدولي وتوزيع الحصص، إلى جانب تزايد الحديث عن تراجع هيمنة الدولار. ثالثًا: أظهر البنك الدولي تحولًا في استراتيجيته التنموية؛ حيث ركز على النمو المستدام القائم على خلق الوظائف، مع إطلاق مبادرات قطاعية محددة مثل “Mission AgriConnect”؛ مما يعكس إدراكًا بأن الحلول التنموية التقليدية لم تعد كافية لمواجهة التحديات العالمية المتشابكة.
وتضمنت اجتماعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ندوات وإحاطات إقليمية ومؤتمرات صحفية وعديدًا من الفعاليات الأخرى التي ركزت على الاقتصاد العالمي وتغير المناخ والتنمية الدولية والنظام المالي العالمي ومعالجة الديون، وتمويل التحول إلى الطاقة النظيفة، وتسريع المساواة بين الجنسين، وآليات تحقيق التنمية المستدامة، والقضايا التي تواجه الأسواق المالية العالمية.
المحاور الرئيسية
1. تحقيق الاستقرار الاقتصادي والنمو العالمي (صندوق النقد الدولي) هيمنت على أجندة صندوق النقد الدولي لهذا العام ضرورة تحقيق الاستقرار الاقتصادي في ظل بيئة عالمية متقلبة، مع التركيز على تحديات النمو والديون والسياسة النقدية. بدأ الصندوق ذلك بإصدار تقاريره الرئيسية مثل “آفاق الاقتصاد العالمي” و”تقرير الاستقرار المالي العالمي”، والتي توقعت نموًا عالميًا محدودًا لكنه مستقر نسبيًا، مع الإشارة إلى وجود مرونة غير متوقعة في بعض المناطق رغم استمرار تشديد السياسات النقدية عالميًا لمواجهة التضخم.
كما تصدرت مسألة معالجة الديون السيادية جدول الأعمال؛ حيث أقر الصندوق بأن البنية القانونية لتسوية الديون التي يحتفظ بها دائنو القطاع الخاص تعمل بشكل عام، لكنه حذر من وجود نقاط ضعف خطيرة. تركز هذا التحذير على إخفاقات التنسيق بين الدائنين الحكوميين والخاصين، وجداول إعادة الهيكلة الطويلة التي تزيد من تكلفة الأزمة على الدول المدينة. ودعا الصندوق إلى تحسين الإطار العالمي لتسوية الديون ليكون أكثر سرعة وفاعلية.
وفي سياق السياسات الكلية، نوقشت أهمية مواصلة تشديد السياسات النقدية للحد من التضخم في عدد من الاقتصادات التي لم تصل بعد إلى الاستقرار السعري الكامل. كما وجه الصندوق دعوة واضحة إلى الاقتصادات الكبرى، خاصة الولايات المتحدة، لضرورة خفض العجز الاتحادي الكبير الذي يشكل مصدر قلق عالمي ويسهم في استدامة الضغوط التضخمية. وأخيرًا، استمر الصندوق في تعزيز آلياته التمويلية الجديدة، أبرزها مرفق الصلابة والاستدامة (RSF)، لضمان استمرارية دعم جهود الدول النامية في بناء قدرتها على الصمود أمام التحديات طويلة الأجل، مثل التكيف مع تغير المناخ والاستعداد للأوبئة المستقبلية؛ مما يعكس تكييف أدوات الصندوق لخدمة أجندة التنمية المستدامة.
2. التركيز على قضايا التنمية، الوظائف، والتحول الأخضر (البنك الدولي)تبنى البنك الدولي في اجتماعات الخريف 2025 استراتيجية متجددة بقيادة رئيسه، تركز على الارتقاء بالعمل التنموي وربطه بشكل مباشر بـ خلق فرص العمل والتصدي للتحديات العالمية. تم التأكيد على أجندة الوظائف والتنمية باعتبارها “أضمن السبل لمكافحة الفقر وتحقيق الرخاء”؛ مما يعكس تحولًا من التركيز على النمو الاقتصادي المجرد إلى النمو الشامل الذي يركز على الإنسان. وفي هذا الإطار، أطلق الرئيس أجاي بانغا مبادرة “Mission AgriConnect” كحدث رئيسي لتوضيح رؤية البنك لإعادة تشكيل الأعمال الزراعية. تهدف هذه المبادرة إلى تحسين الوظائف وسبل العيش من خلال تفعيل سلاسل قيمة زراعية مرنة، وتحدي القطاع الخاص والحكومات والجهات المانحة لتسليط الضوء على الإجراءات الجديدة والمختلفة التي يمكن اتخاذها لدعم هذا التحول.
ولتحقيق هذه الأجندة الطموحة للوظائف، تم التأكيد بقوة على ضرورة تعبئة الاستثمار الخاص على نطاق واسع. أقر البنك بأن التمويل العام وحده غير كافٍ لسد فجوات التنمية، واستعرض أدوات مالية جديدة مبتكرة، أبرزها صفقة التوريق الافتتاحية للبنك الدولي (ضمن نموذج Originate-to-Distribute). تهدف هذه الصفقة إلى جذب رءوس الأموال المؤسسية الكبرى إلى الأسواق الناشئة وتقاسم المخاطر مع القطاع الخاص؛ مما يوفر مصادر تمويل ضخمة لإنشاء البنية التحتية والمشاريع المولدة للوظائف.
كما شملت التحركات مبادرات طموحة في قطاع الصحة؛ حيث تم إطلاق ائتلاف “Health Works Leaders Coalition” لمناقشة كيفية تحويل الاستثمار في النظم الصحية إلى محرك للتنمية الاقتصادية. ودارت مناقشات معمقة حول مبادرات تهدف إلى تحسين الوصول إلى الأدوية الأساسية وتطوير صناعة صحية محلية مستدامة في أفريقيا، مع الإقرار بالضعف الهيكلي للقارة في الإنتاج الدوائي.
أخيرًا، ظل التمويل المناخي والتنمية المستدامة محورًا حيويًا. دعا البنك إلى زيادة التمويل الأخضر، وهو ما انعكس في الإسهامات المعلنة من دول مثل إسبانيا لصندوق البنك الدولي لـ “كوكب صالح للعيش” (Livable Planet Fund). وشملت التحركات زيادة الدعم لآليات تخفيف الديون المرتبطة بالاستدامة. وتم الإشادة بشكل خاص بجهود بعض الدول النامية في التحول إلى الاقتصاد الأخضر وتوطين صناعات الطاقة النظيفة؛ مما يؤكد على ربط الاستثمار في الطاقة المستدامة بزيادة القدرة التنافسية وخلق الوظائف.
القضايا الشاملة والتحولات الهيكلية لم تقتصر اجتماعات الخريف لعام 2025 على مناقشة السياسات الاقتصادية والتمويل، بل تناولت تحولات هيكلية أعمق في النظام العالمي؛ حيث سيطر شعور طاغٍ بـ “الغموض وعدم اليقين” على الأجواء العامة جاء هذا الشعور نتيجة استمرار التقلبات الاقتصادية الناجمة عن ارتفاع أسعار الفائدة وتزايد المخاطر الجيوسياسية؛ مما أدى إلى تجزئة سلاسل القيمة العالمية. وفي مواجهة هذا المشهد، وجهت المؤسسات الدولية دعوات متكررة لتعزيز القدرة على الصمود (Resilience)، ليس فقط على مستوى الاقتصاد الكلي للدول (عبر احتياطيات النقد الأجنبي) بل وأيضًا على مستوى الشركات والبنية التحتية لمواجهة الصدمات المستقبلية.
وفي سياق هذه التحديات، استمرت المناقشات حول ضرورة إجراء الإصلاحات المؤسسية داخل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. كان الهدف الرئيسي من هذه الإصلاحات هو تبسيط مهام المؤسستين وزيادة فاعلية التمويل المقدم، مع ضمان أن تخدم أجنداتهما بشكل متزايد قضايا التنمية المستدامة وحقوق الإنسان، بدلًا من التركيز حصريًا على الأصولية المالية التقليدية (Orthodox Financial Principles). هذا الضغط الإصلاحي يعكس تزايد نفوذ الجنوب العالمي والمطالبة بنظام مالي دولي أكثر عدالة وتمثيلًا.
كما فرضت التوترات الجيوسياسية نفسها كعامل رئيسي في الأجندة التمويلية؛ حيث تم بحث وتأكيد الحاجة إلى دعم مناطق الصراع. وشمل ذلك مناقشة الاحتياجات لمواصلة دعم أوكرانيا اقتصاديًا وجهود إعادة إعمارها على المدى الطويل، إضافة إلى الانخراط المباشر في تقييم تكاليف إعادة إعمار المناطق المنكوبة. هذا التحرك يؤكد تسييس التمويل الدولي واعتباره أداة للاستقرار الأمني والسياسي في المناطق الحيوية. وأخيرًا، شكل دور مجموعة العشرين (G20) محورًا تنسيقيًا مهمًا؛ حيث عُقدت اجتماعات لوزراء مالية دول المجموعة على هامش المؤتمر لمناقشة التحديات الاقتصادية والمالية العالمية المُلحة؛ مما يضمن توافقًا (ولو جزئيًا) بين أكبر الاقتصادات في صياغة الاستجابة للتقلبات العالمية.
أبرز الاستنتاجات
انعقدت اجتماعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في خريف 2025 في أعقاب صدور تقرير وزارة الخزانة الأمريكية للكونغرس (يوليو 2025)، الذي أعلن عن تحول استراتيجي في التعامل مع المؤسسات المالية الدولية. هذا التقرير، الذي يُعد أداة رقابية إلزامية، أكد أن الولايات المتحدة لن تتخلى عن هذه المؤسسات، بل ستعمل على إعادة تشكيلها لخدمة أجندة “أمريكا أولًا” وضمان استمرار ريادتها في النظام المالي العالمي. وقد تجلّى هذا التحول في اجتماعات الخريف عبر توافق واضح مع الأهداف الأمريكية الرئيسية.
وقد ظهر التوافق بشكل جلي في تبني المؤسستين لمعظم التوجهات الأمريكية التي تخدم مصالحها القومية. فمن ناحية البنك الدولي، ركزت استراتيجيته المتجددة على الارتقاء بالعمل التنموي وربطه مباشرة بـخلق فرص العمل والنمو الشامل الذي يركز على الإنسان، مؤكدًا على تعبئة الاستثمار الخاص عبر آليات مبتكرة مثل صفقة التوريق. هذا يتطابق تمامًا مع التقرير الأمريكي الذي يدعو لدعم النمو الاقتصادي الذي يقوده القطاع الخاص ويخدم الشركات الأمريكية.
كما تميزت الاجتماعات بـتسييس التمويل والانخراط المباشر في ملفات الصراع؛ مما يعكس الأجندة الجيوسياسية الأمريكية بوضوح. فقد تم بحث دعم مناطق الصراع (مثل إعادة إعمار غزة وأوكرانيا)؛ حيث أشارت الضغوط في مؤسسات مثل البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير إلى ضرورة معاقبة من دعم روسيا عبر منعهم من الفوز بعقود إعادة الإعمار، وهذا استخدام مباشر للمؤسسات كأداة للسياسة الخارجية والأمن القومي. كذلك، تم دعم النهج الأمريكي الداعي لتبني “نهج شامل للطاقة” يشمل الغاز والطاقة النووية في تمويلات بنوك التنمية؛ مما يصب في مصلحة أمن الطاقة الغربي.
بالإضافة إلى ذلك، جاءت التطورات متوافقة مع مطلب واشنطن بـإصلاح الحوكمة والفاعلية؛ حيث ظل موضوع معالجة الديون السيادية وتنسيقها يتصدر الأجندة، بما يخدم الموقف الأمريكي الداعي لزيادة شفافية الديون والضغط لتكون اشتراطات القروض أكثر صرامة وواقعية في مجالات مكافحة الفساد والإصلاحات الهيكلية الجذرية.
على الرغم من هذا التوافق الواسع، واجهت الأجندة الأمريكية تحديات رئيسية داخل المؤسسات الدولية، مصدرها تزايد نفوذ الجنوب العالمي:
مقاومة تغيير ميزان القوى؛ تمثلت التحديات الأبرز في مطالبات تكتل “بريكس” بتغيير حوكمة صندوق النقد الدولي وتوزيع الحصص، هذا الضغط يزيد من صعوبة تنفيذ المراجعة العامة السادسة عشرة للحصص؛ حيث تخشى الولايات المتحدة من أي تغيير قد يقلل من حصتها التصويتية ونفوذها المطلق داخل الصندوق.
استمرار أجندة المناخ؛ رغم سعي الإدارة الأمريكية لإعادة تركيز الصندوق على “أساسياته” والابتعاد عن قضايا المناخ، استمر الصندوق في تعزيز آلياته التمويلية الجديدة، مثل مرفق الصلابة والاستدامة (RSF)، لتمويل التكيف مع تغير المناخ؛ مما يمثل مقاومة جزئية للرغبة الأمريكية في تهميش هذا الملف.
في الختام، يمكن القول إن اجتماعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في خريف 2025 تمثل علامة فارقة في التعاطي مع التفكك الهيكلي للنظام المالي العالمي، متحولة من إدارة الأزمات الدورية إلى التأكيد على المرونة (Resilience) في ظل التجزئة الجيوسياسية ومطالب الجنوب العالمي بتغيير حوكمة المؤسسات. كانت التحركات الدولية عمومًا تهدف إلى تسييس التمويل والانخراط المباشر في ملفات الصراع (مثل إعادة إعمار غزة وأوكرانيا) من جهة، ومقاومة التغيير الجذري في ميزان القوى داخل الصندوق من جهة أخرى.
المصدر: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية
الكاتب : سالي عاشور
التاريخ : 4/11/2025
------------------------------------------------------------------------------
المصدر: العين الإخبارية
الكاتب : أحمد جمال أحمد
التاريخ : 13/10/2025
