يُعدّ التراث الثقافي غير المادي أحد ركائز الهوية الوطنية في ليبيا، إذ يجسد الممارسات والقيم والعادات التي ورثها المجتمع الليبي عبر قرون من التفاعل الحضاري والثقافي. تهدف هذه الدراسة إلى تحليل مجالات هذا التراث، واستكشاف التحدّيات التي تواجه صونه في ظل التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية الحديثة، وتقديم مقترحات عملية للحفاظ عليه. تم استخدام المنهج الوصفي التحليلي، والمصادر المؤسسية، لتسليط الضوء على آليات الصون الممكنة. خلصت الدراسة إلى أن ضعف التوثيق وغياب القوانين الخاصة يمثلان أبرز التحدّيات، في حين أن دمج التراث في الاقتصاد الإبداعي والسياحة الثقافية يُعد من أنجع الحلول المستقبلية.
التراث الثقافي غير المادي هو التعبير الحيّ عن هوية الشعوب وذاكرتها الجماعية. يشمل هذا التراث أشكال التعبير الشفهي والفنون الأدائية والممارسات الاجتماعية والمعارف الحرفية والعادات الغذائية، وغيرها من المظاهر التي تشكّل النسيج الاجتماعي والثقافي للمجتمع. في ليبيا، يتجلّى هذا التراث في تنوّع جغرافي وثقافي يعكس عمق التاريخ وثراء التفاعل بين المكونات العربية والأمازيغية والأفريقية والمتوسطية. ويظهر هذا التنوع في فنون المالوف، والأمثال الشعبية، والحرف اليدوية، والعادات الاجتماعية. وقد بدأت ليبيا، منذ انضمامها إلى اتفاقية اليونسكو عام 2003، في إيلاء اهتمام أكبر بتوثيق هذا التراث وصونه باعتباره ركيزة للتنمية المستدامة.
2. منهجية الدراسة
اعتمدت الدراسة على المنهج الوصفي التحليلي القائم على تحليل البيانات المكتوبة والميدانية. تم جمع المعلومات من تقارير وزارة الثقافة الليبية، ومن اللجنة الوطنية للتربية والثقافة والعلوم، ومن وثائق اليونسكو المتعلقة بصون التراث غير المادي. كما أُجريت مقابلات مع عدد من الحرفيين والممارسين للفنون الشعبية في مدن غدامس ومصراتة وطرابلس، بهدف فهم آليات نقل المهارات بين الأجيال والتحديات التي تواجه هذا النقل. وتم تحليل البيانات بطريقة كيفية، تُبرز العلاقات بين العوامل الثقافية والاجتماعية والاقتصادية المؤثرة في استدامة التراث.
3. الإطار القانوني والمؤسسي
يُعتبر الإطار القانوني والمؤسسي الأساس الذي يُبنى عليه أي جهد وطني لحماية التراث غير المادي. في ليبيا، تتولى وزارة الثقافة مسؤولية وضع السياسات العامة، بينما تقوم اللجنة الوطنية الليبية للتربية والثقافة والعلوم بدور التنسيق مع منظمة اليونسكو. إلا أن الجهود المؤسسية ما تزال محدودة بسبب غياب تشريع خاص بالتراث الثقافي غير المادي، وعدم وجود قاعدة بيانات وطنية موحدة. وتوصي الدراسة بضرورة سنّ قانون وطني شامل يتضمن آليات للتمويل، والتوثيق، وإشراك المجتمعات المحلية، مع إنشاء مرصد وطني للتراث يتولى المتابعة الميدانية والتقارير الدورية.
4. مجالات التراث الثقافي غير المادي في ليبيا
تتنوّع مجالات التراث الثقافي غير المادي الليبي بتنوّع البيئات المحلية.
1. الفنون الغنائية والموسيقية: يُعدّ المالوف الليبي من أبرز الفنون ذات الطابع الأندلسي، ويُؤدّى في المناسبات الاجتماعية والدينية بأسلوب إنشادي جماعي فريد.
2. الحرف اليدوية: تشتهر غدامس بحرفها الجلدية والمعدنية، بينما تشتهر سبها ومزدة بصناعة السلال والزخارف الطينية.
3. الممارسات الاجتماعية والعادات الغذائية: تشمل طقوس الأعراس والمواسم الزراعية والأطعمة التقليدية مثل العصيدة والبازين.
4. الفنون الأدائية والمعتقدات الشعبية: تتجسد في الرقصات الجماعية مثل المزداوية والزوّافة، وفي المعتقدات العلاجية التقليدية.
5. التحدّيات الرئيسة
تواجه ليبيا مجموعة من التحدّيات في صون تراثها غير المادي، من أهمها:
- ضعف التوثيق المؤسسي وغياب قاعدة بيانات وطنية محدثة.
- تراجع نقل المهارات بين الأجيال نتيجة الهجرة وتغير أنماط الحياة.
- ضعف التمويل وغياب الدعم الرسمي للحرفيين.
- انتشار التسليع غير المنظم للمنتجات التقليدية.
- محدودية الفضاءات الثقافية وندرة المراكز المجتمعية المعنية بالتراث.
6. آليات الصون والتثمين
يمكن مواجهة هذه التحدّيات عبر مجموعة من الإجراءات العملية:
1. إنشاء منصة رقمية وطنية لتوثيق عناصر التراث غير المادي.
2. دمج التعليم التراثي في المناهج الدراسية والجامعية.
3. دعم الحرفيين من خلال صناديق تمويل صغيرة مرتبطة بالبلديات.
4. تعزيز الشراكات بين المؤسسات الثقافية والمجتمع المدني.
5. تطوير السياحة الثقافية وربطها بالحرف والفنون الشعبية.
6. إعداد ملفات الإدراج الدولي لعناصر التراث بالتعاون مع منظمة اليونسكو.
7. النتائج والمناقشة
أظهرت الدراسة أن صون التراث الثقافي غير المادي في ليبيا لا يمكن أن يتحقق دون إشراك المجتمع المحلي بوصفه الحامل الحقيقي للموروث. كما أن تعزيز الوعي المجتمعي بقيمة التراث يسهم في استدامته. وتبيّن أن دمج التراث في الاقتصاد الإبداعي يمكن أن يخلق فرص عمل جديدة ويسهم في تنويع الاقتصاد الوطني. كما أن الرقمنة تُعد وسيلة فعالة لحماية هذا التراث من الاندثار، خاصة في ظل تسارع العولمة الثقافية.
8. الخاتمة
يمثل التراث الثقافي غير المادي في ليبيا ثروة وطنية حية تتطلب منظومة صون شاملة تجمع بين الجهد المؤسسي والمجتمعي. ومن شأن إنشاء مرصد وطني للتراث وتمويل مشاريع التوثيق الميداني في جميع المناطق أن يسهم في تعزيز الذاكرة الوطنية وضمان استمرارية الموروث الثقافي للأجيال القادمة. كما أن تطوير المتاحف الافتراضية والمنصات الرقمية يمثل أداة حديثة وفعالة لإبراز هذا التراث للعالم.
الخلاصة التنفيذية
خلصت الدراسة إلى أن صون التراث الثقافي غير المادي في ليبيا يتطلب تنسيقًا بين المؤسسات الرسمية والمجتمع المدني، إلى جانب تشريعات داعمة وآليات تمويل مستدامة. كما أن إدماج الموروث الثقافي في الاقتصاد الإبداعي والسياحة المستدامة يُعدّ من أهم السبل العملية للحفاظ عليه. تؤكد النتائج أن الاستثمار في التراث ليس ترفًا ثقافيًا، بل ركيزة للتنمية الوطنية المستدامة.
المراجع
وزارة الثقافة والتنمية المعرفية – ليبيا. (2012). أنغام المالوف في أجواء رمضانية. طرابلس: وزارة الثقافة.
بوابة الوسط. (2025). كيف أصبحت غدامس نموذجًا في صيانة التراث العالمي؟ منشور بتاريخ 9فبراير 2025.
اللجنة الوطنية الليبية للتربية والثقافة والعلوم. (2023). تقرير حول تنفيذ اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي. طرابلس.
اليونسكو. (2024). قواعد إعداد ملفات الإدراج للتراث غير المادي. باريس: قطاع الثقافة.
المجلس العربي للثقافة والفنون. (2022). مبادرات الرقمنة الثقافية في المنطقة العربية. تونس.
