تأميم الثروات في الساحل الأفريقي.. بين السيادة والنفوذ
فرع القاهرة

تشهد منطقة الساحل الأفريقي تحولات سياسية واقتصادية جذرية، تتجلى أبرز مظاهرها في صعود خطاب السيادة الوطنية ورفض التبعية الغربية، مع التركيز على تأميم الموارد المعدنية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو؛ حيث تسعى الأنظمة العسكرية الجديدة في هذه الدول إلى استعادة السيطرة على قطاعات التعدين والطاقة بعد عقود من هيمنة الشركات الأجنبية، خصوصًا الفرنسية، ضمن رؤية أوسع للتحرر الاقتصادي ومقاومة النفوذ الغربي، مدعومةً بتشكل تحالف دول الساحل (AES) الذي يرفع شعار “الاستقلال الاقتصادي والأمني”. تاريخيًا، خضعت اقتصادات هذه الدول لتأثيرات خارجية كبيرة منذ الاستقلال عبر نظام “الفرنك الأفريقي” المرتبط بفرنسا، وسيطرة الشركات متعددة الجنسيات على الذهب واليورانيوم والنفط، ثم جاء اتساع دور البنك الدولي وصندوق النقد الدولي خلال التسعينيات، ليؤدي تراجع دور دول الساحل في إدارة الموارد الاستراتيجية. ومع التغيرات السياسية التي شهدتها دول المنطقة منذ عام 2020 وبالتوازي مع تزايد الأزمات الاجتماعية والفقر، تصاعدت المطالبات بإعادة النظر في تلك السياسات؛ مما أدى إلى تبني الأنظمة الجديدة توجهًا اقتصاديًا مغايرًا يركز على استعادة الثروات الوطنية وتعزيز سيادة الدولة على مواردها الحيوية.

مسارات التأميم والإجراءات المتخذة

تسعى دول الساحل في المرحلة الراهنة إلى تعزيز سيادتها الاقتصادية عبر إعادة هيكلة قطاعات التعدين والطاقة، بهدف استعادة السيطرة الوطنية على الموارد المعدنية الحيوية بعد عقود من الهيمنة الأجنبية، وتندرج هذه التحركات ضمن استراتيجيات شاملة تستهدف زيادة العائدات الوطنية، وتقليل الاعتماد على الشركات متعددة الجنسيات، وبناء قدرات محلية مستدامة لإدارة القطاعات الاستراتيجية، ويمكن رصد أبرز مسارات التأميم في الدول الثلاث تاليًا:

1. إعادة هيكلة قطاع الذهب في مالي: أطلقت الحكومة المالية برنامجًا استراتيجيًا طموحًا لاستعادة السيطرة على قطاع الذهب الذي يشكل أكثر من 80% من صادرات البلاد. ففي يونيو 2025، قررت السلطات تعيين إدارة حكومية مؤقتة لإدارة مجمع “Barrick Gold” العملاق، أحد أكبر مناجم الذهب في أفريقيا، كما أعلنت عن تأسيس شركة وطنية للذهب وإنشاء مصفاة بدعم روسي لتعزيز القيمة المضافة محليًا، ويهدف هذا البرنامج إلى زيادة العائدات الوطنية، وتقليص هيمنة الشركات الأجنبية، وبناء قاعدة صناعية وطنية في مجال التعدين، بما يسهم في تعزيز الاستقلال الاقتصادي وتوفير فرص عمل ضمن سلاسل القيمة المحلية.

2. إنهاء الهيمنة الفرنسية على اليورانيوم في النيجر: تعتبر النيجر من أبرز منتجي اليورانيوم عالميًا، وقد ظل القطاع خاضعًا لهيمنة الشركات الفرنسية، وعلى رأسها شركة أورانو (Orano) وفي يونيو 2025 أعلنت الحكومة رسميًا تأميم منجم (SOMAIR)، أحد أهم المشاريع المشتركة بين الدولة وأورانو، إلى جانب شروعها في مراجعة شاملة للعقود السابقة مع الشركات الأجنبية العاملة في المجال ويهدف القرار إلى تعزيز السيادة الوطنية على قطاع الطاقة النووية، وتوجيه العائدات نحو التنمية المحلية، في إطار توجه أوسع لتحقيق الاستقلال الاقتصادي وقد أثار القرار رفضًا قويًا من أورانو التي اعتبرته “إجراءً غير قانوني”، في حين حظي بدعم شعبي واسع داخل البلاد.

3. تأميم وإصلاح قطاع التعدين في بوركينا فاسو: اتبعت بوركينا فاسو نهجًا إصلاحيًا مزدوجًا يجمع بين التعديل التشريعي والتأميم المباشر لتعزيز سيطرة الدولة على الموارد المعدنية ففي أغسطس 2024، أقرّت الحكومة قانون تعدين جديد يمنح الدولة سلطات أوسع في الرقابة والمشاركة، ويرفع حصة الدولة في مشاريع التعدين من 10% إلى 15% لتعزيز السيطرة الوطنية والإيرادات كما أعلنت في يونيو 2025 عن تأميم خمسة مناجم ذهب رئيسية كانت تديرها شركات متعددة الجنسيات، ضمن خطة لإعادة توزيع ملكية الموارد وزيادة الإيرادات العامة وتوجيه العوائد نحو مشاريع البنية التحتية والخدمات الاجتماعية.

أبعاد ودوافع سياسات التأميم 

تعتبر سياسات تأميم الموارد المعدنية في دول الساحل من أبرز مظاهر التحول الاقتصادي والسياسي في القارة خلال العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين. ورغم اختلاف السياقات المحلية لكل دولة، فإن هذه الخطوات تلتقي في أهدافها الكبرى المتمثلة في تحقيق الاستقلال الاقتصادي، واستعادة السيادة الوطنية على الثروات، وتعزيز العدالة الاجتماعية. ويمكن تحليل هذه الأبعاد والدوافع كما يلي:

1. بناء استقلال اقتصادي وطني: تسعى دول الساحل إلى فك الارتباط مع المنظومة الاقتصادية القديمة القائمة على التبعية لعائدات محدودة من الشركات الأجنبية العاملة في قطاعات الذهب واليورانيوم؛ إذ مثّل التأميم خطوة استراتيجية لإعادة ضبط العلاقة بين الدولة والقطاع الخاص الأجنبي. ومن خلال هذه المقاربة، تهدف الحكومات إلى تحويل مواردها الطبيعية إلى رافعة للتنمية المستقلة، بدلًا من كونها مصدرًا لتدفقات خارجية محدودة لا تعود بالنفع على المواطنين.

2. تعزيز الشرعية السياسية وتأكيد السيادة الوطنية: تجاوزت سياسات التأميم بعدها الاقتصادي لتتحول إلى أداة سياسية لترسيخ الخطاب السيادي للأنظمة الحاكمة، وتعزيز شرعيتها الداخلية فقد جاءت هذه الإجراءات عقب موجة من الانقلابات التي رفعت شعارات “استعادة الكرامة الوطنية”، و”تحرير الثروات المنهوبة”، معتبرة أن سيطرة الشركات الأجنبية –خصوصًا الفرنسية– على الموارد كانت رمزًا للتبعية والاستغلال. وفي هذا الإطار، شكّلت قرارات مالي والنيجر وبوركينا فاسو رسالة مباشرة إلى الغرب مفادها أن مرحلة الهيمنة الاقتصادية قد انتهت. كما انسحبت هذه الدول من ترتيبات النفوذ الفرنسي التقليدية، مثل مجموعة الساحل الخمس (G5 Sahel)، في خطوة تعكس رغبتها في بناء منظومة جديدة من الشراكات مع قوى بديلة كروسيا والصين وتركيا.

3. العدالة الاقتصادية وإعادة توزيع الثروة: ارتبطت موجة التأميم بخطاب اجتماعي يركز على تحقيق العدالة في توزيع الثروة وربطها مباشرة بحاجات المواطنين. فقد تبنت الحكومات شعار “الثروة للشعب” كمبدأ موجه لسياساتها الاقتصادية الجديدة، مع وعود بتوجيه العائدات إلى مجالات التعليم والصحة والبنية التحتية ففي بوركينا فاسو، أعلنت السلطات تخصيص جزء من عائدات الذهب لمشروعات التنمية الريفية بينما أطلقت مالي برامج لتوظيف الشباب في قطاع التعدين الوطني، وربطت النيجر تأميم قطاع اليورانيوم بتحسين الخدمات في المناطق المنتجة غير أن نجاح هذه الأهداف يبقى مرهونًا بقدرة الدول على إدارة الموارد بكفاءة وشفافية، وضمان عدم تحول التأميم إلى وسيلة جديدة لتركيز السلطة والثروة في يد النخب الحاكمة.

ردود الفعل الدولية والتحالفات الجديدة 

أثارت قرارات تأميم الموارد في دول الساحل صدى واسعًا على الساحة الدولية؛ إذ أعادت هذه الخطوات خلط أوراق النفوذ في منطقة كانت تقليديًا ضمن دائرة النفوذ الفرنسي والأوروبي، وتشهد اليوم تحولًا بنيويًا في توجهاتها الاقتصادية وتحالفاتها الخارجية، في ظل انفتاحها على شركاء جدد وسعيها لإعادة تعريف موقعها في النظام الدولي، ويمكن تتبع أبرز ملامح هذا التحول على النحو الآتي:

1. الموقف الفرنسي والأوروبي: بين فقدان النفوذ ومخاوف أمن الطاقةقوبلت سياسات التأميم بتوجس واضح من فرنسا والاتحاد الأوروبي، اللذين اعتبرا أن الخطوات التي اتخذتها حكومات الساحل تمثل تهديدًا مباشرًا لمصالحهما الاقتصادية والأمنية في المنطقة. فقد واجهت فرنسا، التي تعتمد جزئيًا على يورانيوم النيجر لتشغيل مفاعلاتها النووية، أزمة حقيقية عقب إعلان نيامي تأميم منجم (SOMAIR)، ووصفت القرار بأنه سابقة خطيرة تهدد أمن الطاقة الفرنسي والأوروبي على حد سواء، وردت باريس بإجراءات دبلوماسية وإعلامية مضادة، شملت تعليق بعض برامج التعاون الاقتصادي، وتقليص الوجود العسكري والدعم التنموي. كما سعت فرنسا لحشد موقف أوروبي موحد يربط المساعدات المالية لدول الساحل بمدى التزام دول الساحل بالشفافية الاقتصادية. أما الاتحاد الأوروبي فقد عبر عن موقف أقل حدة، داعيًا إلى الحوار لتجنب انهيار الشراكات التنموية، لكنه علّق أيضًا جزءًا من المساعدات المخصصة للنيجر ومالي، في إشارة إلى تراجع الثقة السياسية، ويشير هذا الموقف المتحفظ إلى أن سياسات التأميم فرضت واقعًا جديدًا تتراجع فيه أدوات النفوذ التقليدية لفرنسا والاتحاد الأوروبي، أمام تصاعد الخطاب السيادي والاستقلال الاقتصادي في الساحل.

2. الدور الروسي: توظيف التأميم لتعزيز الحضور الجيوسياسياستثمرت روسيا التحولات الجارية لتوسيع نطاق نفوذها في غرب أفريقيا، معتبرة قرارات التأميم فرصة استراتيجية لإعادة التموضع في مواجهة التراجع الغربي. وقد رحبت موسكو رسميًا بالإجراءات، ووصفتها بأنها “خطوات سيادية مشروعة نحو التحرر من الاستعمار الاقتصادي”، لتبدأ بعدها مرحلة جديدة من التعاون متعدد الأبعاد، وبرز هذا التعاون في إنشاء مصفاة الذهب في مالي بدعم روسي مباشر، كرمز للشراكة الاقتصادية الجديدة؛ مما يتيح إنتاج الذهب محليًا وتصديره بمعايير وطنية. كما توسع الدور الروسي ليشمل القطاعين الأمني والعسكري عبر اتفاقيات لتقديم الدعم اللوجستي والتدريب لقوات حماية مواقع التعدين في مالي وبوركينا فاسو. وهكذا، لم تكتف موسكو بالبحث عن فرص اقتصادية، بل سعت إلى بناء نفوذ طويل الأمد يستند إلى خطاب “التحرر من الاستعمار”، في إطار صراع دولي متجدد على الموارد والنفوذ في القارة الأفريقية.

3. الشركاء الجدد: انفتاح متزايد على الصين وتركيا في ظل تراجع الشراكة الغربية، اتجهت دول الساحل إلى تنويع تحالفاتها الاقتصادية نحو شركاء أكثر مرونة واستقلالًا في المواقف السياسية، وقد برزت الصين وتركيا كأبرز القوى الصاعدة في هذه المرحلة الجديدة. من جانبها، بدأت الصين مفاوضات مع مالي والنيجر لتطوير مشاريع التعدين والبنية التحتية ضمن مبادرة “الحزام والطريق”، مقدمة تمويلات ميسّرة واستثمارات في الطاقة المتجددة. كما أبدت شركاتها استعدادًا لتولي إدارة بعض المناجم المؤممة بموجب اتفاقات شراكة طويلة الأجل. أما تركيا، فقد عززت حضورها الاقتصادي والسياسي عبر اتفاقات تعاون ثنائي مع بوركينا فاسو ومالي في مجالات الذهب والطاقة الشمسية والتدريب التقني، مستندة إلى مقاربة “الشراكة المتكافئة” التي تقوم على تبادل المنافع بدلًا من السيطرة الاقتصادية.

وفي المجمل، تكشف ردود الفعل الدولية على موجة التأميم في الساحل عن تحول استراتيجي في موازين القوى داخل المنطقة فبينما تشهد فرنسا والاتحاد الأوروبي تراجعًا تدريجيًا في نفوذهما التقليدي، تنجح روسيا والصين وتركيا في ملء الفراغ الاقتصادي والسياسي، مستندة إلى مصالح متبادلة وخطاب سيادي جديد. ومن ثم، لم يكن التأميم مجرد إجراء اقتصادي سيادي، بل خطوة جيوسياسية أعادت رسم خريطة التحالفات الدولية في أفريقيا، وأسست لمرحلة من التعددية القطبية في إدارة الثروات والنفوذ داخل القارة.

آفاق تأميم الموارد في الساحل الأفريقي

تُعد سياسات تأميم الموارد المعدنية في دول الساحل خطوة مفصلية نحو تعزيز السيادة الاقتصادية وتحرير القرار الوطني من الهيمنة الخارجية، غير أنها تتزامن مع تفاقم الأزمة الأمنية؛ مما يفرض تحديات مضاعفة على قدرات الدول في إدارة القطاعات المؤممة بكفاءة. فقد استغلت الجماعات المسلحة الفراغ الإداري لتوسيع نفوذها في مواقع التعدين غير الرسمية، وفرض الضرائب عليها، لا سيما في شمال مالي وأقاليم من بوركينا فاسو؛ حيث تُشير التقديرات إلى أن نحو 40% من الأراضي خارج السيطرة الحكومية، وتُستخدم عائدات الذهب لتمويل العمليات المسلحة. كما تواجه النيجر وضعًا مشابهًا في ظل تصاعد نشاط الجماعات المتمردة.

ورغم أن التأميم من شأنه زيادة العائدات الوطنية وتعزيز الموازنات العامة، فإن المخاطر الأمنية والاقتصادية تحد من قدرته على تحقيق أهدافه. فمن جهة، يُفترض أن تتيح هذه السياسات فرصًا لتطوير قدرات التصنيع المحلي من خلال إنشاء مصافٍ ومصانع لمعالجة المعادن داخل الدول الثلاث، بما يقلل الاعتماد على تصدير المواد الخام ويرفع القيمة المضافة للاقتصاد الوطني. ومن جهة أخرى، يشير محللون إلى أن ضعف الكفاءات الفنية ونقص التمويل يشكلان عقبة أمام تشغيل المناجم واسعة النطاق بشكل مستقل.

ومن الناحية السياسية، يُرجح أن تُكسب هذه الخطوات الأنظمة الحاكمة مزيدًا من الشرعية الشعبية، من خلال ربط الخطاب الوطني بسياسات “استعادة الثروات المنهوبة” ورفض التبعية الاقتصادية، كما يمكن أن تفتح المجال أمام تحالفات اقتصادية وجيوسياسية جديدة مع القوى الصاعدة مثل روسيا والصين وتركيا، التي تمثل بدائل أكثر مرونة للشركاء الغربيين التقليديين. غير أن هذه المسارات قد تؤدي أيضًا إلى تعقيد شبكة المصالح الدولية في المنطقة، بما يتطلب من دول الساحل إدارة متوازنة وحذرة لعلاقاتها الخارجية للحفاظ على استقلال القرار الوطني وضمان تحويل مكاسب التأميم إلى تنمية حقيقية ومستدامة.

حاصل ما تقدم، يتضح أن سياسات تأميم الموارد في دول الساحل تمثل تجربة استراتيجية مركبة تجمع بين طموحات تحقيق السيادة الوطنية والعدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية. فبينما تتيح هذه السياسات فرصًا لزيادة الإيرادات الوطنية، وتعزيز التصنيع المحلي، والاستقلال الاقتصادي، فإنها في الوقت نفسه تواجه تحديات تقنية وإدارية، وضغوطًا دبلوماسية متزايدة، إضافة إلى ضرورة ضمان توزيع عادل ومستدام للعوائد. كما أسهمت هذه التحولات في إعادة تشكيل خريطة التحالفات الدولية عبر الانفتاح على شركاء جدد مثل روسيا والصين وتركيا؛ الأمر الذي حد من الاعتماد التقليدي على القوى الغربية، وأرسى ملامح تعددية جديدة في التوازنات الاقتصادية والجيوسياسية داخل المنطقة. ومن ثم، فإن نجاح التجربة سيظل مرهونًا بقدرة الحكومات على إدارة مواردها بكفاءة وشفافية، وبناء مؤسسات قادرة على تحويل هذه الإجراءات من شعارات سيادية إلى سياسات تنموية فاعلة تسهم في تحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي وتعزيز استقلال القرار الوطني على المدى الطويل.

 

 

المصدر: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية

الكاتب : نسرين الصباحى

التاريخ : 3/11/2025

--------------------------------------------------------------------------------

المصدر: الجزيرة نت

التاريخ : 25/10/2025


المقالات الأخيرة