سوريا الجديدة تشكل شرعيتها الدولية برؤية أمريكية
فرع القاهرة

صوت مجلس الأمن الدولى فى 6 نوفمبر 2025 على قرار برفع العقوبات المفروضة على الرئيس السورى الانتقالى أحمد الشرع، وذلك بموافقة 14 دولة وامتناع الصين عن التصويت القرار جاء استباقاً للزيارة التى يقوم بها الشرع للولايات المتحدة يوم 10 نوفمبر ولقائه المرتقب مع الرئيس الأمريكى دونالد ترامب. وقد تزامن ذلك مع خطوة مماثلة اتخذتها بريطانيا فى الشأن نفسه القرار يعد تتويجاً لمسار الإجراءات الذي بدأته الأمم المتحدة مع الزيارات التى كان يقوم بها الشرع خارج دولته باعتباره رئيساً لها. وجدير بالذكر أن الولايات المتحدة سبق لها أن اتخذت خطوات تدريجية فى مسار رفع العقوبات بدأتها فى يوليو 2025 بإلغاء تصنيف "هيئة تحرير الشام" من قائمة الإرهاب والتى كان يرأسها أحمد الشرع (أبو محمد الجولانى) منذ عام 2017 وحتى انتهاء عملية "ردع العدوان" التى أسقطت حكم الرئيس السابق بشار الأسد فى 8 ديسمبر 2024، وكان الشرع قد أعلن تفكيك الهيئة فى يناير 2025. وسبق للرئيس السورى أن التقى بالرئيس الأمريكى فى الرياض على هامش الجولة الإقليمية التى قام بها الأخير لدول المنطقة فى مايو الماضى. ويعد اللقاء فى واشنطن خلال نوفمبر الجارى هو أول لقاء رسمى يجمع بين الرئيسين.

الرؤية الأمريكية لسوريا الجديدة

ترى الولايات المتحدة فى سوريا الجديدة، بعد سقوط نظام الأسد وخروجها من محور إيران الإقليمى، فرصة سانحة لتعديل بوصلة توجهات دمشق الإقليمية لتقترب من الولايات المتحدة وحلفائها فى المنطقة: الخليج وقوات الاحتلال وتركيا، وهى الفرصة التى وفرتها لها قناعات الرئيس الانتقالى أحمد الشرع نفسه وانعكست بوضوح فى اتخاذه خطوات مبكرة بالابتعاد عن المحور الإيرانى الروسى الذى كان داعماً للنظام السورى السابق؛ وذلك بالعمل على إخراج المليشيات التابعة لإيران من سوريا من ناحية، ووضع قيود على الوجود الروسى عبر القواعد العسكرية فى اللاذقية وطرطوس من ناحية ثانية، فضلاً عن مخاطبة الولايات المتحدة والغرب بخطاب الدبلوماسية بدلاً من خطاب الإرهاب والتطرف من ناحية ثالثة، وهو ما تلقته الولايات المتحدة كمدخلات شكلت عبرها رؤيتها الجديدة تجاه الحكومة الانتقالية فى سوريا بعد ثلاثة شهور من الترقب لتعاطيات الشرع مع الوضع فى سوريا؛ فبدأت فى مارس 2025 بمطالبة الإدارة الجديدة بتحديد موقفها من عدة نقاط تتعلق بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، ووضع المقاتلين الأجانب من مؤسسات الدولة فى المرحلة الانتقالية، وترحيل العناصر الفلسطينية المحسوبة على حركات المقاومة، ومحاربة تنظيم الدولة "داعش" وتولى مهام أمنية تتعلق بمعسكرات عوائل تنظيم الدولة الموجودة فى شمال شرق سوريا، والتخلص من المخزون السورى من الأسلحة الكيماوية ، والإنهاء الكامل للتواجد الإيرانى فى الأراضى السورية.

ووفقاً لتقارير أمريكية، فإن إدارة الرئيس الانتقالى أحمد الشرع استطاعات التعاطى بنجاح مع بعض وليس كل هذه النقاط، وهى النقاط التى على أساسها قيمت الإدارة الأمريكية درجة قبول الشرع وحكومته الانتقالية لمتطلبات التقارب معها. ومن أهم هذه النقاط اعتقال وإبعاد شخصيات محسوبة على حركات المقاومة الفلسطينية ومنها الجهاد وحماس والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فضلاً عن نجاح حكومة الشرع فى مواجهة بقايا تنظيم الدولة "داعش" فى مناطق جديدة هربوا إليها فى وسط وغرب وجنوب سوريا، وتعد هذه النقطة تحديداً بوابة الانفتاح الأمريكى الرئيسية على الحكومة الانتقالية بقيادة الشرع فى سوريا، وتُرجمت واقعياً بتوقيع الشرع اتفاقاً يقضى بمشاركة دولته فى التحالف الدولى لمحاربة الإرهاب سيتم الإعلان عنه خلال زيارته المرتقبة لواشنطن، كما حاولت حكومة الشرع معالجة التباينات فى وجهات النظر بينها وبين الإدارة الأمريكية بخصوص موقع المقاتلين الأجانب من المؤسسة العسكرية السورية الجارى تشكيلها؛ فبينما ترى واشنطن ضرورة إبعادهم عن الجيش السورى، وعن أى مناصب قيادية، بل وإبعادهم خارج سوريا، ترى الحكومة الانتقالية ضرورة بقائهم طالما استمرت التهديدات الأمنية الداخلية موجودة من قبل تنظيم الدولة "داعش"، وفلول النظام السابق فى منطقة الساحل، واستمر تعنت قوات سوريا الديمقراطية "قسد" فى تنفيذ اتفاق 10 مارس الأمنى 2025 وعملت حكومة الشرع على توفيق أوضاعهم بعدة طرق منها منح الجنسية السورية لبعضهم من ناحية، واستيعاب ودمج البعض الآخر ضمن الجيش السورى باعتبار أن ذلك يضمن وجود نواة عسكرية قادرة على حماية مؤسسات الدولة ، وفى الوقت نفسه مواجهة التحديات الأمنية المتزايدة فى سوريا.    

موقف الحكومة الانتقالية

من أبز النقاط أيضاً التى لازالت عالقة بين دمشق وواشنطن هى موقف الحكومة الانتقالية من التطبيع مع الكيان الصهيوني، وعلى الرغم من الإعلان المبكر للشرع فى ديسمبر 2024، بعد أيام من نجاحه فى إزاحة نظام الأسد، أن توجهات المرحلة الانتقالية فى سوريا تشمل ضمن بنودها "أن لا تكون سوريا ساحة لتهديد الدول المجاورة"، إلا أن ذلك لم يمنع قوات الاحتلال من انتهاز فرصة سقوط نظام الأسد لتخلق واقعاً ميدانياً أمنياً وعسكرياً جديداً فى الجنوب السورى على مدار عام كامل أسفر عن سيطرتها على مناطق شاسعة فى محافظات الجنوب فى السويداء والقنيطرة ودرعا وصولاً إلى ريف دمشق الجنوبى، بل وتهديد العاصمة مباشرة بعد أن قامت بتدمير كافة مقدرات سوريا العسكرية من طيران ودفاعات جوية وأسطول بحرى ومدفعية، وأقامت نقاطاً عسكرية متعددة للمراقبة.

وبالرغم من محاولات واشنطن دفع سوريا الجديدة لانتهاج مسار تطبيعى مع الكيان الصهيوني عبر رعايتها لحوالى أربعة جولات من المفاوضات بين الجانبين، إلا أن الشرع أبدى موقفاً غامضاً يتأرجح بين حالتين: الأولى موافقته على أن تنخرط سوريا فى مسار شامل للسلام الإقليمى، وهو ما يترجم من جانب الولايات المتحدة والكيان الصهيوني بالسلام الإبراهيمى، والثانية رغبته فى أن يتم أولاً تسوية الأوضاع الأمنية فى الجنوب السورى مع قوات العدوضمن "تفاهم" أو حتى "اتفاق أمنى" يبدأ من العودة لاتفاق فض الاشتباك عام 1974، ويضمن انسحاب قوات الاحتلال من المناطق التى احتلتها فيه، ويحدد وضع الجولان باعتبارها ضمن السيادة السورية، ويسمح بنوع من "الترتيبات الأمنية" المشتركة بضمانة أمريكية - دولية. هذا بخلاف توفير نظام أمني لحماية الدروز. وجدير بالذكر أن مطلب الكيان الصهيوني بفتح ممر إنسانى إلى محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية قد أدى إلى تعثر المباحثات فى سبتمبر الماضى.

أما بالنسبة للإدارة الأمريكية، فترى أن التوصل لاتفاق أمنى بشأن الجنوب السورى بين الإدارة السورية الجديدة وبين حكومة الشرع يعد أمراً مهماً؛ فهو من ناحية يمثل استكمالاً للصورة التى يحاول الرئيس ترامب نسجها حول نفسه باعتباره القادر على إنهاء الأزمات وصانع الاتفاقات ومهندس الصفقات فى منطقة الشرق الأوسط، ومن ناحية ثانية يعيد تموضع سوريا فى المنطقة كونها لم تعد ركيزة لمشروع إقليمى إيرانى، بل انتقلت للمحور المناوئ له بما يعيد تشكيل توازن القوى فى المنطقة لصالح الولايات المتحدة وحلفائها، لاسيما وأن روسيا لاتزال ترقب طبيعة العلاقات الأمريكية السورية الجديدة وما ستسفر عنها من نتائج، ولم "تنتهز" الفرصة التى أتاحتها زيارة الشرع لها ولقائه الرئيس الروسى فلاديمير بوتين أواخر سبتمبر 2025، بالعودة إلى معادلة القوى الدولية فى سوريا الجديدة، خاصة وأن الشرع استهدف من زيارته لروسيا محاولة إعادة التوازن فى علاقات سوريا الجديدة تجاه القوى الدولية من خلال تقديم مزايا لروسيا بشأن قواعدها الجوية والبحرية مقابل الحصول على دعم عسكرى روسى يتمثل فى عودة الشرطة العسكرية الروسية إلى ممارسة مهام ضبط الأمن فى مناطق الساحل غرب سوريا، ومناطق الشمال فى الحسكة لمراقبة تحركات قوات سورية الديمقراطية "قسد"، فضلاً عن احتمالية لعب دور أمنى فى الجنوب السورى مستقبلاً وتحديداً داخل مناطق تمركز الطوائف الدرزية.

أيضاً، تعد معسكرات احتجاز تنظيم "داعش" وعوائله من ضمن النقاط العالقة التى تتوسط التباينات فى الرؤى بين الإدارة الانتقالية فى سوريا وبين الإدارة الأمريكية برئاسة ترامب، ويرجع ذلك إلى وضع متغير قوات سوريا الديمقراطية "قسد" ضمن معادلة العلاقات السورية الأمريكية. بمعنى أكثر تفسيراً، أن الرئيس السورى أحمد الشرع يرغب فى أن تقوم الولايات المتحدة بالضغط على "قسد" لإتمام الاتفاق الأمنى الذى وقعته الأخيرة مع الحكومة فى دمشق خلال مارس 2025، والمفترض له أن يدخل حيز التنفيذ نهاية العام الجارى ويقوم فى مضمونه الأساسى على دمج "قسد" ضمن الجيش السورى، وتسليم مناطق الإدارة الذاتية فى شمال وشمال شرق سوريا لإشراف الحكومة المركزية فى دمشق، وهو ما سيسمح للحكومة باستكمال القوة القادرة على محاربة "داعش" من ناحية، ويسمح لها كذلك بتولى زمام الإشراف المباشر على مخيمات احتجاز عناصر التنظيم وعوائله من ناحية ثانية.   

أهداف ودلالات الزيارة

تختزل الولايات المتحدة أهدافها التى تسعى إليها من الزيارة التى يقوم بها الرئيس السورى أحمد الشرع لواشنطن فى هدفين رئيسيين: الأول، انضمام سوريا الجديدة إلى التحالف الدولى لمكافحة الإرهاب بتوقيع اتفاق رسمى فى هذا الشأن، حيث يرى العديد من المراقبين أن دخول سوريا ضمن التحالف الدولى لمحاربة الإرهاب من شأنه منحها العديد من المزايا العسكرية من قبيل برامج مراقبة وأنظمة دفاعية وتكنولوجيا عسكرية ضمن برامج التحالف، كما يلاحظ هنا أن الشرع نفسه استطاع أن يروج جيداً لفكرة تقديم الحكومة السورية الجديدة كبديل لقوات سوريا الديمقراطية فى محاربة تنظيم الدولة "داعش".

والثاني، الدفع نحو التوصل إلى تفاهم أمنى بين سوريا وقوات العدو بشأن الجنوب السورى قبل نهاية العام الجارى، وهو ما عكسته تصريحات المبعوث الأمريكى لسوريا توم براك مطلع شهر نوفمبر الجارى التى ذكر فيها أن الزيارة سيليها جولة خامسة لمباحثات بين سوريا والكيان الصهيوني بينما يستهدف الشرع من هذه الزيارة حث واشنطن على الرفع الكامل للعقوبات خاصة التى تم إقرارها وفقاً لقوانين من قبل الكونجرس - قانون قيصر- مما يسهم فى اتخاذ خطوات فاعلة بشأن مسار إعادة الإعمار.

دخول سوريا التحالف الدولى لمكافحة الإرهاب ربما يعكس رؤيتين متناقضتين: إحداهما تشير إلى ترسيخ مباشر للوجود الأمريكى فيها تحت مسمى مراقبة عمليات مكافحة الإرهاب، ووضعها ضمن منظومة الولايات المتحدة الأمنية فى المنطقة مقابل رفع العقوبات وحصول الشرع على شرعية دولية. والأخرى تشير إلى العكس حيث ستسعى الولايات المتحدة إلى تقليص هذا الوجود بعد أن تكون قد نقلت مهمة مكافحة تنظيم الدولة "داعش" من حليفتها المحلية قوات سوريا الديمقراطية "قسد" إلى الحليف الجديد وهو الدولة السورية، وهنا ستجد "قسد" نفسها فى موقف ضعف بعد أن نقل الحليف الأمريكى اعتماده فى محاربة الإرهاب إلى الحكومة الانتقالية بدلاً منها، ووقتها لن يكون أمامها سوى اتمام تنفيذ اتفاق مارس الأمنى بينها وبين دمشق، أو أن يتم تفكيكها بالقوة العسكرية من قبل حليف آخر للحكومة الانتقالية وهو الحليف التركى الذى يترقب تنفيذ اتفاق مارس عن كثب، لاسيما بعد اقتراب موعد دخوله حيز التنفيذ نهاية العام الجارى.

قواعد أمريكية جديدة

ترتبط السياسات الأمريكية الجديدة تجاه سوريا بمؤشرات تقول بأن الولايات المتحدة بصدد إقامة قاعدة عسكرية جديدة لها فى جنوب دمشق بالقرب من مناطق الجنوب السورى، وأن الهدف من ذلك هو ضمان مراقبة اتفاق أمنى وشيك بين سوريا والكيان الصهيوني بشأن الجنوب السورى، على أن تتولى تلك القاعدة مراقبة التزام الجانبين السورى والصهيوني بالاتفاق، وفى الوقت نفسه ضمان أن تكون منطقة الجنوب السورى منطقة منزوعة السلاح الثقيل فى سياق الاتفاق نفسه، وثمة رأى يقول إن إقامة قاعدة جوية أمريكية فى جنوب دمشق – فى مطار المزة أو مطار تدمر أو كلايهما- ربما يستهدف "موازنة" الوجود التركى الجديد فى وسط سوريا؛ حيث تسعى تركيا إلى إقامة قاعدة لها فى وسط سوريا مقابل رفض قوات الاحتلال لهذا الأمر وجدير بالذكر أن ثمة حوالى 25 قاعدة أمريكية فى سوريا أبرزها الرميلان وتل بيدر بالحسكة، وكونكو بدير الزور وتتركز معظمها فى  مناطق الشمال الشرقى،  مما يجعلها بعيدة عن مناطق التفاعل السورى الصهيوني فى الجنوب، بخلاف قاعدة التحالف الدولى فى التنف فى منطقة الحدود السورية العراقية الأردنية.

ختاماً، يمكن القول إن زيارة الرئيس السورى أحمد الشرع للولايات المتحدة ووفقاً لأهدافها السابق عرضها، تعكس تغيراً كبيراً فى تحالفات الدولة السورية فى مرحلة الحكم الانتقالى الحالية، وسواء كان الأمر يتعلق بترسيخ الوجود الأمريكى العسكرى أو تقليصه، فإن النتيجة الواضحة هو أن سوريا فى ظل حكم الشرع ستصطف وللمرة الأولى فى تاريخها ضمن حلفاء الولايات المتحدة فى المنطقة سياسياً وأمنياً، وهو ما يمكن وصفه بإعادة التموضع التاريخى بالانتقال من معسكر الممانعة ومحور المقاومة إلى محور الموالاة للولايات المتحدة.  

 

المصدر: مركز الأهرام للدرسات السياسية والاستراتيجية

الكاتب: صافيناز محمد أحمد

التاريخ : 10/11/2025

--------------------------------------------------------------------------------

المصدر: فرانس24

الكاتب: مفيدة برهومي

التاريخ: 9/11/2025


المقالات الأخيرة