تلعب المتاحف دورًا محوريًا فى تعزيز التعاون الدبلوماسى والثقافى والسياحى بين الدول، حيث تُعتبر جسورًا تربط بين الشعوب من خلال التراث والتاريخ والفنون، وهو ما يُطلق عليه «دبلوماسية المتاحف»، وهو نهج حديث لتعزيز العلاقات الدولية يسمى «دبلوماسية المتاحف» منبثق من الدبلوماسية الثقافية، وتستخدم أدوات الدبلوماسية العامة، وحيث تتحول فيه المتاحف ليس فقط كحافظ وحارس للتراث بل كمتحدث رسمى عنه فهى تتضمن أمثلة لأعلى إنجازات الحضارة الإنسانية فى الثقافة المرئية، ومن خلال إتاحتها لجميع أنحاء العالم، سواء شخصيًا أو من خلال العروض الرقمية، وبذلك تعزز مشاعر الرهبة والفخر والإعجاب وتقيم شبكات قوية من حسن النية والعلاقات الدولية، وتعرض من خلال القصص والروايات المقدمة من خلال المعارض والبرامج وتشير إلى قيم إنسانية يتردد صداها فى الخارج.
حيث تُعد المتاحف جزءاً من القوة الناعمة للدول، حيث تساعد على بناء صورة إيجابية عنها في الخارج، على نحو يجعلها ثروة وطنية استراتيجية، تفرض على النخب السياسية والاقتصادية والثقافية الرسمية الاهتمام بها؛ نظراً لارتباطها بأبعاد متعددة تخص الهوية والتراث والبيئة والاقتصاد والسياحة، بحيث تعمل الدبلوماسية الثقافية على مراكمة القوة الناعمة التي يمكن أن يكون تأثيرها وفعاليتها أكثر وأعمق من القوة الصلبة في أحيان كثيرة.
وفي هذا الإطار، تصاعد تأثير الدبلوماسية الثقافية في العلاقات الخارجية التي نسجتها عدد من الدول العربية، سواء مع دول أخرى أم منظمات عالمية متخصصة، خلال السنوات الماضية؛ بحيث برزت برامج عمل يُعلن عنها سنوياً، وتتضمن أنشطة تفاعلية متميزة بين وزارات الخارجية والسياحة والآثار والثقافة، تتعلق بدور المتاحف عبر عدة مداخل، أبرزها تنظيم المعارض المشتركة والمتنقلة، وإطلاق برامج لتبادل الخبرات الثقافية والمقتنيات الأثرية لفترة محدودة، وتمويل المشاريع المشتركة، وتدشين برامج التوعية الثقافية. ويهدف ذلك إلى تحقيق جملة من المصالح الوطنية الحيوية لهذه الدولة أو تلك، وصناعة مركزها المؤثر في الساحة الدولية؛ ويأتي في مقدمة تلك المصالح تعزيز الهوية الوطنية، ودعم التنمية الاقتصادية والسياحية، وتقوية الشراكات الدولية، وتحسين الصورة الدولية، والقدرة على المنافسة العالمية، وتأكيد تماسك العلاقات السياسية الثنائية.
أدوار مترابطة:
هناك مجموعة من الأدوار التي تقوم بها المتاحف الوطنية في المنطقة العربية في سياق تصاعد تأثير المكون الثقافي في السياسة الخارجية للدول، وذلك على النحو التالي:
1- تعزيز الهوية الوطنية والثقافية: تتيح المتاحف للجمهور فرصة التعرف على حضارات وثقافات مختلفة؛ بحيث تسهم هذه المتاحف في تعزيز الهوية الوطنية من جهة، والحفاظ على التراث الثقافي وحمايته من خلال التوثيق الرقمي وتبادل أفضل الممارسات مع دول العالم في الصيانة والترميم من جهة أخرى.
فعلى مستوى دول الخليج، تمثل دولة الإمارات العربية المتحدة وجهة إقليمية وعالمية للسياحة؛ حيث توجد خيارات متنوعة من المتاحف يتقدمها متحف اللوفر أبوظبي، الذي يُعرف جمهوره على مختلف التعبيرات الفنية من كافة الحضارات والثقافات. كما أنه من المقرر أن يفتح متحف زايد الوطني، المتحف الوطني لدولة الإمارات، أبوابه رسمياً في ديسمبر 2025، في قلب المنطقة الثقافية في السعديات؛ حيث يُعد أحد أكبر تجمعات المؤسسات الثقافية في العالم، ويحتفي هذا الصرح بإرث المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، في دعم التعليم والمعرفة، وترسيخ الهوية الوطنية، والحفاظ على التراث الثقافي. وتضم مقتنيات المتحف مجموعة متنوعة من القطع الأثرية من مختلف أنحاء الدولة، إلى جانب مجموعة من الأعمال المُعارة والقطع المهداة من المجتمعات المحلية والدولية. وفي هذا الشأن، أكد رئيس دائرة الثقافة والسياحة - أبوظبي، محمد خليفة المبارك، في 10 يوليو 2025، تواصل المبادرات الرامية إلى صون التراث الثقافي لدولة الإمارات.
وفي قطر، أكدت لولوة بنت راشد الخاطر، وزيرة التربية والتعليم والتعليم العالي، نائبة رئيس مجلس أمناء متاحف قطر، خلال افتتاح مؤتمر "مستقبل المتاحف وممارسات علم المتاحف في عالم متغير"، الذي نظمته متاحف قطر، بالتعاون مع اللجنة الدولية لعلم المتاحف التابعة للمجلس الدولي للمتاحف والمنظمة العربية للمتاحف، بتاريخ 1ديسمبر 2024؛ حرص متاحف قطر على تعزيز مفاهيم الدبلوماسية الثقافية، من خلال بناء شبكة متنامية من المتاحف والمواقع الأثرية وتنظيم الفعاليات المختلفة والمميزة، التي تسهم بشكل كبير في تعزيز الهوية الثقافية.
أما في مصر، فيقوم القطاع الثقافي داخل وزارة الخارجية بالمتابعة مع الجهات المعنية فيما يتعلق بالمتاحف المصرية والاستعدادات الجارية لافتتاح المتحف المصري الكبير، والمقرر له الأول من نوفمبر المقبل؛ حيث يتولى القطاع الثقافي التنسيق مع السفارات المصرية في الخارج للترويج للمتاحف المصرية بشكل عام، وما هو مرتبط بافتتاح المتحف الكبير وإبراز المكانة التي يتمتع بها من حيث الموقع والمساحة والمحتويات وتنظيم المعروضات؛ إذ إنه يحتوي على عدد كبير من القطع الأثرية المميزة والنادرة، بما يجعله منارة ثقافية عالمية تسلط الضوء على الحضارة المصرية القديمة من خلال تقنيات عرض حديثة وتجربة متحفية غير مسبوقة؛ مما يعزز الفخر بالهوية الوطنية.
وهنا، يمكن الإشارة إلى تصريح بسمة الميمان، المديرة الإقليمية للشرق الأوسط في منظمة الأمم المتحدة للسياحة، لصحيفة "الأهرام" بتاريخ 14 سبتمبر 2025 بقولها: "يُعد المتحف الكبير مشروعاً استثنائياً بكل المقاييس على الصعيدين الوطني والدولي، ليس فقط لأنه الأكبر عالمياً المخصص للحضارة المصرية القديمة، بل لأنه يمثل نقلة نوعية في مفهوم المتاحف كمنارات حضارية ومراكز ثقافية متعددة الأبعاد".
2- دعم التنمية الاقتصادية والسياحية: تجذب المتاحف البارزة في عدد من الدول العربية، السياح من مناطق مختلفة؛ مما يسهم في تنمية الاقتصاد المحلي، ويوفر فرص عمل جديدة للمجتمعات المحلية، ويدعم الاقتصاد الوطني، بالإضافة إلى استخدامها للتكنولوجيا الحديثة والممارسات الصديقة للبيئة في تصميمها وتشغيلها، إضافة إلى أنها تمثل قوة جذب سياحي تسهم في تنويع المنتج السياحي وتعزيز سمعة الدولة كمركز ثقافي عالمي.
وفي هذا الإطار، تعمل السعودية على زيادة عدد المتاحف، بما يتوافق مع رؤيتها الاستراتيجية والاقتصادية 2030، وتنويع الموارد الاقتصادية بعيداً عن النفط، في إطار ما يُطلق عليه "الاقتصاد الثقافي".
3- تبادل الخبرات الثقافية: من المُلاحظ استخدام الدول العربية المتاحف كأدوات لبناء جسور التواصل والتفاهم بين الثقافات والشعوب، وإظهار الروابط التاريخية والثقافية المشتركة، من خلال تنظيم المعارض المشتركة وتبادل القطع الأثرية والخبرات؛ مما يسهم في دعم التعاون الدولي، وتقوية الشراكات الدولية طويلة الأمد، وتعزيز دور الدول العربية ثقافياً على الساحة الدولية.
ووفقاً لوجهة النظر هذه، تسمح المتاحف بإقامة المشروعات البحثية المشتركة ودراسات الحضارات؛ حيث توفر المتاحف فرصاً للبحث العلمي والتبادل الأكاديمي بين الدول؛ مما يسهم في نشر المعرفة وتعزيز التعاون بين الباحثين والمؤرخين؛ ومن ثم تصبح المتاحف أكثر من مجرد أماكن لحفظ التاريخ، بل أداة فعالة لتعزيز العلاقات الدولية والتفاهم بين الشعوب، وأهمها التعاون في ترميم الآثار أو دراسة التاريخ المشترك، بما يُعمق الروابط الأكاديمية ويُحيي التراث المشترك.
وهنا تجدر الإشارة إلى مذكرة التفاهم الموقَّعة في عام 2023 بين متحف الآغا خان في كندا ووزارة الثقافة الإماراتية، والتي تمثل خطوة مهمة نحو تعزيز الالتزام المشترك بالحوار بين الثقافات من خلال الفنون، وكانت أحدث فعالياتها في منتصف يونيو 2025 بمشاركة رموز ثقافية إماراتية برئاسة معالي الشيخ سالم القاسمي، وزير الثقافة في دولة الإمارات، في افتتاح معرض "كالشمس تظهر للعينين من بُعد" الذي يُقام في مدينة تورنتو الكندية لأول مرة ويستمر حتى 15 فبراير 2026؛ وهو معرض بارز يُسلّط الضوء على عقدين من الفن الإسلامي المعاصر.
واللافت للنظر في هذا السياق أيضاً، وجود اهتمام متصاعد للمملكة المغربية بالدبلوماسية الثقافية في مجال المتاحف؛ وهو ما برز في إنشاء المؤسسة الوطنية للمتاحف، وافتتاح متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر بالرباط عام 2014، الذي أصبح صرحاً مهماً لعرض الإبداعات المغربية وتعزيز الحوار الثقافي مع مختلف دول العالم.
4- تحسين الصورة الدولية: يسود اتجاه رئيسي في الأدبيات مفاده أن المتاحف أداة فاعلة في الدبلوماسية الثقافية؛ إذ تعزز الصورة الذهنية لبعض الدول العربية باعتبارها راعية للإرث الإنساني ومبادِرة في حوار الحضارات. ووفقاً لذلك، من المتوقع أن يفتح الاهتمام العربي بالمتاحف آفاقاً أوسع للتعاون مع المتاحف والمؤسسات الثقافية العالمية في مجالات المعارض المشتركة، والبحث الأثري، والتدريب المتخصص؛ وهو ما يؤسس لجيل جديد من الحضور العربي على الخريطة العالمية.
وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة مثلاً إلى إطلاق شراكة بين متاحف قطر ومتحف المتروبوليتان للفنون في نيويورك عام 2022، والتي تأتي في سياق الدبلوماسية الثقافية وتشمل تبادل المعارض الفنية والبرامج الثقافية، كما أُطلق على قاعة العالم الإسلامي في متحف متروبوليتان اسم "قاعة قطر"؛ تقديراً للدعم الذي قدمته الدوحة إلى المتحف.
5- القدرة على المنافسة العالمية: هناك اتجاه في بعض الكتابات وخاصةً الأجنبية، يعمل على تحويل مفهوم المتاحف إلى "براندات" أو "علامة تجارية"؛ وذلك لحماية حقوق الملكية الفكرية والمادية والقدرة على المنافسة عالمياً بين المتاحف الكبرى مثل اللوفر والميتروبوليتان وغيرهما؛ مما يقوي مكانة بعض دول الإقليم على خريطة السياحة العالمية.
6- تأكيد تماسك العلاقات السياسية: يتضح ذلك في قدرة بعض دول المنطقة على استعادة القطع الأثرية التي يتم تهريبها بشكل غير قانوني، ونجاح الدبلوماسية الثقافية في التعاون مع عدة دول وسفارات، وتفعيل وساطات ثقافية وقانونية، وتوافر الوعي بحجم التراث المفقود، ومدى التنسيق المشترك بين السلطات في الدولتين.
وفي هذا الإطار، تسلَّمت السفارة المصرية في لاهاي بهولندا، في منتصف أغسطس 2025، مجموعة من القطع الأثرية النادرة من المتحف الوطني الهولندي، يعود تاريخها إلى حقب زمنية قديمة، بعدما ثبت خروجها من مصر بطرق غير مشروعة؛ وهو ما يسلط الضوء على التزام الدولة المصرية الراسخ بمكافحة تهريب الآثار. ولعل ذلك يعكس أهمية التنسيق بين السلطات المصرية والهولندية في مواجهة الاتجار غير المشروع بـ"البضائع الثقافية". كما تكرر ذلك بين مصر من جانب، وإيرلندا وأستراليا وبلجيكا وسويسرا والولايات المتحدة من جانب آخر. ويمثل هذا التعاون الثقافي والعلمي جزءاً من تقوية العلاقات الثنائية.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى دبلوماسية استرداد الآثار العراقية، وهي نتاج الجهود بين مؤسسات العراق ذات الصلة وخصوصاً في وزارة الثقافة والسياحة والآثار العراقية والمتحف الوطني العراقي، وبتعاون دولي فعال مع الدول الصديقة، وجهود البعثات الدبلوماسية في عدد من دول العالم؛ على نحو أدى إلى استرداد آلاف القطع الأثرية والمخطوطات والكتب واللوحات من دول أبرزها الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا والنرويج.
وفي ليبيا على الرغم من التحديات، هناك محاولات يمكن اعتبارها شكلاً جنينياً أو غير مباشر لدبلوماسية المتاحف:
التعاون مع المنظمات الدولية: تتعاون الهيئة الليبية للآثار (بقدر الإمكان) مع منظمات مثل اليونسكو و الإيكروم (ICCROM) في مشاريع توثيق وترميم وحماية التراث. هذا التعاون يخلق جسوراً دبلوماسية ثقافية مع المجتمع الدولي.
المعارض الخارجية المؤقتة: تم تنظيم بعض المعارض خارج ليبيا لعرض آثارها، غالباً بدعم من جهات أجنبية. هذه المعارض تهدف إلى تسليط الضوء على عمق الحضارة الليبية وتذكير العالم بضرورة حماية تراثها. ومع ذلك، فإنها تفتقر إلى الاستمرارية والتخطيط الاستراتيجي طويل الأمد.
تحاول ليبيا، عبر قنواتها الدبلوماسية المحدودة، كسب الدعم الدولي لحماية تراثها من التهريب والتدمير، وهو ما يشبه "دبلوماسية الأزمات الثقافية" أكثر من كونه دبلوماسية متاحف تقليدية.
صون الهوية:
خلاصة القول إن دبلوماسية المتاحف في المنطقة العربية صارت جزءاً أساسياً من استراتيجية الدولة الوطنية في تعزيز مكانتها الثقافية العالمية؛ إذ إن هناك مسعى متواصلاً من جانب بعض الدول العربية لصون الهوية الحضارية وحماية الذاكرة الإنسانية وتعزيز السيادة الثقافية الوطنية.
ويتطلب ذلك من الدول العربية خطوات إضافية خلال المرحلة المقبلة؛ بحيث تتطلب إطلاق حملات دولية بمشاركة اليونسكو لإعادة عدة قطع استراتيجية، وبناء شبكات للتواصل الدولي لمراقبة سوق الآثار وضبط المعروضات المشبوهة، وتعزيز العلاقة مع "المجلس الدولي للمتاحف" (ICOM) كمنظمة دولية غير حكومية تكرس جهودها لتعزيز وإدارة وحماية التراث الثقافي في جميع أنحاء العالم؛ حيث يضم المجلس أكثر من 60 ألف عضو من العاملين في قطاع المتاحف والمتخصصين في التراث من نحو 139 دولة، ويُعنى بوضع المعايير المهنية والأخلاقية للمتاحف، وتقديم الدعم والتوجيه في مجالات الإدارة والحفاظ والتعليم والممارسات المتحفية.
المراجع
_ عبير بسيوني، 3/9/2025،تفعيل دبلوماسية المتاحف، موقع الاهرام.
_ محمد عز العرب، 20/9/2025، المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة.
