إستراتيجيات تكيف المنظمات الإنسانية مع تقليص المساعدات الأمريكية
فرع بنغازي

تواجه المنظمات الإنسانية العاملة في مناطق الصراعات، تحديات متزايدة،تتصدرها سياسات تقليص المساعدات التي تتبناها بعض الدول الكبرى، وفى مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية.

وهذه السياسات، التى تتخذ أشكالاً متعددة، بدءاً من خفض التمويل المباشر وصولاً إلى فرض قيود على وصول المساعدات، تترك آثاراً وخيمة على السكان المدنيين الذين يعانون بالفعل من تداعيات الحروب والصراعات.

وكانت الولايات المتحدة، قبل تقليص المساعدات، تُموِّل بمفردها نحو 40٪ من المساعدات الإنسانية العالمية بقيمةنحو 14 مليار دولار عام 2024، وبفارق كبير عن ثانى أكبرالمساهمات البالغة 8٪ (2.7 مليار دولارالتى قدمتها ألمانياواللافت أن هذا التوجه الأمريكى يأتى نتيجة عوامل متعددة،منها تغير الأولويات الاستراتيجية لإدارة الرئيس دونالد ترامب، وربما تراجع ثقتها فى فاعلية بعض برامج المساعدات. ويطرح هذا التحول تحديات كبيرة أمام المنظمات الإنسانية، التى اضطرت إلى إعادة هيكلة عملياتها، واعتماد استراتيجيات بديلة لضمان استمرار تقديم خدماتها الأساسية. وتزداد حدة هذه التحديات فى مناطق تشهد أزمات إنسانية فى الإقليم، مثل فلسطين ولبنان واليمن والصومال وسوريا والعراق، حيث يعتمد الملايين بشكل كبير على الدعم الإنسانى الخارجى.

تداعيات مؤثرة:

مع اتجاه السياسة الأمريكية فى ظل إدارة ترامب إلى تقليص مساعداتها الخارجية، تجد المنظمات الإنسانية ولا سيّما العاملة فى مناطق الصراعات نفسها أمام تداعيات تؤثر بشكل كبير فى عملياتها فى هذه المناطق. ومن أبرز هذه التداعيات ما يلى:

 

1 نقص التمويل وتقليص نطاق العمليات الإنسانيةيُعدالتمويل الأمريكى مصدراً مهماً للعديد من البرامج الإنسانيةالتى تنفذها المنظمات الدولية والمحليةوعندما يتم خفضهذا التمويل أو تعليقه، تجد المنظمات نفسها أمام فجوةتمويلية كبيرة، تعوق قدرتها على توفير الغذاء والمياه النظيفة والمأوى والرعاية الصحية وغيرها من الخدمات الأساسية الأخرى للمحتاجين؛ ومن ثم سوف يضطر العديد من المنظمات إلى تقليص نطاق عملياته الإنسانية؛ مما يعنى الوصول إلى عدد أقل من المستفيدين، وتلبية جزء محدود فقط من الاحتياجات الهائلة. وقد يتضمن ذلك إغلاق بعض المراكز الصحية أو التعليمية، أو تقليل حجم المساعدات الغذائية المقدمة، أو تأخير تنفيذ مشاريع حيوية.

2 تراجع الخدمات الأساسيةيعتمد العديد من المنظماتالدولية، مثل برنامج الأغذية العالمى ومنظمة الصحة العالمية،بشكل كبير على التمويل الأمريكى لتغطية النفقات فى مناطق الصراع؛ لذا سيؤدى تقليص هذا التمويل إلى زيادة الضغط على الموارد المتاحة من مصادر التمويل الأخرى، سواء أكانت حكومية أم خاصة. وهذا الضغط المتزايد قد يؤدى إلى استنزاف هذه الموارد بسرعة وعدم كفايتها لتلبية الاحتياجات المتزايدة. فعلى سبيل المثال، أدى تقليص المساعدات الأمريكية فى اليمن إلى تعطيل برامج التغذية المخصصة للأطفال الذين يعانون من سوء التغذية الحاد. كما تأثرت برامج الرعاية الصحية فى سوريا، واضطرت بعض المستشفيات الميدانية إلى تقليل ساعات عملها، أو إغلاق أقسام كاملة بسبب نقص التمويل.

3 التأثير فى الفئات الأكثر ضعفاًفى المناطق التى تعانىمن حروب طويلة الأمد؛ يؤدى خفض التمويل إلى تفاقمالأزمات الإنسانية، حيث يقل عدد المستفيدين من برامج الإغاثة، وتتراجع جودة الخدمات المقدمة. بل غالباً ما يكون لتقليص المساعدات تأثير مضاعف فى الفئات الأكثر ضعفاً، مثل اللاجئين والنازحين داخلياً، والأطفال والنساء وكبار السن والأشخاص ذوى الاحتياجات الخاصة، الذين يعتمدون بشكل كبير على المساعدات الإنسانية للبقاء على قيد الحياة. هذا فضلاً عن أن خفض المساعدات قد يزيد من معدلات النزوح والهجرة غير النظامية؛ حيث يضطر السكان إلى البحث عن سبل عيش أخرى خارج مناطقهم الأصلية.

حالات عربية:

على الرغم من أن إدارة الرئيس ترامب، بحسب وكالة «رويترز» فى 9 إبريل الماضي، قد تحركت لاستئناف ما لا يقل عن ستة برامج للمساعدات الخارجية، هى أنشطة برنامج الأغذية العالمى فى لبنان وسوريا والأردن والعراق والصومال إضافة إلى الإكوادور؛ فإن تقليص المساعدات الأمريكية أثر بشكل كبير فى عدد من الدول العربية، ومنها الآتى:

1فلسطينأدى الحصار الصهيوني المستمر على قطاع غزة إلى تفاقم الأزمة الإنسانية، حيث يعانى السكان من نقص حاد فى الغذاء والمياه والرعاية الصحية. كما أن توقف الدعم الأمريكى لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «أونروا»؛ أسفر عن تقليص فى برامج التعليم والخدمات الصحية، المُقدمة لأكثر من خمسة ملايين لاجئ فلسطينى.

2لبنانأدى توقف التمويل الأمريكى إلى تقليص برامجمنظمة «اليونيسف»؛ مما زاد من حدة أزمة الغذاء، خاصةًبين الأطفال، حيث يعانى أكثر من نصف الأطفال دون سنالثانية فى شرق لبنان من انعدام الأمن الغذائى الحاد. كما تأثرت وزارتا الداخلية والتعليم بشكل مباشر، حيث كانت تعتمد على تمويل «الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية» (USAID) لدفع رواتب الموظفين ومتابعة تنفيذ المشاريع التعليمية.

3 اليمنيعيش السكان فى أسوأ أزمة إنسانية بسببتداعيات الانقلاب الحوثى، وبالطبع أدى خفض المساعدات إلى تفاقم هذا الوضع الإنسانى، مع انهيار العملة المحلية، وارتفاع الأسعار، وانتشار الأوبئة، وتدهور أنظمة الصحة والتعليم.

4الصومالأدى تراجع التمويل الإنسانى إلى تقليصبرامج الحماية؛ مما زاد من مخاطر العنف القائم على النوعالاجتماعى، وعمالة الأطفال، وانخفاض الوصول إلى التعليم.

5 سورياتقلصت برامج الغذاء والصحة والمأوى؛ مما أثرفى ملايين الأشخاص ممن هم بحاجة إلى المساعدةفقدخفض برنامج الأغذية العالمى عدد المستفيدين؛ وهو ما زادمن تفاقم أزمة الأمن الغذائى، خلال الأشهر الماضية.

6- العراق: أدى تقليص المساعدات الإنسانية إلى توقف مشاريع حيوية فى مجالات الغذاء والمياه النظيفة والرعاية الصحية، وهذا الوضع قد يهدد بعودة التنظيمات الإرهابية والمتطرفة؛ ومن ثم عدم الاستقرار فى البلاد.

محاولات التكيف:

فى ظل التحديات المتزايدة الناجمة عن خفض المساعدات الأمريكية، تتبنى المنظمات الإنسانية مجموعة متنوعة من الإستراتيجيات للتكيف وضمان استمرار عملها قدر الإمكان، ومن أهمها ما يلي:

1 البحث عن مصادر تمويل بديلةلم يعُد الاعتماد علىمصدر تمويل واحد خياراً مستداماً، فالمنظمات العاملة فىالمجال الإنسانى تسعى بشكل متزايد إلى تنويع مصادرتمويلها وتوسيع قاعدة الجهات المانحة، لتقليل اعتمادها علىمصدر واحد، مثل الولايات المتحدةويشمل ذلك البحث عن تمويل من حكومات أخرى، ومنظمات دولية، وقطاع خاص، وأفراد؛ ومن ثم اتجهت بعض المنظمات إلى الاتحاد الأوروبى، ودول الخليج والدول الإسكندنافية التى تحافظ على مستويات عالية من المساعدات الإنسانية. كما لجأت منظمات أخرى إلى التعاون مع القطاع الخاص عبر شراكات مع مؤسسات تجارية تهتم بالمسؤولية الاجتماعية، فضلاً عن الاستفادة من آليات التمويل المشتركة، التى تديرها الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية.

2 تنويع الشراكات وتعزيز الابتكارتعمل المنظماتالإنسانية على تنويع شراكاتها مع المنظمات المحليةوالإقليمية، التى غالباً ما يكون لديها فهم أعمق للسياق المحلى وقدرة أكبر على الوصول إلى الفئات المتضررة. وبدلاً من الاعتماد على التمويل الخارجى فقط، بدأت بعض المنظمات فى تعزيز شراكاتها مع جهات محلية، مثل الجمعيات الخيرية والحكومات المحلية فى الدول المُتضررة. أضف إلى ذلك، أن المنظمات فى محاولتها التكيف مع تقليص المساعدات، تسعى إلى زيادة كفاءة عملياتها من خلال تبنى تقنيات جديدة وأساليب مبتكرة، لتقديم المساعدات بشكل أكثر فعالية وبتكلفة أقل. ويشمل ذلك، استخدام التحويلات النقدية بدلاً من المساعدات العينية، والاستفادة من التكنولوجيا الرقمية والخرائط التفاعلية وأنظمة الإنذار المبكر والذكاء الاصطناعى فى تتبع الاحتياجات وتوزيع المساعدات.

3 تقييم الأولويات وتحديد الاحتياجاتفى ظل شحالموارد، اضطرت المنظمات إلى مراجعة أولوياتها وتبنىسياسات تقشفية، وتحديد الاحتياجات الأكثر إلحاحاً التى يجب تلبيتها أولاً، لضمان استمرار تقديم الخدمات الأساسية. وقد شمل ذلك مساعدة الفئات الأكثر تضرراً مثل الأطفال والنساء وكبار السن والأشخاص ذوى الاحتياجات الخاصة، مع تقليل النفقات الإدارية، ودمج البرامج المتشابهة، وتدريب الكوادر المحلية لتقليل الاعتماد على الخبراء الأجانب الذين تتطلب استضافتهم تكاليف مالية باهظة.

تحديات مستقبلية:

لعل استمرار سياسة تقليص المساعدات الأمريكية فى مناطق الصراعات، ينطوى على مجموعة من التحديات المستقبلية التى قد تشكل عقبات أمام عمل المنظمات الإنسانية، وقدرتها على الاستجابة الفعالة للأزمات. ومن ضمن هذه التحديات، تفاقُم الفجوة التمويلية، حيث يُرجح أن يظل نقص التمويل تحدياً هيكلياً يواجه القطاع الإنسانى؛ إذا استمرت واشنطن فى خفض مساهماتها، ولم تتمكن مصادر التمويل البديلة من تعويض هذا النقص بشكل كامل، وستواجه حينها المنظمات صعوبات متزايدة فى تمويل برامجها الأساسية. وقد يؤدى ذلك إلى اضطرار المزيد من المنظمات لتقليل عدد المستفيدين، وإغلاق برامج حيوية بشكل كامل، ناهيك عن صعوبة توفير استجابة سريعة وفعالة للأزمات الإنسانية المفاجئة مثل موجات النزوح الجديدة أو الكوارث الطبيعية التى تزيد من الاحتياجات. أيضاً، إذا لم تتمكن مصادر التمويل البديلة من تعويض نقص المساعدات الأمريكية؛ فقد يؤدى ذلك إلى اشتداد المنافسة بين المنظمات الإنسانية للحصول على التمويل المُتاح من الجهات المانحة الأخرى، وبما قد يستنزف قدرات هذه الجهات ويحول دون استمرارها فى تقديم نفس المستوى من الدعم على المدى الطويل.

ختاماً، تواجه المنظمات الإنسانية تحديات كبيرة فى التعامل مع أزمة تقليص المساعدات الأمريكية ولا سيّما فى مناطق الصراعات. ومن المُرجح أن تستمر التداعيات السلبية الناجمة عن تقليص هذه المساعدات فى التأثير فى قدرة المنظمات على الاستجابة الفعالة للاحتياجات المتزايدة فى العديد من دول المنطقة التى تعانى من حروب وعدم استقرار داخلى؛ ومن ثم التسبب فى موجة من الأزمات المركبة، تمتد من حياة الأفراد إلى البنية المؤسسية والاجتماعية فى هذه الدول.

 

المراجع

_حسين معلوم، 30/5/2025، استراتيجيات تكيف المنظمات الإنسانية مع تقليص المساعدات الأمريكية، موقع المصري اليوم.

_ عبدالله جمال، 3/6/2025، استراتيجيات تكيف المنظمات الإنسانية مع تقليص المساعدات الأمريكية، مركز المستقبل.

المقالات الأخيرة