تايوان تجدد الأزمة بين الصين واليابان
فرع القاهرة

أدلت رئيسة الوزراء اليابانية ساناي تاكايتشي مؤخرًا بتصريحات في البرلمان بشأن قضية تايوان، إذ أشارت إلى أن طوكيو قد تتدخل عسكريًا في أي هجوم صيني مفترض على تايوان التي احتلتها اليابان لعقود حتى هزيمتها عام 1945 في الحرب العالمية الثانية، رافضةً التراجع عن تصريحاتها بدعوى أنها تتماشى مع مواقف الحكومات السابقة. بينما دعت تايوانُ بكين إلى ضبط النفس، والتصرف كقوة عظمى، وتجنب إثارة المشاكل في منطقة آسيا والمحيط الهادئ ليأتي الرد الصيني سريعًا وقويًا ويتضمن عدة إجراءات حازمة.

ففي غضون ذلك، صرحت بكين بأن رئيس الوزراء الصيني لي تشيانغ لا يخطط للقاء تاكايتشي في قمة مجموعة العشرين في جنوب أفريقيا في وقت لاحق من هذا الأسبوع، والتي من المقرر أن يحضرها كلاهما. وفي خروج عن العرف الدبلوماسي المعروف عن الصين بالتريث والحذر في الرد على أي أزمات سياسية مع العالم، ظهرت تقارير موثوقة تفيد بأن القنصل العام الصيني في أوساكا، شيوي جيان، نشر في 8 نوفمبر 2025 على منصة إكس منشورًا اقتبس فيه خبرًا حول تصريحات رئيسة الوزراء اليابانية ساناي تاكايتشي، وأضاف تعليقًا شديد اللهجة: “ليس لدينا خيار سوى قطع تلك الرقبة القذرة التي تقدمت نحونا دون تردد. فهل أنتم مستعدون؟”

ووفقًا لوسائل الإعلام اليابانية، أعيد حذف المنشور بعد ذلك وقد أثار هذا التصريح استنكارًا واسعًا في اليابان. ففي البرلمان الياباني طالب بعض النواب بأن يُعلن شيوي جيان شخصًا غير مرغوب فيه، وطالبوا بطرده، معتبرين كلماته تجاوزًا فاضحًا للحدود الدبلوماسية. ومن جهة بكين، دافع المتحدث باسم وزارة الخارجية عن شيوي، قائلاً: “إن منشوره كان ردًّا شخصيًا على ما وصفه بتصريحات خاطئة وخطيرة من تاكايتشي”، لكنه رفض تقديم اعتذار رسمي.

وعلى الصعيد العسكري، تحركت بكين سريعًا بإدخال سفن عسكرية صينية إلى المياه الإقليمية اليابانية المتنازع عليها صباح الأحد، ومرّت بالقرب من جزر سينكاكو. وقد أكد الجانب الياباني وجود أربع سفن مسلحة على الأقل تابعة لخفر السواحل الصيني. وردت طوكيو في اليوم التالي بإرسال طائراتها بعد رصد طائرة مسيرة صينية مشتبه بها قرب جزيرة يوناجوني الجنوبية، القريبة من تايوان.

وعلى المستوى الاقتصادي، أصدرت بكين تحذيرًا من السفر لمواطنيها خلال عطلة نهاية الأسبوع خوفًا من المخاطر الأمنية، وحذرت حوالي 100 ألف طالب صيني في البلاد من وجود مخاطر مزعومة على سلامتهم. فأسرعت اليابان بإرسال مبعوثًا رفيع المستوى لمحاولة تهدئة التوترات المتصاعدة مع الصين بعد أن انخفضت أسهم السياحة والتجزئة اليابانية بعد أن حثت الصين مواطنيها على تجنب الوجهات السياحية الرائجة في جارتها. ولكن لم يكن هناك إعلان عن أي تقدم كبير لتخفيف حدة التوترات الثنائية.

اليابان وسياسة الواقعية الهجومية الجديدة

في ضوء التحولات السياسية التي شهدتها اليابان بين عامي 2024 و2025، برز صعود ساناي تاكايتشي إلى رئاسة الوزراء بوصفه نقطة انعطاف مفصلية دفعت بالسياسة اليابانية نحو مزيد من التشدد القومي والأمني، إذ تقود حكومة ائتلافية ضعيفة فرضتها خسارة الحزب الديمقراطي الليبرالي لأغلبيته واضطراره للتحالف مع حزب الابتكار الياباني، الأمر الذي مهّد لبلورة أجندة سياسية واقتصادية جديدة تُعرف بـ ساكاينوميكس، والتي تقوم على توسيع الإنفاق المالي وتعزيز السياسة النقدية المتساهلة بالتوازي مع مضاعفة الإنفاق الدفاعي والسعي لتعديل الدستور. وقد أسهمت هذه التحولات في تفاقم التوتر مع الصين، حيث بلغت العلاقات الصينية–اليابانية أخطر مستوياتها منذ عام 1972، خاصة بعد التصريح الحاد الذي أدلت به تاكايتشي أمام البرلمان باعتبار أي غزو صيني لتايوان تهديدًا وجوديًا لليابان، بما يفتح الباب أمام تفعيل حق الدفاع الذاتي الجماعي، وتعزيز القومية اليابانية.

وتمثل تصريحاتها والأيديولوجيات التي تتبناها توضيحًا لمبدأ الردع أكثر من كونها تغييرًا استراتيجيًا جذريًا. حيث يعكس هذا المشهد انتقال اليابان من السلمية الدستورية نحو واقعية هجومية تعيد تعريف موقعها الإقليمي، وتضعها في معادلة حساسة تتقاطع فيها معضلة تايوان مع التوازن الصعب بين متطلبات الأمن القومي وارتباطاتها الاقتصادية العميقة مع الصين. ومع ذلك، فإن هذه الأيديولوجيات محفوفة بالمخاطر الجيوسياسية، كما تقوم على تحالفات سياسية هشة.

فهذه النزعة القومية التي يتبناها النظام السياسي في اليابان قد يكون لها عواقب وخيمة على التعاون التجاري بين البلدين، حيث يرتبط أكبر اقتصادين في آسيا ارتباطًا وثيقًا. فالصين أكبر مصدر للسياح إلى اليابان، حيث زار حوالي 7.5 ملايين صيني اليابان في الأشهر التسعة الأولى من عام 2025. وبسبب انخفاض قيمة الين الذي جعل التسوق أرخص، أنفق السياح الصينيون أكثر من مليار دولار شهريًا في الربع الثالث، وهو ما يمثل ما يقرب من 30% من إجمالي إنفاقهم السياحي. كما احتلت اليابان المرتبة الرابعة بين أكثر الوجهات شعبية للسياح الصينيين العام الماضي، مما ساهم في تحقيق مناطق مثل جبل فوجي، حيث السوشي والغييشا، أرقامًا قياسية جديدة في أعداد الوافدين.

ومع تصاعد هذه التوترات، خسر المستثمرون 9% من القيمة السوقية لشركة مستحضرات التجميل اليابانية شيسيدو يوم الاثنين. كما انخفضت أسهم مجموعة متاجر ميتسوكوشي بنسبة 11.3%، وانخفضت أسهم “بان باسيفيك”، التابعة لسلسلة المتاجر المخفضة والجاذبة للسياحة “دون كيشوت”، بنسبة 5.3%. ناهيك عن المخاوف في اليابان من أن الصين قد تُلحق المزيد من الضرر الاقتصادي باستغلال هيمنتها على سلاسل توريد المعادن النادرة وغيرها من المعادن الأساسية، الضرورية لصناعتي الإلكترونيات والسيارات في اليابان. وأخيرًا، تأثرت صناعة السينما اليابانية، فقد تم تعليق عرض فيلمين كان من المقرر عرضهما في الصين.

وعلى جانب آخر، حثت اليابان يوم الثلاثاء مواطنيها في الصين على اتخاذ الاحتياطات اللازمة، بما في ذلك تجنب الحشود ومراقبة الأشخاص المشتبه بهم.

الصين والاستراتيجية المتعددة المستويات

اعتبرت الصين تصريحات تاكايتشي تدخلًا مباشرًا وغير مقبول في الشؤون الداخلية الصينية، باعتبار تايوان جزءًا لا يتجزأ من الأراضي الصينية، واعتبرت ذلك انتهاكًا لسيادتها ومساسًا بمصالحها الحيوية.

ومن المنظور التاريخي، يعكس الخطاب السياسي لتاكايتشي مع تصريحاتها الأخيرة حول تايوان تصاعد نزعة يمينية محافظة تعيد إحياء مفاهيم تاريخية مرتبطة بـ أزمة البقاء التي استخدمتها اليابان في ثلاثينيات القرن الماضي لتبرير التوسع العسكري، إذ تُعد أول زعيمة تربط صراحةً بين أزمة في تايوان وأزمة بقاء لليابان، بما يفتح الباب أمام تفعيل الدفاع الجماعي عن النفس وفق قوانين الأمن لعام 2015، والتي ظلت الحكومات السابقة تتعامل معها بقدر كبير من الغموض.

وتنبع هذه المقاربة من خلفية تاكايتشي الفكرية داخل اليمين المحافظ المتشدد، ومن علاقتها العميقة بالمراجعة التاريخية ومن الجدير بالذكر أنها تبنت خطابات كثيرة قبل صعودها للسلطة تدافع عن سرديات تُبرّئ الغزو الياباني للصين. كما زارت ضريح ياسوكوني، وروّجت لسياسات تعليمية تُعيد إنتاج قيم عسكرية في مساعيها لإحياء التربية الإمبراطورية، في حين وظّفت الشعبوية لتقوية قاعدة سياسية هشة في ظل حكومة أقلية تعتمد على تحالف محافظ مع حزب الابتكار الياباني.

وتثير هذه النزعة، التي يصفها باحثون صينيون بأنها موجة جديدة من العسكرة، قلقًا واسعًا داخل الأوساط الأكاديمية الصينية والآسيوية أيضًا، ولا سيما مع دفعها الحثيث نحو تعزيز قدرات هجوم العدو، وزيادة الإنفاق الدفاعي إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2025، وتسريع مراجعة وثائق الأمن الثلاث لتوفير أساس قانوني لتوسع عسكري أكبر يشمل صواريخ بعيدة المدى وتطوير غواصات تعمل بالطاقة النووية.

وفي الوقت الذي تواجه فيه اليابان اليوم تحديات داخلية عميقة تشمل ارتفاع الأسعار واتساع فجوة الثراء وتزايد الغضب من الفساد السياسي، يركز الخط المتشدد لتاكايتشي على التعديل الدستوري والتوسع العسكري بدل معالجة هذه الأزمات البنيوية، ما قد يدفع البلاد نحو مسار محفوف بالمخاطر ويعرض الاستقرار الإقليمي للاهتزاز، خصوصًا مع تزايد التوتر حول مضيق تايوان.

وفي ضوء ذلك، يحذر محللون من أن استمرار هذا النهج سيضع اليابان أمام خيار استراتيجي حاسم بين تعزيز التعاون الإقليمي وتحقيق تنمية مستقرة، أو العودة إلى سياسات قديمة ترتبط بالعسكرة والمواجهة، وهي سياسات أثبت التاريخ أنها قادت اليابان إلى نتائج مدمرة لا ترغب المنطقة في تكرارها.

وفي هذا السياق، جاء الرد الصيني بمثابة تصعيد استراتيجي محسوب يتجاوز كونه احتجاجًا دبلوماسيًا عاديًا، إذ يمكن اعتباره مبالغة مدروسة تهدف إلى توظيف الأزمة لتعزيز السردية القومية الداخلية في الصين، ورسم خطوط حمراء مبكرة لحكومة تاكايتشي اليمينية عبر الضغط الاقتصادي والتحشيد الشعبي وإشارات ضمنية لما يشبه الحرب الهجينة.

والأهم أن رد بكين على تصريحات ساناي تاكايتشي حول تايوان يأتي في إطار استراتيجية متعددة المستويات تقوم على حسابات ردعية وجيوسياسية واقتصادية داخلية، إذ سعت الصين أولًا إلى ردع اليابان مبكرًا ومنع حكومة تاكايتشي اليمينية من تحويل مفهوم تهديد البقاء إلى أساس قانوني لتدخل عسكري محتمل في مضيق تايوان، وذلك من خلال رسم خطوط حمراء واضحة تعيد ضبط حدود الدور الأمني الياباني. كما جاء الرد جزءًا من استراتيجية لاحتواء التحالفات الرامية إلى إضعاف تعمق المحور الأمني الأميركي–الياباني ومنع تشكل تكتل إقليمي أوسع يشمل كوريا الجنوبية وأستراليا يمكن أن يحد من صعود الصين.

وبالتوازي، استخدمت بكين خطابها المتشدد ضمن أداة ضغط اقتصادي مدروس يستهدف الشريان التجاري والسياحي الياباني بهدف خلق ضغوط داخلية على حكومة تاكايتشي من مجتمع الأعمال، دون الإضرار بالمصالح الصينية. وأخيرًا، كان للرد بعدٌ دعائي داخلي يهدف إلى تعزيز القومية الصينية ودور الحزب الشيوعي عبر استدعاء الذاكرة التاريخية وتقديم الصين كحامية للهوية والسيادة في مواجهة عسكرة اليابان.

وبهذا، لم يكن رد بكين مجرد موقف دبلوماسي، بل جزءًا من استراتيجية شاملة لإعادة ضبط قواعد اللعبة الإقليمية وتثبيت خطوط ردع صارمة في شرق آسيا.

 

المصدر: مركز رع للدراسات الاستراتيجية

الكاتب : د. هند المحلى

التاريخ : 18/11/2025

----------------------------------------------------------------------------------------

المصدر: CNN الاقتصادية

التاريخ : 17/11/2025


المقالات الأخيرة