تواجه ليبيا طيفًا واسعًا من التحدّيات البيئية، أبرزها شحّ المياه الجوفية المستنزَفة، واتساع رقعة التصحّر وتدهور الأراضي، وضعف منظومات إدارة النفايات، واشتداد آثار تغيّر المناخ (سيول وفيضانات، موجات جفاف وعواصف غبارية). تُفاقم محدودية البيانات البيئية وضعف الحوكمة والتنسيق المؤسسي من حدّة هذه المخاطر. يقدّم هذا المقال قراءة تحليلية موسعة مدعومة بمراجع عربية، ويقترح حزمة سياسات عملية لتعزيز الصمود البيئي في ليبيا من خلال إصلاحات تشريعية ومؤسسية واستثمارية متكاملة.
ليبيا، ندرة المياه، التصحّر، تغيّر المناخ، النفايات الصلبة، الحوكمة البيئية.
تملك ليبيا بيئة صحراوية قاسية يغلب عليها الجفاف، إذ تشكل الصحراء أكثر من 90% من مساحتها الإجمالية. ويعتمد الاقتصاد الوطني والمجتمع على موارد محدودة من المياه الجوفية الأحفورية، خاصة من منظومة النهر الصناعي العظيم التي أنشئت في ثمانينيات القرن الماضي لتلبية احتياجات المدن الساحلية والزراعية. ومع تزايد الضغوط الديموغرافية والمناخية، برزت التحديات البيئية كأحد أخطر مهددات الأمن المائي والغذائي والاجتماعي. توضح الكوارث المناخية الأخيرة مثل فيضانات درنة عام 2023 هشاشة البنية التحتية البيئية في البلاد، وتعكس ضرورة تبنّي مقاربة شاملة ترتكز على الإدارة المتكاملة للموارد الطبيعية والحد من المخاطر.
2. منهجية الدراسة
اعتمد المقال على المنهج التحليلي الوصفي من خلال مراجعة تقارير مؤسسية عربية وليبية حديثة (2022–2025)، إضافة إلى تحليل محتوى الدراسات البيئية المنشورة في المجلات العلمية العربية حول ليبيا. ركزت الدراسة على أربعة محاور أساسية: المياه، التصحّر، تغيّر المناخ، والنفايات، إلى جانب مراجعة ثانوية للتلوث الساحلي وفقدان التنوع الحيوي. كما جرى الاستئناس ببيانات وزارة البيئة الليبية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي حول مؤشرات التدهور البيئي.
3. التحدّيات البيئية الرئيسة
3.1 ندرة المياه واستدامة الخزانات الجوفية:
تواجه ليبيا أزمة مائية متفاقمة نتيجة الإفراط في استهلاك المياه الجوفية وغياب نظم إدارة فعالة للطلب. تؤكد الدراسات أن الاعتماد على المياه الأحفورية غير المتجددة يهدد التوازن البيئي في المدى البعيد، إذ إن معدل التغذية الطبيعية للطبقات الجوفية أقل من 3% من حجم السحب السنوي. ويستدعي الأمر تطبيق سياسات صارمة لترشيد الاستهلاك وتوسيع إعادة استخدام مياه الصرف المعالجة.
3.2 التصحّر وتدهور الأراضي:
يشمل أكثر من 95% من مساحة ليبيا مناطق صحراوية أو شبه صحراوية، مع زحف الرمال نحو الأراضي الزراعية وتراجع الغطاء النباتي في الجبل الأخضر وسهل الجفارة. يؤدي هذا إلى خسائر اقتصادية وزراعية كبيرة ويزيد من هشاشة الأمن الغذائي. برامج استعادة النُّظم البيئية مثل التشجير ومكافحة الرعي الجائر ضرورية لاستدامة التربة والمياه.
3.3 تغيّر المناخ والمخاطر المتطرفة:
أصبحت ليبيا أكثر عرضة لظواهر الطقس المتطرفة من فيضانات وجفاف متكرر وعواصف ترابية كثيفة. أثبتت فيضانات 2023 أنّ ضعف البنية التحتية الحضرية وغياب نظم الإنذار المبكر ساهم في تفاقم الخسائر البشرية والمادية. ينبغي تحديث خرائط الأخطار المناخية وتطبيق معايير جديدة للبناء في أحواض الأودية.
3.4 إدارة النفايات الصلبة:
تُعد إدارة النفايات من أكبر التحديات الحضرية، إذ لا تتجاوز نسبة الجمع المنتظم 40% في بعض المدن. الحرق العشوائي للنفايات يسبب تلوثاً هوائياً ومائياً ويؤثر على الصحة العامة. الحلول تتطلب تعزيز قدرات البلديات وتفعيل شراكات القطاع الخاص.
3.5 التلوث الساحلي وفقدان التنوع الحيوي:
يمتد الساحل الليبي على أكثر من 1900 كم، ومع غياب الرقابة على التصريف الصناعي والبلدي، ارتفعت نسب التلوث في الموانئ ومصايد الأسماك. كما تعاني مناطق الجبل الأخضر وفزان من فقدان متسارع للأنواع النباتية والحيوانية النادرة نتيجة الجفاف والصيد الجائر.
4. فجوات الحوكمة والبيانات
تُظهر المراجعة أن التشتت المؤسسي وضعف التنسيق بين الجهات المسؤولة عن البيئة والمياه والبلديات يؤديان إلى ضعف في فعالية السياسات البيئية. فغياب قاعدة بيانات موحدة يجعل من الصعب على صناع القرار تحديد أولويات الاستثمار ومعالجة الأزمات بشكل استباقي. كما أن المركزية المفرطة في صنع القرار تعيق المبادرات المحلية، في حين أن غياب التمويل المستدام للمشروعات البيئية يزيد من هشاشة الأداء العام. تُعدّ البيانات البيئية المفتوحة والمتكاملة الركيزة الأساسية لتطوير حوكمة بيئية ذكية قائمة على الأدلة.
5. الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية للتدهور البيئي
لا تقتصر آثار التدهور البيئي في ليبيا على الجانب الطبيعي فحسب، بل تمتد لتشمل الاقتصاد والمجتمع. إذ تؤدي ندرة المياه والتصحّر إلى تراجع الإنتاج الزراعي وزيادة البطالة الريفية، ما يدفع السكان نحو الهجرة إلى المدن الكبرى. كما أن التلوث والنفايات يرفعان من معدلات الأمراض التنفسية والجلدية، ويزيدان من كلفة الرعاية الصحية. ويُسهم التدهور البيئي في تعميق الفقر وتآكل رأس المال الاجتماعي، ما يتطلب سياسات دمج بيئية في الخطط التنموية الوطنية لتعزيز العدالة البيئية والاجتماعية.
6. توصيات سياساتية عملية
قصيرة المدى (1–3 سنوات):
- إطلاق برامج توعية وطنية لترشيد المياه.
- صيانة عاجلة للسدود ومنشآت الصرف.
- تحسين منظومات جمع النفايات وتخصيص موارد للبلديات.
متوسطة المدى (3–6 سنوات):
- إنشاء مرصد بيئي وطني لتجميع وتحليل البيانات.
- تطوير مشاريع إعادة التدوير والصناعات الخضراء.
- تدريب الكوادر الفنية على إدارة الموارد البيئية الحديثة.
طويلة المدى (6–10 سنوات):
- سنّ تشريعات متكاملة للحوكمة البيئية المستدامة.
- إدماج التعليم البيئي في المناهج الدراسية.
- تعزيز التعاون الإقليمي مع تونس ومصر وتشاد في مراقبة الموارد المشتركة.
. الخاتمة
تحتاج ليبيا إلى تبنّي رؤية بيئية وطنية ترتكز على مبادئ الإدارة المتكاملة للموارد الطبيعية، وتعزيز الحوكمة القائمة على البيانات، وإشراك المجتمع المحلي في التخطيط والتنفيذ. إن مواجهة التحديات البيئية لا يمكن أن تتحقق بمعزل عن الإصلاح المؤسسي والتمويل المستدام، بل من خلال شراكة وطنية شاملة بين الدولة والمجتمع والقطاع الخاص. إن تطبيق السياسات المقترحة سيُسهم في رفع كفاءة استغلال الموارد وتقوية قدرة ليبيا على الصمود أمام التغيرات المناخية بحلول عام 2035.
المراجع
1. وزارة البيئة الليبية. (2022). استعراض مشروع دراسة مراقبة التصحّر في ليبيا. وزارة البيئة – طرابلس.
2. برنامج الأمم المتحدة الإنمائي – ليبيا. (2024). أرضنا، مستقبلنا: مكافحة التصحّر في ليبيا واستعادة النُّظُم البيئية.
