الدبلوماسية الوقائية: استباق النزاعات من أجل السلام المستدام
فرع بنغازي

تُعدّ الدبلوماسية الوقائية أحد أهم أدوات حفظ السلام والأمن الدوليين في العصر الحديث. فبدلاً من انتظار تفاقم النزاعات حتى تصل إلى مراحل العنف المسلح، تسعى الدبلوماسية الوقائية إلى معالجة جذور الخلافات قبل أن تتصاعد، مما يُجنّب المجتمعات ويلات الحروب ويُقلّل من التكلفة البشرية والمادية الباهظة. إنها نهج استباقي يقوم على التحليل المبكر، والإنذار المبكّر، والتدخل المباشر لتخفيف التوترات وتسوية الخلافات سلمياً.

بدأت تباشير الديبلوماسية القديمة في القرن الثالث. اذ كان المبعوثون الديبلوماسيون في حضارات الشرق الاقصى يسافرون ناقلين الرسائل من حكامهم الى كبار الملوك. لم يكن هؤلاء يتمتعون بالحصانات والامتيازات الديبلوماسية التي نشأت لاحقا، (اتفاقيتا فيينا الديبلوماسية والقنصلية)، بل على العكس كانت مهماتهم محفوفة بالمخاطر ومن دون اية ضمانات بالحماية. كان هؤلاء عرضة للخطف والسجن وحتى الاغتيال. كانوا يخضعون في البلد الذي يحملون اليه الرسائل الى القواعد التي يخطها الحاكم الذي يقرر مدة بقائهم ومتى يغادرون، وحتى حرية حركتهم، وفي حقهم في العودة الى موطنهم. كان الديبلوماسيون في ذلك العصر، يواجهون فعليا ما يمكن تسميته عوائق لا يمكن التكهن بها في القيام بالمهمات الديبلوماسية التي كلفوا بها درءا لمخاطر محتملة.

 

في العودة الى النظام اليوناني القديم وبحسب كتاب “فهم الديبلوماسية الدولية”، تم التعرف على 3 انواع من الممثلين الديبلوماسيين:

 

 

– الرسل: يرسلون في مهمات محددة وقصيرة وذات خصوصية عالية.

 

– المبشرون: لديهم حصانة معينة لحمايتهم الشخصية.

 

– الوسطاء: يقودون الوساطات من بلدهم الام.

 

كان لدى الرومان مبعوثون ديبلوماسيون، وكذلك حرص الفراعنة المصريون على وجود علاقات مع البلدان المجاورة عبر المهمات الديبلوماسية.

 

شكلت الديبلوماسية اليونانية نموذجا متقدما في العصور القديمة، حيث وضعت قواعد لاحترام الحصانات الديبلوماسية، الاتفاقات والاحلاف التي تنشأ من التفاعل الديبلوماسي والمعايير العالية للنقاش العام. هذا ما اتاح للديبلوماسيين ان يكونوا أكثر فاعلية في اعمالهم. بالنسبة الى الاتفاقات، كان الديبلوماسيون اليونان يعملون وفق قواعد صارمة جدا، وكانت الاتفاقات تخضع لموافقات مجالس العموم. بلغ حد الشك في عمل الديبلوماسيين انه في العهد اليوناني كانت كل مهمة مؤلفة من عشرات الديبلوماسيين وقد يبلغ عدد السفراء عشرة في البعثة الواحدة. كان هذا الامر ايضا لصالح التعبير عن معظم اراء الشعب الذي تعبر عنه البعثة المرسلة من الدولة الى دولة اخرى، لكن غالبا ما كان ينعكس الامر على فاعلية عمل البعثة بسبب الاختلافات في الرأي بين اعضاء البعثة. كان اعضاء البعثة يقفون امام الملك او المجلس المرسلين اليه ويلقون خطبهم تماما كما يحصل حاليا في الاجتماعات الدولية الكبرى.

 

 

لعبت الاديان دورا في حل النزاعات في العصر القديم. فاليونانيون مثلا كانوا يعتمدون على الالهة مثل زوس الذي يكتب لهم ماهية القرارات والمبادئ، وبالتالي كان من الصعب جدا نقض المعاهدات والتحالفات، خصوصا انها قامت بالهام من الالهة. من القواعد المدنية التي وضعها اليونانيون اتفاقات عادلة للسجناء، عدم استخدام الاسلحة المسمومة، احترام الهدنات، منع الحروب في اثناء الاحتفالات الدينية او الرياضية، عدم التعرض للهياكل الدينية والسفارات. كذلك طور اليونانيون اول شكل للمنظمات الدولية، حيث اقيمت مهرجانات على غرار الالعاب الاولمبية وكانت نوعا من مد جسور العلاقات الدولية، اذ كانت تتم النقاشات في اثناء تلك الاحتفالات حول اتفاقات التعاون.

 

لعل الفرس من اوائل من اعتمدوا الديبلوماسية الاستباقية في تفاعلهم مع المدن – الدول اليونانية بين القرنين السادس والرابع قبل الميلاد. في الواقع كان الفرس – بحسب الكتاب المذكور- أكثر نجاحا في الديبلوماسية من الحروب ضد اليونان. كانوا يهدفون الى الحفاظ على توازن السلطة بين مدن الدول اليونانية عبر انشاء اتفاقات حيادية لكيلا تكون اية مدينة يونانية قوية في حال نشوب حرب بينهم وبين اليونانيين.

 

كان للرومان احترام خاص للمعاهدات الدولية التي كانت تستخدم لنشر السلام وبناء التحالفات وتقليص الانقسامات. قبل عام 264 تم عقد أكثر من 150 معاهدة، وهذا ما قوّى روما عسكريا.

 

 

بالنسبة الى الديبلوماسية الصينية، يقول الكتاب انه كان هناك تأثير كبير لكتاب “فن الحرب” الذي كتبه الخبير العسكري الصيني سون تزو عام 500 قبل المسيح، وارتكز على فكرة تقول ان النصر يجب تأمينه عبر دحر العدو من دون قتال، وذلك عبر اتباع طريقة تقييد حركة العدو وتحقيق النصر عبر الهجوم عليه معنويا وذهنيا من خلال تضليله والتلاعب به من خلال رؤيته لهيكلية الصراع. هذا ما أسبغعلى الديبلوماسية الصينية طابعا اقل عنفا، ورافق تاليا تاريخها.

مفاهيم ومبادئ أساسية

تقوم الدبلوماسية الوقائية على عدة مبادئ محورية:

 الإنذار المبكّر: يتطلب هذا المبدأ وجود آليات لجمع وتحليل المعلومات حول المؤشرات التي قد تُنذر باندلاع نزاع. تشمل هذه المؤشرات التوترات السياسية، الانقسامات العرقية أو الدينية، التدهور الاقتصادي، أو التهميش الاجتماعي.

التحليل الشامل: لا يكتفي هذا النهج بتحليل الأعراض الظاهرة للنزاع، بل يسعى إلى فهم الأسباب الجذرية الكامنة وراءه. قد تكون هذه الأسباب مرتبطة بقضايا الحكم، توزيع الموارد، حقوق الأقليات، أو النزاعات على الحدود. 

 التدخل في الوقت المناسب: إن فاعلية الدبلوماسية الوقائية تتوقف بشكل كبير على توقيت التدخل. يجب أن يكون التدخل قبل أن تتصلّب المواقف وتصبح الأطراف أقل استعداداً للتفاوض.

 السرية والمرونة: غالباً ما تتطلب جهود الوساطة السرية لضمان حرية التفاوض دون ضغوط إعلامية أو سياسية. كما يجب أن يكون الوسطاء مرنين في طرح الحلول وتكييفها مع الظروف المتغيرة.

أدوات وآليات الدبلوماسية الوقائية

تستخدم الدبلوماسية الوقائية مجموعة متنوعة من الأدوات التي تتكامل مع بعضها لتحقيق أهدافها:

 الوساطة والمفاوضات: تُعدّ الوساطة جوهر الدبلوماسية الوقائية، حيث يلعب طرف ثالث محايد دوراً في تقريب وجهات النظر بين الأطراف المتنازعة وتسهيل التوصل إلى حلول توافقية. قد تكون هذه الوساطة من قبل دول، منظمات إقليمية، أو شخصيات دولية ذات مصداقية.

 بعثات تقصي الحقائق: تُرسل هذه البعثات لجمع معلومات دقيقة وموضوعية حول الوضع على الأرض، مما يساعد في فهم طبيعة النزاع وأسبابه، وتقديم توصيات حول أفضل سبل التدخل.

 الدبلوماسية الهادئة (Quiet Diplomacy): تُستخدم هذه الأداة عندما يكون التدخل العلني غير ممكن أو قد يؤدي إلى نتائج عكسية. تعتمد على التواصل السري بين الأطراف المتنازعة والوسطاء لتجنب التصعيد.

 العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية: يمكن استخدامها كوسيلة للضغط على الأطراف التي ترفض التعاون أو تسعى إلى التصعيد، ولكن يجب استخدامها بحذر لتجنب إلحاق الضرر بالمدنيين.

 بناء القدرات: يشمل ذلك دعم المؤسسات الحكومية والمجتمع المدني في البلدان التي قد تكون عرضة للنزاعات، من خلال تعزيز سيادة القانون، ودعم الحكم الرشيد، وتوفير المساعدات الإنمائية.

أمثلة من الواقع وتحديات

لقد أثبتت الدبلوماسية الوقائية نجاحها في العديد من المواقف، مثل حل النزاع في مقدونيا الشمالية في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، حيث ساهم التدخل المبكّر للأمم المتحدة في منع انزلاق البلاد إلى حرب أهلية. كما لعبت المنظمات الإقليمية مثل الاتحاد الأفريقي دوراً هاماً في الوساطة بين الأطراف المتنازعة في العديد من البلدان الأفريقية.

ومع ذلك، تواجه الدبلوماسية الوقائية تحديات كبيرة، منها:

 صعوبة التنبؤ: من الصعب دائماً التنبؤ بدقة بموعد وكيفية اندلاع النزاعات.

السيادة الوطنية: قد تُعتبر بعض الدول أن التدخل الخارجي في شؤونها الداخلية هو انتهاك لسيادتها.

غياب الإرادة السياسية: في بعض الأحيان، تفتقر القوى الكبرى أو الدول الإقليمية إلى الإرادة السياسية اللازمة للتدخل المبكّر والفاعل.

الخلاصة

إن الدبلوماسية الوقائية ليست بديلاً عن أدوات حفظ السلام الأخرى، بل هي مكمّل أساسي لها. فبينما تُعالج عمليات حفظ السلام آثار النزاعات، تسعى الدبلوماسية الوقائية إلى معالجة أسبابها قبل وقوعها. إنها نهج يستند إلى الرؤية البعيدة المدى والإيمان بأن الوقاية خير من العلاج، وأن الاستثمار في السلام المستدام يُعدّ استثماراً في مستقبل الإنسانية.




المراجع

محمد السيد سليم، "الدبلوماسية الوقائية: مدخل لدراسة الأزمات الدولية"، مركز دراسات الوحدة العربية، 2005.

عبد المنعم المشاط، "الأمن القومي العربي وتحديات القرن الحادي والعشرين"، مكتبة مدبولي، 2003.

المقالات الأخيرة