بينما تتركز النقاشات العالمية على الجوانب الاقتصادية والتنظيمية للذكاء الاصطناعي، تظل البنية التحتية المادية لهذه التقنيات محاطة بالغموض، خاصة تلك الموجودة في البحار والمحيطات. ويظل هناك سؤال غائب عن معظم هذه النقاشات: ما موقع البحار والمحيطات في مشهد الذكاء الاصطناعي العالمي خاصة أن قدراً كبيراً من البنية التحتية المادية لهذه النظم تتركز فيها، متمثلة في مراكز البيانات الضخمة، وكيف يعيد التنافس الاستراتيجي بين الصين والولايات المتحدة تشكيل مشهد مراكز البيانات البحرية؟
في الواقع، تُخفي المحيطات تحتها عالماً موازياً من البنية التحتية التي تمكّن الذكاء الاصطناعي من العمل والنمو. فالثورة الرقمية التي نشهدها اليوم لا تطفو على "السحاب" كما توحي لنا عبارة "الحوسبة السحابية"، بل ترتكز على شبكة من البنية التحتية المادية السيبرانية التي تشتمل مراكز البيانات الضخمة ومحطات الطاقة والكابلات البحرية للإنترنت والاتصالات الفائقة التي تمتد لعشرات الآلاف من الكيلومترات تحت سطح البحر، والتي تمثل البنية التحتية المادية للإنترنت والتقنيات الذكية والداعمة بصورة أساسية لنظم الذكاء الاصطناعي.
وإذا كان أمن الكابلات البحرية محط نقاش كبير خلال السنوات الماضية، فإن هذا التحليل يهتم بمراكز البيانات البحرية باعتبارها البنية التحتية المادية "الطموحة" للذكاء الاصطناعي، فمع تصاعد حدة التنافس الاستراتيجي بين الصين والولايات المتحدة، أصبحت هذه المراكز ساحة معركة جيوسياسية وحيوية لتحقيق التفوق في الذكاء الاصطناعي؛ مما يستدعي تحليلاً معمقاً لدورها وتأثيرها في التوازن العالمي.
نمو متصاعد:
في ظل سباق عالمي محموم نحو تطوير قدرات الذكاء الاصطناعي، تتجه الأنظار إلى البحار والمحيطات باعتبارها ساحة جديدة للبنية التحتية الرقمية المتقدمة. فبينما اعتادت القوى الاقتصادية الكبرى على التنافس في مجالات البر والفضاء السيبراني، يبرز الفضاء البحري اليوم كعنصر استراتيجي يمكن أن يغير قواعد اللعبة، ولا سيما في مجال مراكز البيانات المخصصة لحوسبة الذكاء الاصطناعي.
1- عوامل الجذب: توفر البحار والمحيطات بيئة فريدة لمراكز البيانات، حيث يتيح غمر هذه المنشآت تحت الماء الاستفادة من الخصائص الطبيعية للتبريد التي توفرها مياه البحر؛ ما يحد من تكاليف الطاقة اللازمة لتشغيل أنظمة الحوسبة عالية الأداء. وتكتسب هذه الميزة أهمية خاصة في ظل احتياجات الذكاء الاصطناعي المتنامية لقوة حوسبية هائلة، والتي تولد بدورها حرارة ضخمة يصعب تبريدها بطرق تقليدية. كما أن قربها من مصادر الطاقة الكبرى، مثل محطات الرياح أو المحطات النووية التي تُشيَّد غالباً على السواحل؛ يسهّل تزويد هذه المراكز بالطاقة اللازمة لعملها المستمر.
على سبيل المثال، تقدم التجربة الصينية نموذجاً متقدماً؛ إذ تحتضن مياه جزيرة هاينان والمناطق القريبة من شنغهاي مشاريع رائدة لمراكز بيانات تحت الماء، تجمع بين تبريد الخوادم بمياه البحر والاستفادة من مصادر الطاقة المتجددة، مثل طاقة الرياح؛ بما يعزز كفاءة التشغيل والاستدامة البيئية في آن واحد.
ولا تقتصر الفوائد على جانب الطاقة فحسب، بل تمتد إلى مزايا بيئية وتشغيلية إضافية. فقد أثبتت التجارب، مثل مشروع هاينان، انخفاض معدلات أعطال الخوادم بفضل الاعتماد على بيئات مملوءة بالنيتروجين؛ وهي أقل تآكلاً مقارنة بالهواء الغني بالأكسجين على اليابسة. كما أن تقليل التدخل البشري المباشر يقلل من احتمالات التلف الميكانيكي للأجهزة.
يمثل هذا التوجه نحو استغلال المحيطات لمراكز البيانات نقلة نوعية في مسار التحول نحو بنية تحتية رقمية منخفضة الكربون؛ وهو ما قد يضع معايير عالمية جديدة للحوسبة المستدامة. وتكتسب هذه الخطوة بعداً استراتيجياً مهماً في ظل المنافسة العالمية المتزايدة على موارد المياه والطاقة، التي باتت تشكل ركيزة حيوية ليس فقط لاستمرارية التطور التكنولوجي، بل ولضمان بقاء الإنسان في بيئة عالمية تتسم بندرة الموارد وتغير المناخ، حيث لا تحتاج هذه المراكز إلى موارد المياه العذبة للتبريد؛ مما يمنحها ميزة بيئية واضحة مقارنة بالمراكز البرية التي قد تستهلك حتى 4,8 لتر من المياه لكل كيلوواط/ساعة.
ففي السنوات الأخيرة برزت مراكز البيانات تحت الماء كابتكار واعد لمواجهة تحديات الطاقة والمساحات في المراكز التقليدية، ورغم أنها ليست حلاً شاملاً بعد؛ فإن إمكاناتها في الاستدامة والكفاءة تجعلها خياراً استراتيجياً مع تزايد البيانات وتوسع استخدامات الذكاء الاصطناعي.
وقد بدأ الاهتمام بمراكز البيانات البحرية منذ عام 2015 مع إطلاق شركة مايكروسوفت مشروع "ناتيك" قبالة سواحل كاليفورنيا، حيث جرى اختبار أول وحدة مغمورة تضم 24خادماً. وقد شكّل هذا الاختبار نقطة انطلاق لتطوير مراحل أكثر تطوراً؛ إذ شهدت المرحلة الثانية بناء منشأة بحجم حاوية شحن تضم 12 رفاً بما يعادل 864 خادماً. وعلى خطى مايكروسوفت، قامت شركات أخرى مثل "بكين هايلاندر ديجيتال تكنولوجي" الصينية و"سابسي كلاود" الأمريكية بإجراء اختبارات مماثلة، بينما تثار نقاشات حول دخول شركات كبرى مثل "أمازون ويب سيرفيسز" و"جوجل" و"ميتا" إلى هذا المجال.
ومن الناحية التشغيلية، تُظهر مراكز البيانات تحت الماء مستويات عالية من الموثوقية والكفاءة. فعلى سبيل المثال، كان معدل كفاءة استخدام الطاقة (PUE) لمركز بيانات مايكروسوفت المغمور 1,07، مقارنة بمعدل 1,125 في المراكز البرية الحديثة. كما أن الانخفاض في درجات الحرارة التشغيلية تحت الماء، والذي وصل في إحدى التجارب إلى 10 درجات مئوية أقل من المتوسط البري؛ أسهم في تعزيز الأداء والاستقرار.
كما توفر هذه المراكز ميزة استراتيجية أخرى تتمثل في تقليل زمن الانتقال "Latency"؛ وهو ما يعزز جودة الاتصال لمجتمعات ساحلية تضم أكثر من نصف سكان العالم. وبفضل تصميمها المعياري القابل للتصنيع المسبق، يمكن نشر هذه المرافق بسرعة قد لا تتجاوز 90يوماً من التصنيع إلى التشغيل، فضلاً عن قدرتها على العمل بشكل مستقل، ومن دون صيانة لفترات تصل إلى خمس سنوات. وقد طورت مايكروسوفت نموذجاً تشغيلياً يقوم على استرجاع الوحدة البحرية كل خمس سنوات لإعادة تزويدها بخوادم جديدة؛ بما يسمح بأربع دورات تشغيل خلال عمر افتراضي يصل إلى عشرين عاماً، قبل إعادة تدويرها بالكامل.
2- تحديات قائمة: تمثل مراكز البيانات البحرية ابتكاراً واعداً يعتمد على تبريد المحيطات والطاقة المتجددة لرفع الكفاءة وتقليل البصمة الكربونية؛ لكنها ما تزال تواجه تحديات كبيرة تحد من انتشارها الواسع في المدى القريب:
_ فعلى الصعيد الاقتصادي والتقني، تواجه مراكز البيانات البحرية تحديات اقتصادية وتقنية أبرزها ارتفاع تكاليف التصميم لمقاومة البيئة البحرية، ومخاطر الأعطال غير المتوقعة التي قد تؤدي إلى فقدان البيانات نتيجة التشغيل طويل الأمد دون تدخل مباشر؛ ما يثير الجدل حول جدواها مقارنة بالمراكز البرية.
_ على المستوى البيئي، يثير نشر هياكل ضخمة تحت سطح البحر تساؤلات حول التأثير المحتمل على النظم الإيكولوجية البحرية، سواء من خلال التلوث الحراري أم الانبعاثات الكيميائية الناتجة عن مكونات معدنية، فضلاً عن الضوضاء المصاحبة لعمليات البناء. وتزداد هذه المخاطر كلما توسع استخدام التقنية على نطاق عالمي.
_ أما من منظور الأمن، فإن ارتباط المراكز البحرية بشكل مباشر بشبكات الطاقة والاتصالات العالمية يجعلها عرضة لمجموعة من التهديدات الأمنية المركبة؛ إذ تمثل أهدافاً محتملة للهجمات السيبرانية التي قد تستهدف أنظمة التحكم الرقمية، وكذلك للتخريب المادي الذي قد يحدث في نقاط الاختناق البحرية الحساسة مثل مضيق باب المندب. هذا التداخل بين الأمن السيبراني والأمن البحري يعزز الحاجة إلى تطوير استراتيجيات حماية مزدوجة ترفع تكاليف التشغيل والتأمين.
وأخيراً، تبرز التحديات التنظيمية والقانونية المرتبطة بالسيادة البحرية وحقوق استغلال الفضاءات المائية. فمسائل مثل ملكية البيانات، والاختصاص القضائي، والمسؤولية القانونية عن الأضرار البيئية أو الأعطال التشغيلية تظل غير محسومة في كثير من السياقات الدولية؛ الأمر الذي يعقّد فرص دمج هذه التقنية في أطر حوكمة واضحة ومستقرة.
وبذلك يمكن القول إن مراكز البيانات البحرية تجسد حالة من الهشاشة متعددة الأبعاد؛ ما يجعل مستقبلها مرهوناً بقدرتها على التكيف مع بيئة تنظيمية وأمنية معقدة تتقاطع فيها اعتبارات الاستثمار والاستدامة والأمن العالمي.
تنافس دولي:
في السابق، كانت السيادة مرتبطة بالأرض والمياه الإقليمية، أما اليوم؛ فإن الدول تُطالب بـ"سيادة رقمية" تمتد إلى أعماق البحار. وتُعد مراكز البيانات القوة الضاربة الحقيقية لعصر الذكاء الاصطناعي؛ ولهذا تم جرّها إلى قلب التنافس الجيوسياسي العالمي، خاصة في سياق الصراع التكنولوجي بين الولايات المتحدة والصين. وتُعتبر هذه المراكز ذات أهمية استراتيجية شبيهة بخطوط أنابيب النفط أو ممرات الشحن البحري وعناصر استراتيجية في حرب غير معلنة متعددة الجبهات.
وينقسم المشهد التكنولوجي إلى منظومات أمريكية وصينية، كما هو الحال مع كابلات الألياف البحرية والإنترنت الفضائي. ولكن المنافسة على مراكز البيانات ستتسع بسبب دورها المركزي وزيادة انتشار البيانات. وتشير استثمارات الصين في مراكز بحرية، وتوسع شركات أمريكية في موانئ الهند والشرق الأوسط، إلى معركة جديدة تُخاض بصمت؛ ولكنها شديدة الخطورة.
1- الصين: اتخذت الصين زمام المبادرة في نشر مراكز بيانات تحت الماء لدعم طموحاتها في مجال الذكاء الاصطناعي، مستفيدة من الموارد الطبيعية للمحيط لتلبية متطلبات الطاقة العالية للحوسبة عالية الأداء. ويُعد مركز بيانات هاينان تحت الماء، الذي أُطلق في ديسمبر 2022قبالة جزيرة هاينان، مثالاً بارزاً. فقد طُور هذا المرفق من قبل شركة الصين الوطنية للنفط البحري، ويحتوي على خوادم في حاويات محكمة الإغلاق مملوءة بالنيتروجين، مغمورة على عمق 30 متراً تحت الماء، مستخدمة مياه البحر للتبريد. ويحقق المرفق انخفاضاً بنسبة 90% في تكاليف طاقة التبريد مقارنة بمراكز البيانات البرية، ومعدل فشل الخوادم أقل من 1%، بفضل البيئة المستقرة الخالية من الأكسجين.
وفي يونيو 2025، أعلنت الصين عن مشروع طموح آخر بقيمة 223 مليون دولار لإنشاء مزرعة خوادم تحت الماء تعمل بطاقة الرياح بالقرب من شنغهاي؛ بدعم من حكومة شنغهاي وشركات مثل هايلانيون وعلي بابا. كما تدمج توربينات الرياح البحرية؛ بما يتماشى مع هدف الصين لتحقيق الحياد الكربوني بحلول 2060. وستضم هذه المنشأة البحرية ما يقرب من 800 خادم مُجهّز للذكاء الاصطناعي.
وتُعزز تطورات الصين في مراكز البيانات البحرية نفوذها العالمي. فمن خلال عرض بنية تحتية مستدامة وعالية الكفاءة، تجذب الصين الدول النامية في الجنوب العالمي، خاصة في جنوب شرق آسيا وإفريقيا. واستكشفت الصين شراكات مع دول مثل ماليزيا وإندونيسيا لتبادل الخبرات، مع إمكانية دمج هذه المرافق مع النظم الإيكولوجية الإقليمية للجيل الخامس والذكاء الاصطناعي. ويمكن أن تعيد هذه التعاونات تشكيل معايير نشر مراكز البيانات العالمية؛ مما يتحدى المعايير الغربية ويخلق نظاماً تكنولوجياً موازياً بقيادة الصين، تستطيع من خلاله بكين أن تتخطى العزلة التكنولوجية والاقتصادية التي يريد الغرب فرضها عليها.
2- الولايات المتحدة الأمريكية: ما زالت الشركات الأمريكية تهيمن على سوق الحوسبة السحابية العالمية؛ ومن ثم على مراكز البيانات. ويُمثّل السوق الأمريكي وحده نحو 40% من إجمالي السوق العالمية، مع أكثر من 5300 مركز بيانات ضخم تُشغّلها شركات مثل (AWS)، و (Azure) من مايكروسوفت، وGoogle Cloud، وEquinix، وIBM Cloud.
كما تتبنى الولايات المتحدة نهجاً جيوسياسياً متصاعداً يقوم على استخدام "ضوابط التصدير" كأداة استراتيجية لتعزيز تفوقها في مجال الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية، والحد في الوقت ذاته من قدرات منافسيها، وعلى رأسهم الصين. هذه الضوابط لا تقتصر فقط على منع وصول بكين إلى "الرقائق المتقدمة" والمعدات الخاصة بالتصنيع دون مستوى 7 نانومتر، بل تمتد بشكل غير مباشر إلى "البنية التحتية المرتبطة بمراكز البيانات البحرية"، باعتبارها عنصراً محورياً في دعم تطبيقات الذكاء الاصطناعي المتقدمة.
فمنذ عام 2022، فرضت وزارة التجارة الأمريكية قيوداً صارمة استهدفت شركات صينية كبرى مثل "هواوي" و"SMIC" و"تينسنت هولدينغز" و"مجموعة علي بابا"، وذلك عبر حرمانها من الوصول إلى معدات الحوسبة عالية الأداء ووحدات المعالجة (GPUs) المتقدمة مثل تلك التي تنتجها "إنفيديا NVIDIA" و"AMD". فهذه الوحدات تُعد ضرورية لتشغيل مراكز البيانات العملاقة؛ بما في ذلك تلك التي يمكن نشرها تحت سطح البحر.
إضافة إلى ذلك، ترتبط "قواعد البيانات البحرية" ارتباطاً وثيقاً بقدرات متقدمة في "التصميم الهندسي للغواصات، وأنظمة التبريد الغاطسة، وأجهزة الاستشعار البحرية"؛ وهي جميعها تقع ضمن ما تُسميه الولايات المتحدة "التكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج"؛ أي تلك القابلة للتوظيف في المجالات المدنية والعسكرية على حد سواء. ومن هذا المنطلق، تعمد واشنطن إلى وضع قيود على تصدير هذه التقنيات؛ بما يضمن بقاءها تحت سيطرة الشركات الأمريكية والغربية، ويحرم الصين من امتلاك منظومات متكاملة لتشغيل مراكز بيانات بحرية قد تمنحها "تفوقاً استراتيجياً" في سباق الذكاء الاصطناعي.
تجدر الإشارة إلى أن نجاح شركة مايكروسوفت في مشروع "ناتيك" Natickمنذ عام 2015، والذي برهن على جدوى إنشاء مراكز بيانات تحت الماء، قد عزز المخاوف الأمريكية من إمكانية قيام الصين بتطوير نماذج مماثلة. هذا النجاح دفع واشنطن إلى مراقبة أي محاولة صينية لتطوير أو استيراد التكنولوجيا اللازمة لمثل هذه المشاريع. وبالفعل، ظهرت شركات مثل (Beijing Highlander) و(Digital Technology) وSubsea Cloud)) التي أجرت تجارب في هذا المجال؛ وهو ما جعل واشنطن تعتبرها ضمن نطاق الرقابة الاستراتيجية خشية أن تتحول إلى نواة لقاعدة بيانات بحرية ضخمة قادرة على تشغيل تطبيقات عسكرية متقدمة، بما في ذلك أنظمة الذكاء الاصطناعي المدمجة في "العمليات البحرية، المراقبة تحت الماء، أو حتى التحكم بالأساطيل الذاتية".
وبذلك، فإن ضوابط التصدير الأمريكية تمثل أكثر من مجرد أداة اقتصادية؛ فهي تعمل كجزء من استراتيجية "احتواء تكنولوجي" تهدف إلى تأخير أو تعطيل أي محاولات صينية لاستخدام مراكز البيانات البحرية كمنصة لتعزيز قوتها في مجال الذكاء الاصطناعي.
ومن جانب آخر، حشدت الولايات المتحدة حلفاءها من خلال تحالف "Chip 4" (اليابان، كوريا الجنوبية، تايوان) لتأمين سلاسل توريد رقائق الذكاء الاصطناعي. ودعَم قانون (CHIPS) لعام 2022، التصنيع المحلي لأشباه الموصلات بقيمة 52 مليار دولار؛ مما عزز شركات مثل (TSMC). ومع ذلك، يحتفظ الحلفاء بعلاقات اقتصادية كبيرة مع الصين؛ مما يعقد الجهود الأمريكية لعزلها. فعلى سبيل المثال، تتعاون اليابان مع الصين في بنية تحتية للجيل الخامس في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وتزود سامسونج الكورية الجنوبية مراكز البيانات الصينية برقائق الذاكرة.
آفاق مستقبلية:
1- شبكة مراكز بيانات بحرية بديلة: قد تلجأ بكين إلى تعويض القيود الأمريكية من خلال تعزيز التعاون مع روسيا أو كوريا الشمالية أو حتى بعض الدول في جنوب شرق آسيا، التي تسعى لتقليل اعتمادها على البنية التحتية الغربية. في هذا السياق، يمكن أن توفر موسكو تقنيات بديلة أو دعماً في مجال الأمن السيبراني، بينما تقدم الصين بدورها التمويل والخبرة الهندسية. وإذا تحقق هذا السيناريو، فقد نشهد بروز ما يشبه شبكة مراكز بيانات بحرية بديلة تعمل خارج السيطرة الأمريكية؛ وهو ما يمثل تحدياً للبنية التحتية الرقمية الغربية.
2- عسكرة مراكز البيانات البحرية: تسعى الصين حالياً، من خلال مبادرات مثل "صنع في الصين 2025"، إلى تطوير صناعة محلية متكاملة للرقائق الإلكترونية. ورغم العقبات الكبيرة؛ فإنها إذا تمكنت من إنتاج رقائق متوسطة الكفاءة (10 إلى 14 نانومتر) بكميات كبيرة، فقد تستخدمها في بناء "مراكز بيانات بحرية موجهة للاستخدامات العسكرية" مثل الذكاء الاصطناعي الدفاعي أو أنظمة المراقبة البحرية.
ويمكن أن تُدمج هذه المراكز مع "الشبكات تحت المائية الذكية" لمراقبة التحركات البحرية الأمريكية في المحيط الهادئ، أو لدعم تشغيل غواصات غير مأهولة قادرة على البقاء لفترات طويلة. وهنا تتحول مراكز البيانات من مجرد بنية تحتية للتخزين والمعالجة إلى "أصول استراتيجية عسكرية"؛ مما يزيد من مخاطر اندلاع أزمات في بحر الصين الجنوبي أو مضيق تايوان.
3- تجزئة البنية التحتية الرقمية البحرية: قد تدفع هذه التطورات الولايات المتحدة إلى تعزيز شراكاتها الأمنية التكنولوجية في المحيطين الهندي والهادئ. فإلى جانب تحالف "AUKUS" (أستراليا – بريطانيا – الولايات المتحدة)، قد تنشأ شبكات تعاون جديدة مع "الهند، اليابان، وكوريا الجنوبية" لتطوير مراكز بيانات بحرية "محمية" تحت إشراف مشترك. وفي المقابل، يمكن أن ترد الصين بتوسيع مبادرة "الحزام والطريق الرقمي" لتشمل إنشاء مراكز بيانات بحرية في دول الخليج وإفريقيا؛ حيث تملك نفوذاً اقتصادياً متزايداً؛ هذا السيناريو سيؤدي إلى "تجزئة البنية التحتية الرقمية البحرية عالمياً" إلى تكتلات متنافسة.
ختاماً، باتت مراكز البيانات البحرية واقعاً يقدم حلولاً مبتكرة للتبريد والطاقة والمساحة مع وعود بالاستدامة، رغم تحديات الصيانة والتوسع والمخاطر الأمنية. ومع دعمها لتقنيات الذكاء الاصطناعي؛ أصبحت ساحة تنافس جيوسياسي وتقني بين الولايات المتحدة والصين. هذا التنافس يعمّق الصراع التكنولوجي، ويعيد رسم التوازنات الجيوسياسية في عصر الذكاء الاصطناعي.
المراجع
_مروة صبحي منتصر، 14/10/2025، كيف تعيد مراكز البيانات البحرية رسم توازنات القوى العالمية؟، المستقبل للابحاث والدراسات الاستراتيجية
_ ب،ن، 3/10/2025، مراكز البيانات البحرية هو الحل لازمة الطاقة في الصين، النهار العربي.
