في ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة، وتصاعد حدة التنافس الدولي في القارة الأفريقية، تسعى الولايات المتحدة إلى إعادة هيكلة وجودها العسكري في أفريقيا، بما يعكس تغيراً جوهرياً في أولويات سياستها الدفاعية. ولم تَعُد واشنطن تُركِّز في هذا السياق على مقاربات تقليدية تقوم على دعم الحكم الرشيد والتنمية، في ظل أولويات إدارة الرئيس "دونالد ترامب" التي تركز على حماية الداخل، وتقليص الانتشار العسكري على المستوى العالمي، بل تتجه نحو بناء شراكات أمنية قائمة على تقاسم الأعباء وتمكين الجيوش المحلية من الاعتماد على قدراتها الذاتية. وتأتي هذه الاستراتيجية الجديدة في وقتٍ تزداد فيه التهديدات الإرهابية، ويصعد فيه نفوذ الصين وروسيا في مساحات الفراغ التي تُخلِّفها واشنطن.
ملامح عديدة
منذ أداء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اليمين الدستورية في يناير 2025، هناك عديد من المؤشرات بشأن مساعي الإدارة إلى إعادة هيكلة وجودها العسكري في أفريقيا، وهي المؤشرات التي يمكن عرض أبرزها بالتفصيل على النحو التالي:
1– تقييم مستقبل القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا: أعلن الجنرال مايكل لانجلي قائد القيادة الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم)، في حديثه إلى الصحفيين قبل مؤتمر رؤساء الدفاع الأفارقة في كينيا في 27 مايو 2025؛ أن الولايات المتحدة تُراجع مستقبل "أفريكوم". وقد أكد "لانجلي" أهمية استمرار دور "أفريكوم" بالنسبة إلى الإدارة الأمريكية، مؤكداً أن مستقبلها مرتبط بحجم هذا الدعم السياسي والدبلوماسي.
وتأتي هذه التطورات في ظل سياق جيوسياسي وأمني معقد؛ حيث أُنشئت "أفريكوم" عام 2008م لمواجهة التهديدات الإرهابية والتنافس مع الصين وروسيا، إلا أنها واجهت معارضة واسعة من جانب الدول الأفريقية الرافضة لتعزيز الوجود العسكري الأمريكي.
2– مُقترح إدماج "أفريكوم" مع القيادة الأمريكية في أوروبا: ذكرت وسائل الإعلام الأمريكية في مارس الماضي أن إدارة الرئيس "دونالد ترامب" تدرس إدماج القيادة الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم) مع القيادة الأمريكية في أوروبا (يوكوم)؛ بهدف تقليل البيروقراطية وخفض التكاليف، عبر تبسيط الهيكل القيادي، وجعل "أفريكوم" قيادة فرعية تابعة لـ"يوكوم".
وتأتي هذه الخطوة في إطار مراجعة أوسع تجريها إدارة "دونالد ترامب" حول الانتشار العسكري الأمريكي عالمياً، وتسعى إلى تحقيق كفاءة تنظيمية ومالية أكبر. وفي 21فبراير 2025، زار بيت هيجسيث وزير الدفاع الأمريكي، المقر الرئيسي لـ"أفريكوم" في ألمانيا، وقد أكد البنتاجون أن هذه الزيارة جزء من جهود أوسع لتعزيز التعاون مع القيادة الأمريكية في أوروبا، وفرصة لتعميق التنسيق العسكري.
غير أن هذه الخطة واجهت اعتراضات قوية من قادة لجنتَي القوات المسلحة في الكونجرس، الذين حذروا من عواقب تقليص الاستقلالية العملياتية لـ"أفريكوم"، في ظل تصاعد التحديات الأمنية في أفريقيا، خصوصاً الإرهاب والتغلغل الروسي والصيني، كما حذر الجنرال "مايكل لانجلي" من أن إدماج "أفريكوم" سوف يُعقِّد عمليات القيادة؛ بسبب خصوصية البيئة الأمنية في القارة، مؤكداً أن الظروف الحالية تستدعي تعزيز التركيز الأمريكي في أفريقيا، لا تقليصه.
3– تقاسم الأعباء الأمنية مع الشركاء الأفارقة: في إطار التحولات الاستراتيجية التي تنتهجها الولايات المتحدة في أفريقيا، تُواصِل الأولى دعواتها المتكررة للشركاء الأفارقة إلى تحمُّل مسؤوليات أكبر في إدارة شؤونهم الأمنية، ومواجهة التحديات المتصاعدة، مثل الإرهاب، وعدم الاستقرار السياسي.
ويؤكد المسؤولون الأمريكيون، وعلى رأسهم الجنرال "مايكل لانجلي"، أن المرحلة القادمة تتطلب انتقالاً حقيقياً نحو "تقاسم الأعباء"، بحيث لا تبقى الولايات المتحدة الطرف الوحيد المعني بضمان الاستقرار في القارة، بل يصبح الشركاء المحليون أكثر قدرة على إدارة العمليات العسكرية بشكل مستقل. وتعكس هذه الدعوات تحولاً في الأولويات العسكرية الأمريكية، التي باتت تركز على حماية الأمن الداخلي، وتقليص التدخلات الخارجية المكلفة، لا سيما في ظل تصاعد المنافسة الجيوسياسية مع الصين وروسيا.
4– تعزيز قدرات الجيوش الأفريقية: يمثل تعزيز قدرات الجيوش الأفريقية وتمكينها من العمل بشكل مستقل، السبيل الوحيد لضمان استمرار التعاون الأمني مع الولايات المتحدة، من دون الحاجة إلى انتشار عسكري أمريكي واسع في القارة. ومن هذا المنطلق، تبرز المناورات المشتركة، مثل تمرين "الأسد الأفريقي"، كأحد أبرز الأمثلة على هذا النهج؛ حيث تهدف إلى رفع جاهزية القوات الأفريقية، وتمكينها من تنفيذ عمليات معقدة بقدرات محلية متطورة.
ويشمل التمرين تدريبات تكتيكية برية وجوية وبحرية، بالإضافة إلى تطوير مهارات التخطيط المشترك، والدفاع السيبراني، والتعامل مع التهديدات الكيميائية والبيولوجية والإشعاعية والنووية؛ ما يعزز قدرة القوات المشاركة على مواجهة التحديات الأمنية الإقليمية بكفاءة عالية.
5– استمرار التعاون الاستخباراتي مع الدول الأفريقية: رغم تصاعد التوترات السياسية وتراجع النفوذ الأمريكي في غرب أفريقيا نتيجة الانقلابات العسكرية، لا تزال الولايات المتحدة تسعى إلى الحفاظ على مستويات معينة من التعاون الاستخباراتي مع الأنظمة الحاكمة في منطقة الساحل؛ فقد صرَّح الجنرال "لانجلي" بأن واشنطن لم تقطع اتصالاتها الاستخباراتية بالكامل مع هذه الأنظمة، بل تسعى إلى إيجاد "سُبل جديدة للبقاء منخرطةً أمنياً في المنطقة"، في ظل تعقيدات أمنية متنامية، وتمدُّد نفوذ روسيا عبر مجموعة "فاجنر".
ويُعَد هذا التعاون محاولة أمريكية لتأمين الحد الأدنى من المعلومات، والقدرة على التفاعل مع التهديدات، لا سيما المرتبطة بالجماعات التي تنتمي إلى تنظيمَي "القاعدة" و"داعش" في منطقة الساحل.
فرص الخصوم
في الختام، تتجه الولايات المتحدة نحو تقليص دورها العسكري المباشر في أفريقيا، مع التركيز على رفع قدرات القوات الأمنية الأفريقية للعمل بشكل مستقل. ويأتي هذا التحول ضمن استراتيجية إدارة الرئيس "ترامب" لإعادة توجيه الموارد نحو حماية الأمن الداخلي، مع تشجيع الحلفاء على تحمل مزيد من المسؤوليات الأمنية.
وفي المقابل، تزداد فرص الصين وروسيا لملء الفراغ الذي يتركه التراجع الأمريكي، عبر تدريب القوات الأفريقية، وتزويدها بالسلاح، واستخدام المرتزقة، كما في حالة مجموعة "فاجنر" الروسية. وفي الوقت الذي تُقلِّص فيه واشنطن وجودها العسكري، وتُعيد توجيه مواردها؛ تتزايد التهديدات الإرهابية؛ إذ تُعتبر أفريقيا اليوم مركزاً رئيسياً لنشاطات تنظيمَي "القاعدة" و"داعش"، لا سيما في الصومال ومنطقة الساحل. ويرى مُحللون أمنيون أن معظم الجيوش الأفريقية تفتقر إلى الإمكانيات الكافية، خاصةً في مجالات القوة الجوية والمراقبة الميدانية، لمواجهة هذا التحدي المتصاعد.
وتُمثِّل هذه الديناميكيات تحدياً لنفوذ الولايات المتحدة التقليدي في القارة الأفريقية، وتفتح المجال أمام إعادة تشكيل النظام الأمني الإقليمي، خصوصاً مع تزايد التهديدات الإرهابية، وضعف الدول الهشة؛ ما يجعل مستقبل العلاقات الأمنية بين أفريقيا والولايات المتحدة مرهوناً بقدرة الشركاء على الاستجابة للتحديات دون الاعتماد الكلي على الدعم الأمريكي.
المراجع
_ عمرو عبدالعاطي، 4/6/2025، مساعي إدارة ترامب لإعادة هيكلة الوجود العسكري الأمريكي في أفريقيا، انترريجونال للتحليلات السياسية.
_ نور الدين، 25/2/2025، ان بي سي نيوز.
