استضاف الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، ورئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، مؤتمراً في باريس، وتحديداً في جامعة السوربون، يوم 5 مايو الماضي؛لجذب العلماء والباحثين الراغبين في مغادرة الولايات المتحدة؛ بسبب استيائهم من سياسات إدارة الرئيس دونالد ترامب. وهي الخطوة التي قد تزيد الفجوة بين الولايات المتحدة وأوروبا، خاصةً في ظل الخلافات الحالية بين الطرفين في ملفات أخرى مثل حرب أوكرانيا، والرسوم الجمركية. كما أنها تثير دلالات عدة، البعض منها يتعلق بمكاسب أوروبا وتعزيز صورتها كحاضنة للعلم والابتكار، والبعض الآخر يدور حول خسائر واشنطن من خلال الترويج لما يُسمى سياساتها المناهضة للعلم، فضلاً عن الهجرة المعاكسة للعقول.
ترامب والعلم:
لم يكن مُتوقعاً على نطاق واسع أن تؤثر سياسات الرئيس ترامب، التي روج لها تحت شعار "لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى"، في المؤسسات العلمية الأمريكية، سواء من خلال تقليص أم تجميد التمويل، أم عبر فرض أجندة تتجاوز حرية البحث العلمي والأكاديمي المعمول بها على مدار عقود. فخلال ولايته الأولى، تبنى ترامب مواقف تُغلب قناعاته الشخصية على حقائق العلم، أو تحاول تسيس العلم؛ أي تطويع الحقائق العلمية لصالح السياسة والأهداف والرؤى الأيديولوجية، على غرار تشكيكه في حقيقة فيروس "كوفيد19" واللقاحات المضادة له، وكذلك التشكيك في مسؤولية الانبعاثات والإنسان والصناعة عن الاحتباس الحراري والتغير المناخي.
وامتداداً لهذه المواقف، قام ترامب بتعيين روبرت كينيدي جونيور وزيراً للصحة في إدارته الحالية، وهو على غرار ترامب يعتقد أن اللقاح ضد مرض الحصبة يسبب زيادة مرض التوحد، وهو ما لم تثبت صحته حتى الآن من قِبل الأوساط العلمية المتخصصة. كما يؤمن كيندي، مثل ترامب، بنظرية المؤامرة.
أما إيلون ماسك، الملياردير الأمريكي الذي أيّد ترامب وحملته الانتخابية، فقد اختاره ترامب عقب فوزه على رأس الإدارة التي تختص بالكفاءة الحكومية، وقام بتقليص البيروقراطية وإلغاء بعض الوكالات الفدرالية مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) وغيرها. كما وافقت الإدارة الأمريكية على تقليص ميزانيات القطاع العلمي، وكذلك إحالة العديد من العاملين في المؤسسات العلمية إلى التقاعد.
ويبدو أن الهدف من السياسة العلمية لترامب ومعاونيه، يتمثل في إخضاع الجامعات ومعاهد البحوث والعلماء والباحثين لأجندة سياسية من خارج الحقول العلمية المتخصصة. ففي نهاية فبراير الماضي، أصدرت الإدارة الأمريكية توجيهات للوكالات الفدرالية، بما في ذلك مؤسسة العلوم الوطنية (NSF)، بقائمة تتضمن 120 كلمة محظور استخدامها، ومن بين هذه الكلمات: (الأقليات، والنساء، والتمييز، والمساواة، والجنسانية، والسكان المهمشون، وضحايا التمييز، والفروق الثقافية، والمتحولون جنسياً، ونوعية البيئة)، وغيرها من المفردات الأخرى التي تشير إلى التنوع والاختلاف والتمييز والجندر.
مكاسب أوروبا:
لم تكتفِ أوروبا بموقف المراقب لما يحدث على الضفة الأخرى من الأطلسي للعلم والعلماء والباحثين من تجميد الموازنات المخصصة للجامعات والمعاهد العلمية وحظر البحث في موضوعات وقضايا المناخ والأقليات والنساء والمهمشين؛ بل سارعت إلى المبادرة سواء الفردية من قِبل بعض الدول مثل فرنسا أو الجماعية من المفوضية الأوروبية، لجذب العلماء المستائين من سياسات ترامب.
فقد أظهر الباحثون الفرنسيون تضامنهم مع زملائهم الأمريكيين، من خلال تنظيم احتجاجات تزامنت مع احتجاجات وتظاهرات زملائهم في واشنطن وشيكاغو ونيويورك وبوسطن تحت شعار "استعدوا من أجل العلم"، وذلك في جامعة "إيكس مارسيليا" التي قدمت في شهر مارس الماضي برنامجاً لبعض العلماء والباحثين الأمريكيين تحت شعار "مكان آمن للعلم" خاصةً في مجال علوم المناخ، وتلقت هذه المبادرة نحو 298 طلباً خلال شهر واحد من إطلاق البرنامج. ومن بين هذه الطلبات، تم اعتبار 242 طلباً مؤهلاً، منها 135 من مواطنين أمريكيين و45 من مزدوجي الجنسية.
وفي الخامس من مايو الماضي، وخلال المؤتمر الذي عقدته فرنسا والمفوضية الأوروبية في جامعة السوربون العريقة بعنوان "اختر أوروبا من أجل العلوم"، وحضره العديد من الوزراء والدبلوماسيين؛ أعلن الرئيس ماكرون أن بلاده سوف تخصص 100 مليون يورو لاجتذاب الباحثين الأمريكيين والأجانب. فيما أكدت دير لاين أن المفوضية الأوروبية ستوفر 500 مليون يورو إضافية للفترة الممتدة بين 2025 و2027؛ من أجل تحويل أوروبا لقطب جاذب للباحثين.
وقد تكون هذه اللحظة تاريخية لأوروبا لتصبح مركز العقل العلمي العالمي؛ لذا لم تقف العديد من الدول الأوروبية، على غرار فرنسا وألمانيا وهولندا والسويد، عند حدود توفير فرص العمل للعلماء الأمريكيين المتضررين من سياسة ترامب؛ بل بادرت إلى وضع نظم للحصول على تأشيرات سريعة، وتوفير أنظمة متماسكة للدعم؛ بهدف تسهيل إعادة توطين العلماء. وفي هذا السياق، يفكر الاتحاد الأوروبي في إصدار جواز سفر خاص بالعلم والعلماء لتسهيل انتقال العلماء، كما تفكر بعض الدول الأوروبية في إصدار تشريع يكفل حق العلماء في الحصول على صفة "لاجئ علمي"؛ بهدف توفير حماية فرعية للباحثين الذين يتعرضون لتهديدات أو قيود على حريتهم الأكاديمية.
ويوشك التاريخ أن يُعيد نفسه في أوروبا فيما يتعلق بظاهرة هجرة العلماء والعقول، ولكن بطريقة عكسية. فبعد أن كانت هجرة العقول والعلماء باتجاه الولايات المتحدة؛ نظراً لما لديها من إمكانات علمية ومخصصات عالية وأجور مرتفعة ومعامل حديثة وذلك على مدار عقود، من الممكن أن تأخذ هجرة العقول وجهة عكسية؛ أي من الولايات المتحدة إلى أوروبا.
وعلى الرغم من المعوقات الأوروبية، كالبيروقراطية مثلاً أو اختلاف اللغات وضعف الأجور والأنظمة المعاونة للبنية العلمية، مقارنةً بما عليه الحال في الولايات المتحدة التي تنفق ما يقرب من 3.5% من ناتجها الإجمالي على العلوم والبحث والتطوير مقابل نحو 2.5% في أغلب دول القارة الأوروبية؛ فإن أوروبا تُعول على رسوخ مبدأ الحرية الأكاديمية والعلمية والتعبير عن الرأي، وقلة تكاليف أنظمة التعليم والضمان الصحي والاجتماعي مقارنةً بالولايات المتحدة؛ ومن ثم فإن أوروبا أمام فرصة تاريخية لاستعادة زمام المبادرة العلمية العالمية، وبالتالي مكانتها العلمية على الساحة الدولية.
خسائر واشنطن:
قد يكون من السابق لأوانه تقييم خسائر الولايات المتحدة جراء تطبيق السياسة العلمية لترامب؛ لأسباب عديدة، من بينها أن هذه السياسة ما تزال في بدايتها، كما أن هناك مطالبات واحتجاجات وقضايا مرفوعة ضد إدارة ترامب بسبب الإجراءات التي اتُخذت حتى الآن، وبالمثل ثمة دعوات أمريكية وعالمية لوقف هذه السياسة والعدول عنها.
وفي هذا الصدد، ثمة تهديد للولايات المتحدة بفقدان مركز الريادة العلمية العالمية، الذي حظيت به على مدار عقود طويلة، وهي الريادة التي جعلت من الاقتصاد الأمريكي الأقوى عالمياً ومن قدراتها العسكرية كذلك؛ حيث إن العلاقة بين الاكتشافات العلمية وتطبيقاتها قد تميزت خلال العقود الأخيرة بقصر المسافة الزمنية بين الكشف العلمي وبين تطبيقه واندماجه في البنية المدنية والاقتصادية والعسكرية.
وقد يعني فقدان واشنطن هذه الريادة العلمية نتيجة فرار العلماء إلى الدول الأوروبية، انتقال مركز الثقل العلمي الدولي إلى أوروبا أو اليابان أو الصين وغيرها من الدول؛ ومن ثم إعادة توزيع القوة العلمية على قوى منافسة أو مرشحة للتنافس مع الولايات المتحدة.
وفي حال استمرار هذه السياسة، فإن الولايات المتحدة ستفقد بريقها وجاذبيتها التي مكّنتها من استقطاب أفضل العقول من أوروبا وغيرها من الدول بسبب الإنفاق السخي على العلم والعلماء والبنى التحتية البحثية والمعامل. كما أن الصورة المتداولة في العالم عن الولايات المتحدة ستتأثر سلباً بالتضييق على العلم والبحث، والمؤكد أن هذه الخسارة وإن كانت أمريكية في المقام الأول، إلا أنها ستكون للعلم ذاته أيضاً.
ومن زاوية أخرى، فإن تقليص الحرية الأكاديمية وحرية الباحثين في التعبير عن الرأي، يقوض ركناً أساسياً من الديمقراطية، فضلاً عن أنه يمثل تهديداً للنموذج الاقتصادي الأمريكي المعتمد على العلم والابتكار في جزء كبير منه. فلقد أسهم العلم والتقدم في المجال العلمي بنحو الخُمس (20%) من معدل النمو الاقتصادي والإنتاجية في الولايات المتحدة. ووفقاً لبعض الدراسات، فإن إنفاق دولار أمريكي واحد على العلم والبحوث يقابله خمسة دولارات كعائد على الصعيد الوطني. كما أن العديد من المنتجات والاكتشافات العلمية التي أصبحت أساسية في حياتنا والتكنولوجيات التي ارتبطت بها، ومنها الذكاء الاصطناعي، هي نتاج هذا التقدم.
ختاماً، يمكن القول إن السياسة التي تنتهجها إدارة ترامب الحالية في الشأن العلمي، قد تترك أثراً على جيل كامل من الباحثين والعلماء الأمريكيين، كما قد تؤثر في جودة الحياة التي شهدت تحسناً كبيراً بفضل الاكتشافات العلمية الحديثة، والتي كان للولايات المتحدة فيها السبق، مع تقديمها التمويل اللازم لها. وهذا الدور يصعب على القطاع الخاص أن يؤديه بنفس الفعالية، على الأقل كما كان الحال قبل صدور القرارات التي مست البنية العلمية في الولايات المتحدة.
