بعد مرور عامٍ واحدٍ فقط على اتفاق وقْف إطلاق النار بين لبنان و قوات الاحتلال ، يعود الجنوب اللبناني ليكون في دائرة الضوء كواحدةٍ من أكثر الجبهات هشاشة في الإقليم، لا باعتباره ساحة اشتباك حدودي فحسب، بل كنقطة تقاطُع كثيفة بين الحسابات الصهيونية وتموْضع حزب الله، وحدود قدرة الدولة اللبنانية على فرْض سيادتها، فالاتفاق التي كان يُفترض به أن يُحقِّقَ حالةً من الاستقرار النسبي، سُرْعانَ ما تحوَّلَ إلى غطاءٍ هشٍّ فوق واقع ميداني متوتر، تُراكم فيه قوات الاحتلال مُقوِّمات تفوُّق ميداني تدريجي، فيما يواصل حزب الله تعزيز حضوره العسكري، وتبقى الدولة أسيرة هوامش ضيِّقة من الحركة الدبلوماسية والأمنية في آنٍ معًا.
في ظلِّ هذا المناخ المُلبَّد، برزت مفاوضات الناقورة بوصفها لحظة مفصلية لا تشبه ما سبقها؛ إذ تتيح لأول مرة منذ عقود فتْح حوار مباشر حتى وإن كان فنيًّا بين لبنان وقوات العدو، و ترتبط هذه المفاوضات بشكل جوهري بالسؤال الأهم: من يملك قرار الحرب والسلم في لبنان؟ وكيف بإمكان الدولة استعادة دورها في إدارة أمْن الجنوب دون الوقوع في فخِّ التنازلات التي قد تغيِّر موقع لبنان ضمن الصراع الإقليمي؟ ضمن هذا السياق، يتناول هذا التقرير دراسة شاملة ودقيقة للخلفيات المتعلقة بالمشهد الجنوبي والسياقات المحيطة بالملف التفاوضي؛ مما يساعد على فهْم أوضح للعوامل المؤثرة في الوضع الحالي ويميز طبيعة التعقيدات السائدة فيه.
عام على وقف إطلاق النار في لبنان
بعد مرور عام كامل على اتفاق وقْف إطلاق النار بين قوات العدو وحزب الله في نوفمبر 2024، ظلَّ الجنوب اللبناني بعيدًا عن أيِّ استقرار مستدام، بل استمرَّ كمساحة رمادية بين الهُدْنة والحرب، تتخللها انتهاكات جوية صهيونية متواصلة ومناورات استطلاعية، بالإضافة إلى ردود نارية محدودة من حزب الله ضمن إطار “ميزان الردع”، فالغارات الصهيونية التي قُدِّرَت بأكثر من 670 غارةً وفقًا لمعهد “ألما” أسفرت عن مقتل حوالي 340 شخصًا خلال السنة الماضية؛ مما جعل الاتفاق يبدو أقرب لوقْف نارٍ هشٍّ منه إلى تهدئة حقيقية، ومن جهة أخرى، أظهرت التطوُّرات الأخيرة أن مستوى الاشتباك بدأ يتحرك نحو تصعيد أكبر؛ حيث ظهرت استعدادات قوات العدو للمخاطرة بشكلٍ أكبر، بينما اعتمد الحزب استراتيجية ردٍّ مَرِنَةٍ تُبْقِي الوضْع تحت السيطرة مع الاحتفاظ بحقِّ الرَّدِّ، ومع مرور الوقت، بدا أن هذه المعادلة هشَّة وقابلة لانهيار فوري مع كل عملية اغتيال أو توغُّل عسكري جديد، خصوصًا بعد استئناف تل أبيب تنفيذ عمليات اغتيال نوعية تستهدف قيادات الحزب والتي كان أبرزها اغتيال هيثم طبطبائي الرجل الثاني في الحزب ورئيس الأركان؛ الأمر الذي أعاد فتح النقاش حول مستقبل طبيعة الاشتباك وحدوده؛ إذ لم تكن هذه الضغوط مجرد إجراءات أمنية بل كانت محاولةً لتفكيك الهيكل العسكري للحزب وإضعاف تماسُكه في وقت مرتبط بتوترات إقليمية.
من الناحية الميدانية، بدت الصورة أكثر وضوحًا؛ فقد أظهرت صور الأقمار الصناعية Planet Labs) ) بين أغسطس ونوفمبر 2025، قيام جيش الاحتلالبأعمال بناء وتشييد جدران خرسانية حول يارون ومروان الرأس، كما أكدت يونيفيل في 14 نوفمبر، أن أحد أجزاء هذا الجدار تخطَّى الخط الأزرق وعزل أكثر من 4000 متر مربع من الأراضي اللبنانية؛ مما دفع بيروت لتقديم شكوى رسمية لمجلس الأمن؛ لاعتباره انتهاكًا صارخًا للقرار رقم 1701 ومحاولة لفرْض حقائق جديدة على الأرض، وعلى الرغم من أن التفاصيل التقنية ليست أساس القضية إلا أن الدلالة السياسية بارزة؛ قوات الاحتلال لا تكتفي فقط بزيادة التصعيد الناري لكنها تعمل أيضًا جدِّيًّا على إقامة بُنَى ميدانية جديدة قد تتحول تدريجيًّا إلى حدود فِعْلِيَّة؛ الأمر الذي يقلل التضارب المباشر ويخلق منطقة فصْل قسْرية يُمكن التعامل معها داخليًّا كواقعٍ مفروضٍ، وهذا ما يفسر ارتفاع مستويات الغضب السياسي في بيروت والخوف المتزايد من إمكانية تكرار سيناريو “سحْب البساط الميداني ببُطْء”.
في خلفية هذا السياق الميداني، ظلَّ سلاح حزب الله كمحور اشتباك سياسي إقليمي ودولي، لا يقِلُّ سخونةً عن المواجهات العسكرية؛ إذ ترى قوات العدو ، أن استمرارية الأمن في الشمال تتوقف على ضرورة القضاء على “تهديد الحزب”، وتُلوِّحُ بخيارات عسكرية ما لم يتم تحديد مستقبل السلاح ضمن إطار زمني محدد، وعلى الصعيد اللبناني الداخلي، ينقسم النقاش بين من يعتبر السلاح درعًا للرَّدْع ووسيلة دفاع ضد الاعتداءات الصهيونية، وبين من يرى فيه عقبة تحُول دون استعادة الدولة لسيادتها وهيبتها، ومع كل تصعيد ميداني يرتفع منسوب الضغوط على الحزب من جهتيْن متعاكستيْن؛ الحفاظ على شرعيته المقاومة من جهة، وتجنُّب إعطاء المجتمع الدولي حجة للضغط على بيروت نحو تسويات قسرية من جهة أخرى.
وكانت حِدَّة الضغط الدولي ملحوظة بشكل خاص خلال الأشهر القليلة الماضية، بدْءًا بتصريحات المبعوث الأمريكي توم باراك الذي اعتبر لبنان “دولة فاشلة”، في رسالة واضحة، بأن واشنطن لم تعُدْ مستعدة لمنْح المزيد من الوقت في ملف السلاح، وقد جاء ذلك بالتوازي مع موقفٍ أمميٍّ صارمٍ عبر “بلاسخارت” التي دعت بيروت لحسم خياراتها، مشيرةً إلى أن الوضع في الجنوب قد يكون قابلًا للاشتعال إذا استمرت حالة الجمود السياسي، بالمقابل، حاولت السلطات اللبنانية التعامل مع هذا الضغط، مستفيدةً من التحركات السياسية والدبلوماسية؛ حيث جاءت تصريحات جوزيف عون ونواف سلام متزامنة في اتجاهين: الأول هو فتْح قنوات تفاوض غير مباشرة مع قوات الاحتلال وإبداء الاستعداد للاستعانة بالولايات المتحدة لدفع العملية قُدُمًا، والثاني هو التأكيد بأن لبنان لن يتوانى عن مواكبة التطورات الإقليمية، في خطابٍ يشير إلى محاولة الدولة لإعادة تشكيل نفسها بما يتماشى مع مرحلة جديدة في الشرق الأوسط ترغب فيها إنهاء هيْمنة الميليشيات والسلاح خارج السيطرة الحكومية بدون كسْر مباشر للعلاقة مع حزب الله بما يهدد التوازن الهشّ داخل البلاد.
وقد تلاقت التصعيدات الميدانية والضغوط الدولية عند نقطة واحدة، تمثَّلَتْ في السلاح كجوهر المعادلة؛ وهنا تجلَّى البُعْد الإيراني بشكل واضح مختارة خطابًا تعبويًّا صريحًا؛ حيث وصف مستشار المرشد الإيراني علي أكبر ولايتي حزب الله، بأنه “أهم من الخبز”، محاولًا بذلك رفْع قيمة السلاح لعناصر وجودية تشكل الهوية للمجتمع المقاوم، بدلًا من اعتباره مجرد ملف “تقني-عسكري”؛ وهو أسلوب تسعى طهران لتوظيفه لغلْق الطريق أمام أيِّ مشاريع نزْع سلاح بالإشارة إلى أنها تمسُّ مفهوم الأمن والكرامة الوطنية وليس بمسألة تنظيم الدولة.
مفاوضات الناقورة: تفاصيل اللقاء وأبعاده
شهدت منطقة الناقورة، في الثالث من ديسمبر 2025، حدثًا غير مسبوق منذ عقود، تمثل في إجراء أول جولة مفاوضات مباشرة بين لبنان و قوات الاحتلال منذ عام 1983، وهي المفاوضات الأولى من نوْعه منذ اتفاق 17 مايو 1983 خلال فترة رئاسة أمين الجميل، الذي كان يُعَدُّ أول ملامح الاتفاق للسلام بين البلديْن، وتحت الرفض الشعبي والضغط السوري آنذاك، اضطرت الحكومة اللبنانية والبرلمان إلى إلغاء ذلك الاتفاق واعتباره باطلًا.
فيما انعقد اللقاء الحالي داخل مقرِّ قوات اليونيفيل في جنوب لبنان، بمشاركة ممثلين مدنيين وعسكريين عن كلا الطرفين، وتحت إشراف اللجنة التقنية العسكرية المعنية بمراقبة تنفيذ اتفاق وقف الأعمال العدائية (الميكانيزم)، وقد تم تعيين السفير السابق لدى واشنطن، سيمون كرم، رئيسًا للوفد اللبناني بالتنسيق مع رئيس الجمهورية جوزيف عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة نواف سلام؛ في خطوةٍ عُدّت إشارات لبنانية للقبول بمسار تفاوضي “مدني سياسي” للمرة الأولى، فيما مثّل قوات العدو أوري رزنيك من مجلس الأمن القومي، إلى جانب حضور أمريكي عبر المبعوثة مورغان أورتاغوس التي سبقت الجلسة بزيارة لتل أبيب التقت خلالها نتنياهو ووزير الدفاع، واطّلعت على تقييمات الصهيونية مباشرة حول نشاط الجيش اللبناني وسلاح حزب الله.
وتكمن أهمية هذا التحرُّك في قبول لبنان بأن يكون له ممثل مدني في اللجنة وهو ما كان مطلبّا أمريكيًّا واضحًا، وكان لبنان يعارضه في السابق، ورغم أن الاجتماع قدّم نفسه كمسار فني ضمن ترتيبات وقْف النار، إلا أنّ إدراج شخصيات مدنية للمرة الأولى وطرْح ملفات التنمية في الجنوب وإعادة الإعمار والمشاريع الاقتصادية الحدودية، مَنَحَ المفاوضات بُعْدًا سياسيًّا يتجاوز المنطق العسكري التقليدي.
تُعْزَى تغييرات الموقف اللبناني
تُعْزَى تغييرات الموقف اللبناني إلى عاملين أساسيين؛ الأول؛ تواصل الغارات الصهيونية شِبْه اليومية على الأراضي اللبنانية التي شكَّلَتْ ضغطًا كبيرًا على البلاد وزادت حِدَّتُها مؤخرًا وسط تصاعُد التهديدات الصهيونية بالتصعيد مجددًا، ترافق ذلك مع انتقادات الصهيونية وأمريكية للحكومة اللبنانية؛ بسبب تقاعسها بشأن ملف نزع سلاح حزب الله حتى وصلت الانتقادات إلى إلغاء زيارة كانت مقررة لقائد الجيش اللبناني إلى واشنطن الشهر الفائت؛ حيث اعتبرت السلطات الأمريكية الجيش اللبناني شريكًا أساسيًّا.
وفي هذا السياق، أكدت السلطات اللبنانية استمرارها بخطة إزالة سلاح حزب الله ونفت صحة المزاعم حول دخول أسلحة جديدة لمختلف الجماعات المسلحة بما فيها حزب الله بينما أشارت بأن الاحتلال الصهيوني لخمْس نقاط جنوب الليطاني حال دون الانتشار الكامل للجيش اللبناني هناك.
أمَّا العامل الثاني الذي يسهم في تفسير القرار اللبناني فهو موقف الرئيس الذي أعرب علانيةً عن تأييده لفكرة التفاوض مع قوات العدو ؛ إذ أطلق الرئيس جان جوزاف عون مبادرة عشية عيد الاستقلال الماضي، أكَّدَ فيها استعداد لبنان للخوض بالمفاوضات تحت رعاية دولية سواء كانت أممية أو أمريكية أو مشتركة إلا أن دعوته لم تلْقَ التجاوب المطلوب من الجانب الصهيوني حتى جاء إعلان الثالث من ديسمبر والذي تبعه تصريح رئيس الوزراء الصهيوني بتحويل تكليفه القائم بأعمال مستشار الأمن القومي لإرسال أحد ممثليه لاجتماع منفصل مع مسؤولين حكوميين واقتصاديين لبنانيين.
تركز المفاوضات بين لبنان و قوات العدو على مجموعة من القضايا الجوهرية التي تمسُّ الأمن والسيادة لكل طرف؛ فمن جهة لبنان؛ أولوياته تتمركز حول إنهاء الهجمات شِبْه اليومية وضمان حماية المدنيين والبُنَى التحتية غير العسكرية المتضررة، كما أن النقاش يتناول الإفراج عن الأسرى وانسحاب القوات الصهيونية بالكامل والحفاظ على سيادة الدولة فيما يتعلق بحقوقها الوطنية.
على الجانب الآخر، فينصبُّ تركيز تل أبيب على إنهاء أي تهديد محتمل من حزب الله لأمن قوات الاحتلال وهو ما يتضمن مراقبة انتشار السلاح وتحديد سقْف قدرات الحزب في الجنوب اللبناني، هذا التبايُن في الأولويات يطرح تساؤلات حول مدى إمكانية التوصُّل إلى اتفاق متوازن؛ إذ لا يقتصر النزاع على الجانب العسكري فحسب، بل يشمل الأبعاد السياسية والاقتصادية والأمنية لكلٍّ من الطرفين؛ مما يجعل الحوار الحالي اختبارًا دقيقًا لقدرة لبنان على حماية سيادته وسط ضغوط إقليمية ودولية مستمرة.
وتؤكد مصادر دبلوماسية، أن الجلسة أُدرجت في إطار تهيئة المناخ لخطوات ثقة متدرجة، تشمل بحث إنشاء منطقة اقتصادية آمنة على الحدود وربْط التنمية بشروط أمنية لاحقة، على أن تُستكمل بجولة ثانية قبْل نهاية العام لمناقشة مقترحات عملية.
محاور تفاوض الطريفين
موقف الأطراف من المفاوضات؛ من جانبه؛ برز موقف حزب الله بوصفه الطرف الأكثر تحفُّظًا على شكْل الوفد اللبناني ومسار الحوار، معتبرًا إدخال عنصر مدني إلى “الميكانيزم” خروجًا عن قواعد الاشتباك التقليدية وتراجُعًا سياسيًّا غير محسوب، وقد عبَّرَ الأمين العام نعيم قاسم بوضوح في كلمةٍ له، الجمعة 5 ديسمبر، عن رفضه لهذا التوجُّه، مؤكدًا أن”مشاركة وفد مدني مخالفة للشرط الأساسي الذي كان يقضي بوقْف الأعمال العدائية”، وأن التغيير يمثل “تنازلًا مجانيًّا لن يُغيِّرَ شيئًا في موقف العدو ولا في عدوانه”، مضيفًا أن ذلك “زاد الضغط وزادت الاعتداءات”، وحذَّرَ قاسم من أن التماهي مع قوات العدو“يعني ثقْب السفينة”، مشدِّدًا على أن الحزب يتيح للدولة إدارة الملف الحدودي ضِمْن سقْف الردع، لكنه يرفض أيَّ تفاوض سياسي يمسُّ جوهر معادلة السلاح.
في المقابل، تعاملت قوات العدو مع محادثات الناقورة كفرصة استراتيجية لربْط إعادة إعمار الجنوب بنزْع الأسلحة، موضحةً أن استقرار الأمن الحدودي يعتمد بشكل كبير على تفكيك ترسانة حزب الله، مشيرةً بوضوح إلى أن استمرار التسلُّح قد يؤدي إلى نشوب مواجهة واسعة النطاق، كما أكدت تل أبيب أن الاجتماع جرى في أجواء طيبة، وتم خلاله بحْث سبل تعزيز التعاون الاقتصادي بين الطرفين، مع التشديد على أن نزْع سلاح حزب الله يظلُّ شرطًا إلزاميًّا، بغضِّ النظر عن أيِّ مساعٍ للتعاون الاقتصادي، في خطابٍ عكس تعارُضًا بارزًا؛ بين فتْح مجال للتعاون الاقتصادي مقابل الحفاظ على تهديد عسكري مستمر كورقة ضغط إضافية.
من جانب لبنان، أكَّدَ رئيس الوزراء نواف سلام، أن تلك المحادثات لا تمثل مفاوضات سلام مع قوات العدو، مشدِّدًا على أن أي تطبيع مرتبط بالالتزام بمبادرة السلام العربية لعام 2002، قائلًا: “إذا التزمت قوات الاحتلال بالمبادرة العربية لعام 2002 فسيتبع ذلك التطبيع، لكننا ما زلنا بعيدين عن ذلك”، كما ربط “سلام” استكمال السيادة الوطنية واستعادة الأراضي المحتلة بإنجاز المرحلة الأولى من حصْر السلاح بيد الدولة، مؤكدًا أن هذا لن يكتمل دون انسحاب قوات العدو من المناطق اللبنانية التي لا تزال تحتلها.
وفي هذا الإطار، أشار إعلان الرئاسة اللبنانية أيضًا إلى أن تعيين السفير السابق سيمون كرم رئيسًا للوفد اللبناني، جاء “بعد التنسيق والتشاور مع رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة نواف سلام”؛ ما يعكس توافُقًا سياسيًّا داخليًّا ويقطع الطريق أمام اعتبار القرار منفردًا أو غير مدعوم من الأطراف الرئيسية، كما سلط هذا التوافق الضوء على طبيعة العلاقة بين بري وحزب الله، ومدى وجود تنسيق حول درجة الصرامة أو المرونة في التعامل مع قضية حساسة وذات أبعاد وطنية وسياسية مثل التفاوض مع قوات الاحتلالومع ذلك؛ يبقي الحوار مطروحًا حول مفاهيم السيادة وإدارة العملية التفاوضية؛ ففي حين ترى مقاربات في بيروت، بأن الدولة لا تستطيع تحمّل التقاطعات والصراعات وسط الأزمة الحالية المنهارة اقتصاديًّا، إلا أن آخرين يُنَبِّهُون إلى خطورة الاندماج في صفقة تحت الضغط وما قد ينتج عن ذلك من زيادة أطماع قوات العدو التاريخية، فيما يتعلق بالمياه والموارد جنوبي الليطاني، وقد أعادت النقاشات الراهنة لإحياء التجارب السابقة المرتبطة بالتفاوض مع قوات الاحتلال مثل نموذج سوريا، والذي يظهر أن التفاوض المباشر مع قوات الاحتلال غير مُجْدٍ في كثير من الأحيان؛ نظرًا لانتهاك قوات العدو المستمر لأيِّ اتفاقات محتملة، كما حصل عند قصْف مواقع سورية رغم الانخراط في مفاوضات طويلة؛ ما يُعزِّزُ شكوك حزب الله في جدوى أيِّ سلامٍ مشروطٍ لا ينطلق من موقع قوة.
في الختام يمكن القول: إن ما شهدته السَّاحة اللبنانية على مدار العام الماضي منذ اتفاق وقف إطلاق النار، ولا سيما من خلال محادثات الناقورة الأخيرة، تشكل إطارًا واضحًا لتحديات الدولة اللبنانية في إدارة أمنها وسيادتها على نحْوٍ مستقلٍّ، وسط ضغوط خارجية وإقليمية مترابطة، حتى باتت استعادة السيطرة الكاملة على الجنوب وإعادة صياغة المعادلة الأمنية اختبارًا حقيقيًّا لقوة الدولة في فرْض إرادتها على جميع الأطراف الفاعلة، بما فيها حزب الله، دون التنازل عن حقِّ لبنان في تأمين شعبه وأراضيه، وبما يضمن الحفاظ على توازُن الرَّدْع وفي ظلِّ هذه المُسَتْجَدَّات، يتجلَّى بوضوح أن لبنان يواجه مفترق طرق استراتيجي حاسم؛ إذ إن استخدام الدولة لأوراق قوتها السياسية والعسكرية والدبلوماسية بانسجامٍ تامٍّ سيكون العامل الفاصل بين إدارة الاشتباك بنجاح وبين الانزلاق نحو مزيدٍ من الضغوط والتهديدات، كما يبقى الحفاظُ على المسار التفاوضي ضمن الإطار الوطني وفصْل أيِّ مفاوضات عن أشكال التطبيع السياسي شرْطًا أساسيًّا لاستدامة الاستقرار النسبي، ولضمان ألا تُسقط أيّ خطوة مستقبلية الدولة في فخِّ الانخراط في الحسابات الإقليمية غير الرسمية.
المصدر: مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية
الكانب : ريهام محمد
التاريخ : 8/12/2025
---------------------------------------------------------------------------------------------
المصدر: صحيفة الشرق الأوسط
الكاتب : يوسف دياب
التاريخ : 8/12/2025
