التقدم السريع للصين في مجال الذكاء الاصطناعي (AI) يعيد تشكيل ديناميكيات التكنولوجيا العالمية، وأحد التحولات الأكثر أهمية يحدث خارج المراكز التقليدية للذكاء الاصطناعي في بكين وشنغهاي وشنتشن. تأثير الصين في الذكاء الاصطناعي يتوسع عبر الجنوب العالمي، من أفريقيا إلى أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا.
من خلال منتجات الذكاء الاصطناعي الميسورة التكلفة، والاستثمارات في البنية التحتية الرقمية، وتأثير متزايد في حوكمة الذكاء الاصطناعي، تضع الصين نفسها كلاعب رئيسي في الذكاء الاصطناعي في الاقتصادات النامية. هذا التوسع ليس مجرد تكنولوجيا – بل هو حول إعادة تشكيل النظام الرقمي العالمي.
حيث يشكّل نموذج (سبايكنج برين) 1.0 منعطفا جديدا فى مسار تطور الذكاء الاصطناعى فى الصين، إذ يعكس التوجه نحو بناء أنظمة ذكاء اصطناعى تحاكى طريقة تفكير الإنسان. ويقوم هذا النموذج على معالجة عصبية مستوحاة من الإشارات الكهربائية فى الخلايا العصبية، ما يمنحه سرعة استثنائية تتجاوز النماذج التقليدية بأكثر من مائة مرة مع كفاءة أعلى فى استهلاك الطاقة. والأهمية الحقيقية للنموذج لا تكمن فقط فى قدراته التقنية، بل لأنه يعتمد على رقاقات محلية بالكامل، وذلك ضمن مساعى بكين لتقليص اعتمادها على المنظومات الغربية.
كشفت الصين عن هذا النموذج الفريد من نوعه خلال شهر سبتمبر الماضى 2025، وتهدف من خلاله لتحقيق عدد من الأهداف التى تتمثل فيما يلى:
1- تعزيز الاستقلال التكنولوجي الصينى: تم تطوير النموذج اللغوي الصينى (SpikingBrain 1.0) بواسطة فريق يقوده «لى قوهتشى» و«شو بو» فى معهد الأتمتة التابع للأكاديمية الصينية للعلوم. وقد تمّ تدريب النموذج باستخدام مئات من وحدات معالجة الرسومات (GPUs) التي وفرتها شركة MetaX لصناعة الشرائح ومقرها شنغهاي، وهو ما يعنى قدرة الصين على تطوير نموذج بمكونات محلية بعيدًا عن منتجات شركة (Nvidia) الأمريكية.
2- ترسيخ موقع الصين فى مجال الذكاء الاصطناعى العصبى: يُعد الذكاء الاصطناعى العصبى (Neuromorphic AI) فرعا من الذكاء الاصطناعى الذى يعمل على تقليد طريقة عمل الدماغ البشرى فى معالجة المعلومات. وقد ظهر هذا الفرع فى أوائل الثمانينيات بالولايات المتحدة الأمريكية، وأخذت الشركات التكنولوجية الأمريكية فى تطبيقات أطروحات هذا الفرع فى تصنيع عدد من شرائحها الإلكترونية. وقد أوضح تقرير صادر عن مؤسسة (Research and Markets)، والذى جاء تحت عنوان «التقنيات الإلكترونية المتقدمة للذكاء الاصطناعى 2026-2036»، أن الصين قد أصبحت واحدة من أهم القوى الصاعدة فى مجال الذكاء الاصطناعى العصبى.
3- سعى الصين إلى قيادة التحولات التكنولوجية الجديدة: أكد تقرير مؤسسة (Research and Markets)، الذى يرصد التحولات التكنولوجية المتوقعة للفترة ما بين 2026و2036، أن العالم يتجه نحو نقطة تحول حاسمة فى الذكاء الاصطناعى، إذ أصبحت المعالجات التقليدية غير قادرة على تلبية المتطلبات الجديدة، وذلك على غرار التدريب الضخم للنماذج اللغوية الكبيرة، وتحليل البيانات الفورية للأجهزة والمعدات ذاتية القيادة، هذا بالإضافة إلى القيود الموضوعة على الأجهزة المحمولة وأجهزة الاستشعار. ولذلك، يجرى الانتقال إلى تطوير أنظمة تكنولوجية أكثر تخصصا، وذلك من خلال التوسع فى مجالات علوم حوسبة الذكاء الاصطناعى العصبى، والحوسبة الكمية. وعلى الرغم من أن القوى الغربية، خاصة الولايات المتحدة، ما زالت تتمتع بالريادة فى هذا الميدان؛ إلا أن الصين أظهرت فى السنوات الأخيرة من خلال برامجها الجامعية وأبحاثها وإنتاجها العلمى فى هذه المجالات، أنها تسعى للتحول من مقعد المتفرج إلى موقع القيادة.
لا يزال نموذج الذكاء الاصطناعى الصينى المطروح فى مرحلته التجريبية، حيث صمم الباحثون نسختين: نسخة تحتوى على 7 مليارات مُعامل، وأخرى أكثر تقدما تضم 76مليار مُعامل للتجربة والاستخدام من قبل كلٍ من المتخصصين والعامة. وقد يكون لمثل هذا النموذج عدد من التداعيات على المستوى التكنولوجى والسياسى والاقتصادى، وذلك على النحو التالى:
ختاما: رغم أن نموذج SpikingBrain 1.0 يعكس إنجازا علميا بارزا ويؤكد تسارع الصين نحو تحقيق استقلالها التقنى فى مجال الذكاء الاصطناعى، فإن طريقها لا يزال محفوفا بالتحديات. فنجاح التجارب الأولية لا يضمن انتقالا سلسا إلى التطبيق التجارى واسع النطاق، خاصة فى ظل التنافس الحاد مع الولايات المتحدة والقيود المستمرة على الشرائح المتقدمة. ومع ذلك، فإن الجمع بين الابتكار المحلى والنظم المتقدمة يمنح بكين فرصة حقيقية لإعادة تشكيل قواعد السباق العالمى فى الذكاء الاصطناعى، شريطة أن تواصل الاستثمار فى البحث العلمى وتوسيع نطاق التجريب التطبيقى.
المراجع
_ اسماء الصفتي، 24/10/2025، هل تمهد الصين لثورة جديدة فى الذكاء الاصطناعى العصبى؟، الشروق.
_ جوني عيسى، 10/3/2025، دفع الصين في الذكاء الاصطناعي في الجنوب العالمي ليس مجرد مسألة تكنولوجيا، اخبار الصين والشرق الاوسط.
