تستضيف الدوحة النسخة الحادية عشر من بطولة كأسالعرب لكرة القدم، خلال الفترة من الأول إلى الثامن عشرمن ديسمبر 2025، بمشاركة 16 فريقاً وعبر النسخالسابقة، كان البعد السياسي غالباً قبل وأثناء وبعدانطلاقها، لاسيما في ظل حروب خاضتها وأزمات واجهتهاالعديد من الدول العربية، مع إضفاء مكانة مركزية للقضيةالفلسطينية والانتماء للهوية العربية ضمن فعالياتالبطولات المختلفة. لذا، لم يكن غريباً أن شهد حفل انطلاقالبطولة الراهنة تقديم أغنيتين رسميتين وهي: "مكاني" للفنان المصري محمد منير وهي أغنية إنسانية تعكسمفهوم الانتماء والهوية. و"زماني" للفنان القطري حمدالخزينة، وهي عمل حماسي يدعو لانطلاقة عربية جديدة. وهنا، حملت البطولة بعداً قومياً، رغم قلة الانتظام خلالتسع نسخ، منذ الأولى في لبنان إلى النسخة التاسعة فيالسعودية عام 2012 تحت الإشراف المباشر من قبل الاتحادالعربي لكرة القدم، حيث لم تسهم الظروف المختلفة فيضمان ثبات استمرارية مواعيد إقامتها، خلافاً إلى تباينعدد المنتخبات التي تشارك بها.
البعد السياسي للبطولة
منذ عدة عقود، وتحديداً في عام 1957، كان البعدالسياسي واضحاً في ذهن الصحفي اللبناني ناصيفمجدلاني الذي طرح فكرة إقامة بطولة لكرة القدم تكونأقرب إلى مظلة جامعة لكل الدول العربية، وهو ما أعجببها رئيس الاتحاد اللبناني لكرة القدم جورج دباس بحيثبدأت أول نسخة من البطولة في بيروت عام 1963 بمشاركةخمس منتخبات عربية (تونس، لبنان، سوريا، الأردن،الكويت) بنظام دوري من مرحلة واحدة، والتي فازت بهاتونس، في حين فازت بالنسخة الثانية العراق في عام1964، وأقيمت البطولة بنفس نظام النسخة الأولى.
واستضافت العراق النسخة الثالثة بحيث توسعتالبطولة بمشاركة عشر منتخبات قُسمت على مجموعتين. وقد شاركت في المجموعة الأولى منتخبات العراق والأردنولبنان والكويت والبحرين، وشاركت في الثانية ليبياوسوريا وفلسطين واليمن الشمالي وعُمان، وفازت العراقباللقب. وكان اللافت للنظر في هذه البطولة هو الانسحابالعُماني من البطولة بعد خسارتهم 21 هدف قبل عشردقايق من نهاية المباراة الأولى في مواجهة منتخب ليبياتحت مزاعم سوء الأداء التحكيمي، في حين كانت عُمانتعيش أحداثاً عصيبة، والتي أطلق عليها "ثورة ظفار" خلال الفترة (1965-1975)، إذ لم تكن هناك بنية تحتيةرياضية قوية بل تأسس الاتحاد العُماني لكرة القدم عام1978. وبعد هذه البطولة، غابت عُمان عن المشاركة لعقودبل عادت في نسخة قطر 2021.
وكان يفترض استضافة سوريا للنسخة الرابعة لكنهاألغيت بسبب ظروف هزيمة 1967، وتراجع الأولوياتالرياضية، وتجمدت البطولة لسنوات طويلة مما دعاالمجلس الأعلى لرعاية الشباب الفلسطيني إلى إطلاقمبادرة رياضية ذات بعد سياسي يعزز العلاقات بين الدولالعربية باسم "كأس فلسطين"، وتم استحداثها كجزء منالجهود لدعم القضية الفلسطينية من جهة وإيجاد ساحةرياضية بديلة لكأس العرب من جهة ثانية وأطلقت الدورةالأولى بالعراق في يناير 1972، بمشاركة تسع منتخبات(العراق والجزائر ومصر والكويت وليبيا وفلسطين وقطروسوريا واليمن الجنوبي)، وفازت مصر بالبطولة،والنسخة الثانية استضافتها ليبيا عام 1973 وفازت بهاتونس التي استضافت النسخة الثالثة (والأخيرة) عام1975، بمشاركة عشر منتخبات، وفازت بها مصر. وكانيفترض أن تستضيف السعودية النسخة الرابعة من كأسفلسطين، إلا أن الاتحاد العربي لكرة القدم الذي تأسس عام1974 أراد إيحاء بطولة كأس العرب من جديد فتم تحويلكأس فلسطين إلى بطولة للشباب، وصار اسمها "كأسفلسطين للشباب"، ودشنت عدة نسخ منها، وكان آخرهافي عام 1989.
وهنا، تجدر الإشارة إلى أنه تم منح لبنان فرصة استضافةالنسخة الرابعة لكأس العرب على ملعب كميل شمعون،غير أن السياقات الداخلية لم تكن ملائمة بسبب ظروفالحرب الأهلية اللبنانية (1975- 1990) وتعرضت بيروتلاجتياح إسرائيلي في 6 يونيو 1982 بعد محاولةمجموعة أبو نضال اغتيال شلومو أرجوف السفيرالإسرائيلي في لندن في 3 يونيو من ذلك العام، وهو مااستغلته إسرائيل لضرب مقر منظمة التحرير الفلسطينيةفي لبنان. لذا، تم إلغاء البطولة، وبالتالي توقفت لقرابةتسعة عشر عاماً. وتم تنظيم النسخة الرابعة في الطائفبالسعودية عام 1985، وفازت العراق بالبطولة، وهو ماتكرر في البطولة التي استضافتها الأردن عام 1988. وفيالمرحلة اللاحقة، تعرضت بطولة كأس العرب للجمودبسبب الغزو العراقي للكويت الذي اعتبر حينذاك على حدمانشيت الأهرام القاهرية في 2 أغسطس 1990 "كارثةعربية مفزعة".
وعادت فعاليات البطولة مرة أخرى في عام 1992،واستضافت سوريا النسخة السادسة، في إطاراستضافتها لدورة الألعاب الرياضية، وشارك في هذهالبطولة ست منتخبات (سوريا والكويت ومصروالسعودية والأردن وفلسطين) واستبعدت العراق بسببحرب الخليج الثانية بعد تعليق عضوية العراق بجامعةالدول العربية، واستمر استبعاد العراق لأكثر من عقدين.
وفيما بعد، لم يكن هناك تطلع لاستضافة النسخة السابعةمن البطولة وطالت مدة الغياب بدون تفسيرات مبررة حتىعام 1998، واستضافت الدوحة البطولة وشارك فيها 12 منتخب، وفاز بها المنتخب السعودي. وفي عام 2002،استضافت الكويت البطولة وحافظت السعودية علىاللقب، ورافق البطولة عزوف جماهيري عن الحضور مماحول البطولة إلى مجرد فكرة تؤجل من عام لآخر.
وفي عام 2009، كان يفترض تنظيم النسخة التاسعة لكنهاتأجلت لعدم وجود رؤى من الأطراف المختلفة المعنية بها،وهو ما يعكس عدم اهتمام المسئولين أو اللاعبين أوالمستثمرين بها حتى برزت شركة سنغافوية WSG (world sport group) تكفلت برعاية البطولة، وزادتالأرباح المالية للمنتخبات وتقرر إعطاء كل اتحاد مشارك200 ألف دولار، ووصلت جائزة البطل إلى مليون دولار،وفازت المغرب بهذه النسخة التي استضافتها السعودية. واللافت في هذه النسخة عودة المنتخب العراقيللمشاركة، وهو ما حمل رسالة سياسية تعبر عن تحسننسبي في العلاقات السعودية-العراقية بعد التوتر الذيصاحب الغزو العراقي للكويت.
كما كان هناك بعد سياسي بارز في تلك البطولة يتعلقباستبعاد مشاركة المنتخب السوري لاعتبار يتعلقبالانتهاكات التي ارتكبها نظام بشار الأسد في مواجهةقوى المعارضة السورية، بعد حراك 2011، على الرغم من أنسوريا تأهلت للمشاركة بها، ولم يبرز اسم المنتخبالسوري في القوائم النهائية بجدول المباريات، ولم يصدربيان رسمي يوضح هذا الاستبعاد لكن فسر ضمنياً بأنهيتماشى مع إجراءات تعليق عضوية سوريا في جامعةالدول العربية. ومن ثم، يتضح أن التأثير السياسي كانكاشفاً لوضع بطولة كأس العرب لكرة القدم في مراحلزمنية مختلفة، مع الأخذ في الاعتبار أن هذه البطولة فينسخها التسعة لم تحظ باعتراف رسمي من الاتحادالدولي لكرة القدم (الفيفا) حتى عام 2021.
رسائل سياسية متعددة
حملت البطولة الحادية عشر من كأس العرب بالدوحةالعديد من الرسائل والأبعاد السياسية، على نحو ماتوضحه النقاط التالية:
تعزيز قوة العلاقات البينية العربية: على الرغم من أنهناك اتجاهاً في الأدبيات يشير إلى أن الألعاب الرياضية(وخاصة كرة القدم) أصبحت انعكاساً للعلاقات الصراعيةأكثر من كونها عاملاً للتهدئة بين الدول، وهو ما تمالتعبير عنه في العديد من اللقاءات الرياضية العربية،وكان أبرزها المواجهة الكروية بين مصر والجزائر للتأهللمونديال كأس العالم بجنوب أفريقيا 2010، فإن هناكاتجاهاً آخر يرى العكس، إذ أن بطولة كأس العرب لكرةالقدم ليست مجرد منافسة كروية، بل مساحة لالتقاء العربتحت راية واحدة تحمل قيم الوحدة والسلام، بل إن الهدفالرئيسي من وراء تدشينها هو توحيد العرب من خلالالرياضة فيما عجزت السياسة عن تحقيقه كحلم. فقد بدأحفل افتتاح البطولة الأخيرة بلوحة فنية بعنوان "حيثانطلقت الحكاية"، استحضرت بدايات العرب واجتماعالقبائل وبناء المدن ثم تطور الدول العربية، وصولاً إلىمنارة حضارية تتحدى الزمن. وهنا حمل الأداء بعداً رمزياًواضحاً؛ دعوة لتجديد الإرث المشترك وتعزيز الروابط بينالدول العربية في ظل ما يواجه المنطقة من تحدياتضاغطة.
كما أكد الشيخ حمد بن خليفة بن أحمد آل ثاني وزيرالرياضة والشباب رئيس اللجنة المنظمة لكأس العربFIFA قطر 2025 في تصريحات بتاريخ 23 أغسطس 2025 أن "البطولة تحظى بمكانة مميزة في المنطقة، وتحملأهمية خاصة لا تقتصر على مباريات كرة القدم"، مضيفاً: "نفخر باستضافة البطولة للمرة الثانية، والتي تحتفيبالقيم الإيجابية التي تحملها كرة القدم العربية، وتلفتالأنظار مجدداً لقدرة الرياضة على التقريب بين الشعوبوبناء جسور التواصل"، وذكر أن "بطولة كأس العرب تعدمنصة تجمع اللاعبين والمشجعين على حد سواء، ومنبراًلترسيخ قيم الوحدة والتضامن وتعزيز مشاعر الانتماءوالهوية المشتركة، كما تعكس شغف الشباب العربيبالرياضة".
استمرار الدعم الرسمي والشعبي للقضية الفلسطينية: وهو ما برز في أكثر من حالة، إذ شارك الفنان السوريرشيد عساف بدور الراوي، في حفل افتتاح البطولة، مقدّماًمونولوجاً مؤثراً عن الحكايات التي لا نهاية لها، فيإشارة مباشرة إلى استمرارية القضايا العربية وعلىرأسها القضية الفلسطينية، التي حضرت بقوة عبر مجسّمللمسجد الأقصى ولوحات بصرية عكست صمودالفلسطينيين وتحدي الظروف القاسية التي يواجهونها. وكان من الظواهر اللافتة للنظر تجسيد التميمة الخاصةفي بطولة كأس العرب شخصية "جحا" الشهيرة فيالتراث العربي، والذي يعد من الرموز الأدبية والفلكلوريةفي المنطقة بروحه الفكاهية وحكمته الظريفة التي كانيستخدمها لإظهار مفارقات الحياة اليومية، وتنتشرقصص جحا العابرة للأجيال على نطاق واسع في العالمالعربي وتحظى بشعبية كبيرة، حيث تعكس رسائلأخلاقية واجتماعية لمواجهة تحديات الحياة بابتسامة.
تعزيز الشرعية السياسية للنظم العربية الوليدة: ولعلذلك ينطبق على النظام الجديد في سوريا بعد إسقاطنظام بشار الأسد على يد هيئة تحرير الشام بقيادة أحمدالشرع، بل تزامنت البطولة مع مرور عام على هذا التحولالزلزالي في منطقة المشرق العربي ككل. وفي هذا الإطار،تداول ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، في 2 ديسمبر 2025، مقطع فيديو يظهر الرئيس السوري أحمدالشرع وهو يجري اتصالاً عبر الفيديو مع بعثة المنتخبالوطني لكرة القدم، عقب فوز المنتخب السوري على نظيرهالتونسي بهدف مقابل لا شئ في افتتاح مشوارها ببطولةكأس العرب.
وأعرب الشرع خلال الاتصال عن تفاؤله بقدرة المنتخبالسوري على بلوغ نهائيات كأس العالم في السنواتالمقبلة وخاطب الشرع أفراد المنتخب قائلاً: "قدموا كل مالديكم، وسنصل إلى كأس العالم. سنعمل على صيانةالمنشآت الرياضية والاهتمام بها وجلب الاستثمارات لهذاالقطاع". كما التقى الرئيس الشرع مع المنتخب السورىلكرة القدم المشارك في بطولة كأس العرب بحضور وزيرالخارجية أسعد الشيباني في الدوحة، وهو ما يظهراهتمام النظام الجديد في سوريا بتعزيز شرعيته من خلالالألعاب الرياضية، وخاصة كرة القدم لاسيما في ظلالتعقيدات التي يواجهها للانتقال من الثورة إلى الدولة.
ترسيخ المكانة الإقليمية لقطر في استضافة الفعالياتالرياضية: هناك اتجاه في الكتابات يرى أن هذه البطولةفي نسخها الأخيرة تعكس خبرة قطر في إدارة التظاهراتالرياضية الكبرى، على نحو يعزز القوة الناعمة لديها. وتعد النسخة الحالية هي الثانية المتتالية التي تنظمهاالدوحة والتي جاءت بعد النسخة العاشرة في الدوحة عام2021 لتشكل نقطة تحول بعد إقامتها لأول مرة تحت مظلةالاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) الذي قرر تثبيت البطولةتحت مظلته لثلاث نسخ متتالية في أعوام 2025 و2029 و2033، وتستضيفهم قطر، للاستفادة من البنية التحتيةالتي ظهرت عليها ملاعب الدوحة خلال استضافة مونديالكأس العالم 2022. إضافة إلى ذلك، تستضيف قطرالمباريات الثلاث الأخيرة في كأس القارات للأندية خلالأيام الراحة في كأس العرب 2025. كما نجحت الدوحة فينوفمبر 2025 في تنظيم كأس العالم تحت 17 عاماً،بمشاركة 48 منتخباً.
ويعزز كل ما سبق من الثقة التي تحظى بها قطر منجانب صناع القرار في عالم كرة القدم لاسيما أن أبرزالتغييرات التي تشهدها نسخة قطر 2025 في اعتبارمباريات كأس العرب "رسمية" وليست ودية، على أنتُحتسب نقاطها ضمن التصنيف العالمي الشهريللمنتخبات الصادر عن فيفا، في تحول تاريخي يمنحالبطولة صفة رسمية غير مسبوقة، ويمنحها أهمية خاصةللمنتخبات الساعية لتحسين ترتيبها العالمي. فضلاً عنرفع قيمة الجوائز المالية للبطولة إلى 36.5 مليون دولار،في خطوة تعكس الاهتمام المتزايد بالمسابقة، وتسهم فيتحفيز المنتخبات العربية المشاركة. كما يؤدي إلى ترسيخمكانة الدوحة كعاصمة للرياضة على مستوى العالم.
خلاصة القول، إن بطولة كأس العرب لكرة القدم فيالدوحة تمثل أداة دبلوماسية ناعمة يتعين البناء عليهالمواجهة تصور كان مستقراً في فترات زمنية سابقة وهو أنكرة القدم تقدم واحداً من التفسيرات للبيئة التنافسيةالصراعية في المنطقة، فيما أطلق عليه "صراعات الرياضةالعربية"، لكي تتكفل بتقطيع ما تبقى من صلات ودوتراحم بين الجماهير العربية، لتأتي البطولة الراهنةلتقول بإمكانية تحقيق التقارب بين الشعوب العربية علىأساس التنافس التعاوني.
المصدر: مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
الكاتب : د. محمد عز العرب
التاريخ : 14/12/2025
-------------------------------------------------------------------------------------------
المصدر: العربية
الكاتب : دانة العنزي
التاريخ : 9/12/2025
