اعتبر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في مقابلة مع مجلة تايم ماجازين، في 24 أبريل 2025، أن شبه جزيرة القرم ستبقى تحت السيطرة الروسية. وفي مرحلة سابقة في هذا الشهر، تم الكشف عن مشروع اتفاق سلام في أوكرانيا تتجه فيه الولايات المتحدة نحو الاعتراف بالضم الروسي للقرم. هذا التوجه قوبل برفض قاطع من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي أكد أن القرم أرض أوكرانية لا يمكن التنازل عنها. ومن جانبهم، تمسك الأوروبيون بموقف مماثل، وقدموا مشروعاً تفاوضياً بديلاً، يُؤجل بحث القضايا الإقليمية إلى ما بعد تحقيق وقف إطلاق نار شامل، مما أظهر تبايناً داخل المعسكر الغربي حول شروط التسوية في أوكرانيا.
اعتراض أوروبي
يستند الموقف الأوروبي من مسألة ضم القرم من قبل روسيا إلى عدة اعتبارات:
1- رفض مبدئي لأي اعتراف بالضم الروسي: يتمسك الاتحاد الأوروبي بموقف قانوني وأخلاقي صارم يرفض الاعتراف بسيادة روسيا على شبه جزيرة القرم، انطلاقاً من التزامه بمبادئ القانون الدولي واحترام سيادة الدول. وقد أكدت كايا كالاس، رئيسة الدبلوماسية الأوروبية، أن الاعتراف الأمريكي المحتمل بالضم سيكون بمثابة شرعنة الاحتلال بالقوة. هذا الموقف ليس مجرد تعبير عن التضامن مع أوكرانيا، بل هو دفاع عن قواعد النظام العالمي التي تحظر التوسع العسكري وفرض الأمر الواقع. من هذا المنطلق، يعتبر الأوروبيون أن أي تنازل في قضية القرم سيشكل سابقة خطيرة تهدد استقرار القارة وتضعف الردع ضد الأطماع التوسعية في مناطق أخرى من العالم.
2- التخوف من تداعيات مشابهة لسياسة الترضية في 1938: يعيد التوجه الأمريكي للاعتراف بضم القرم إلى الأذهان تجربة اتفاق ميونخ 1938، الذي شهد تقديم القوى الأوروبية تنازلات لألمانيا النازية على حساب تشيكوسلوفاكيا في محاولة لتجنب الحرب. ويرى الأوروبيون أن القبول بسياسة مشابهة تجاه روسيا قد يؤدي إلى زعزعة النظام الأمني في أوروبا، كما حدث بعد ميونخ. ويتخوف الدبلوماسيون الأوروبيون من أن الاعتراف بالضم "سيشجع موسكو على مواصلة سياساتها التوسعية". لذلك، يحذر المسؤولون الأوروبيون من أن مثل هذا المسار يمثل تقويضاً للأسس التي قام عليها السلام في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، ويهدد بإطلاق موجة جديدة من النزاعات الإقليمية.
3- تأكيد فرنسي على أن مصدر الأزمة هو موسكو لا كييف: برزت فرنسا في طليعة الدول الرافضة لتحميل أوكرانيا أي مسؤولية عن استمرار النزاع. ففي تصريحات للرئيس إيمانويل ماكرون أثناء زيارته لمدغشقر في 24 أبريل 2025، شدد على أن الانزعاج الأمريكي يجب أن يتركز فقط على بوتين، في إشارة إلى أن "موسكو هي الطرف المعتدي، وهي المسؤولة عن استمرار الحرب وليس كييف". ويعكس هذا الموقف نهجاً دبلوماسياً فرنسياً يرفض أن يتم فرض ضغوط على كييف لإجبارها على التنازل عن سيادتها، في مقابل غض الطرف عن تصرفات روسيا. كما أوضح ماكرون أن قضية القرم لا يجب أن تطرح الآن، مؤكداً أن هذا الملف لا يمكن البت فيه إلا وفقاً للقانون الدولي وبموافقة الأطراف المعنية، وليس عبر صفقات مفروضة خارجياً.
4- خشية أوروبية من تخلي واشنطن عن أمن القارة: يثير التقارب الأمريكي-الروسي، خاصة في ظل الزيارات المتكررة لستيف ويتكوف إلى روسيا ولقاءاته الأربعة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التي كان آخرها في 25أبريل 2025، مخاوف عميقة في أوروبا من أن تقدم واشنطن على تراجع استراتيجي عن التزاماتها الأمنية في القارة. وتتخوف بعض الأوساط الأوروبية أن أي تفاهمات ثنائية بين واشنطن وموسكو قد تهمش المصالح الأوروبية وتعيد رسم خريطة النفوذ في شرق أوروبا من دون مشاركة الأوروبيين.
هذا السيناريو يدفع أوروبا لتعزيز استقلالها الدفاعي، وقد ظهرت بوادر ذلك في المبادرات الرامية لتقوية القدرات العسكرية الأوروبية الجماعية بعيداً عن الناتو. لذا، فإن أي انحراف في السياسة الأمريكية بشأن أوكرانيا يمثل محفزاً لأوروبا لتسريع بناء منظومة أمنية مستقلة تحسباً لمواقف أمريكية غير متوقعة في المستقبل.
5- تحذير من فتح الباب أمام النزاعات الحدودية في مناطق أخرى: يحذر القادة الأوروبيون من أن الاعتراف الأمريكي بضم القرم قد يخلق سابقة خطيرة تشجع على تصعيد النزاعات الحدودية في مناطق مثل القوقاز أو البلقان وأماكن أخرى، حيث توجد توترات قائمة تنتظر مثل هذه الإشارات لتتفجر. كما أن الصين قد تعتبر هذا الاعتراف الأمريكي سابقة تبرر توسيع نفوذها في بحر الصين الجنوبي.
لهذا السبب، ترى أوروبا أن مسألة القرم تتجاوز حدود أوكرانيا لتكون مسألة مرتبطة بصيانة النظام الدولي القائم على منع تغيير الحدود بالقوة. ورفض الاعتراف بالضم الروسي إذن، هو جزء من استراتيجية أوروبية أوسع لحماية استقرار النظام الدولي ومنع استنساخ نموذج القرم في مناطق أخرى ذات حساسية جيوسياسية.
6- تقاطع الموقف الأوروبي مع مطلب الحفاظ على وحدة أوكرانيا: يعتبر الأوروبيون بأن وحدة الأراضي الأوكرانية ليست فقط شأناً أوكرانياً، بل مسألة أمن قاري. وهذا الموقف تترجمه باريس وبرلين ولندن في دعم مستمر لأوكرانيا، مع رفض واضح لأي حلول تفاوضية قد تتضمن تنازلات إقليمية. وقد أكدت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، خلال لقائها فولوديمير زيلينسكي في 26 أبريل 2025، عن دعمها للوصول إلى سلام عادل ودائم يحفظ وحدة أوكرانيا، في إشارة إلى رفض أي اتفاق يفرض على كييف التنازل عن القرم. كما أن بريطانيا وفرنسا، بوصفهما قوتين نوويتين، التزمتا بتقديم ضمانات أمنية لأوكرانيا في أي سيناريو مستقبلي، مما يعزز موقف الأوروبيين الرافض لتكريس نتائج العدوان الروسي.
مستقبل المفاوضات
سيؤدي تمسك أوروبا بموقفها الرافض لضم القرم إلى تأثيرات مباشرة على المفاوضات حول أوكرانيا:
1- احتمالية إحباط فرص الحلول السريعة التي تسعى واشنطن لفرضها: ساهم الموقف الأوروبي الرافض للاعتراف بضم القرم في تعطيل خطة السلام التي عرضها بوتين على المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف في بداية أبريل 2025، والتي كشفت عنها تقرير في الفايننشال تايمز. فقد نصّت الخطة، ضمن بنود أخرى، على تثبيت السيادة الروسية على القرم مقابل وقف القتال، لكنها اصطدمت برفض أوروبي قاطع. هذا التعارض أدى إلى تأجيل قمة لندن على مستوى الوزراء التي كانت مرتقبة في 23 أبريل 2025 والتي كانت مقررة لمناقشة تفاصيل هذه المبادرة، وعطل المساعي الأمريكية للتوصل إلى اتفاق سريع يُنهي النزاع، حيث يرى الأوروبيون أن مثل هذه التسوية لا تُعالج جذور المشكلة بل تكرّس واقع الاحتلال، ما يطيل أمد المفاوضات ويجعل من التوصل لحل نهائي أمراً أكثر تعقيداً.
2- إعادة الاعتبار للدور الأوروبي كمحور في أي مسار تفاوضي: جاء تأجيل قمة لندن الخاصة بمفاوضات السلام حول أوكرانيا، والتي كان من المفترض أن تجمع الولايات المتحدة وأوروبا وأوكرانيا، ليؤكد حجم الخلافات القائمة بين الأطراف، خاصة فيما يتعلق بمقترحات واشنطن التي تضمنت الاعتراف بالسيطرة الروسية على القرم. ولقد كان من المقرر أن يشارك وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو في هذه القمة، إلا أن مشاركته ألغيت، وحل محله المبعوث الأمريكي الخاص لأوكرانيا، الجنرال كيث كيلوغ، ما أدى إلى خفض مستوى التمثيل الأمريكي في المفاوضات.
وفي هذا السياق، شكّل اجتماع باريس الذي عقد في الإليزيه في 17 أبريل 2025، والذي جمع ممثلين عن الولايات المتحدة وأوروبا (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) وأوكرانيا، محطة مهمة أظهر فيها الأوروبيون تصميمهم على العمل المشترك مع كييف لتحقيق وقف إطلاق نار كامل، وضمان ألا يُفرض أي اتفاق يتعارض مع مصالح أوكرانيا السيادية. وعكس هذا الاجتماع سعي الأوروبيين لتعزيز حضورهم في المفاوضات حول أوكرانيا ومنع تهميشهم في أي تسوية محتملة.
3- زيادة الدعم لكييف لتعزيز موقفها التفاوضي: في مواجهة الضغوط الأمريكية لدفع أوكرانيا نحو القبول بتنازلات إقليمية، يتبنى الأوروبيون استراتيجية دعم صمود كييف ميدانياً وسياسياً بهدف تحسين شروطها التفاوضية، بدلاً من الرضوخ لمطالب تمس وحدة أراضيها. هذا الدعم يتجسد في تكثيف المساعدات العسكرية وبرامج إعادة الإعمار، لتقوية الموقف الأوكراني أمام موسكو. وتزايدت حدة هذه الضغوط مؤخراً مع تصعيد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لهجته ضد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، حيث اتهمه على منصته Truth Social بأنه لا يملك الأوراق بيده معبراً عن استياءه من التصريحات الأوكرانية المتصلبة بشأن القرم في وقت يرى فيه أن اتفاقاً مع روسيا بات قريباً.
وردّ زيلينسكي في 23 أبريل 2025 بنشر تصريح رسمي للإدارة الأمريكية يعود إلى العام 2018 (أي خلال ادارة ترامب السابقة)، تؤكد فيه رفضها لضم القرم حينذاك، مما يعكس تمسك كييف بمواقفها المبدئية رغم تغير المزاج السياسي في واشنطن. وفي هذا السياق، يواصل الأوروبيون دعم الموقف الأوكراني لتفادي أن تجد كييف نفسها معزولة في مواجهة الضغوط الأمريكية والروسية المشتركة.
4- تحفيز النقاش حول مستقبل الأمن الأوروبي المشترك: قد يؤدي الانقسام بين الولايات المتحدة وأوروبا بشأن الاعتراف بضم القرم إلى تسريع النقاش حول تعزيز الأمن الأوروبي المستقل؛ حيث بدأت الدول الأوروبية الكبرى خاصة بعد عودة ترامب إلى الحكم، كفرنسا وألمانيا، التفكير في تطوير منظومة دفاع جماعية مستقلة قادرة على التعامل مع التحديات الإقليمية دون الاعتماد المفرط على الناتو أو الولايات المتحدة. تتجلى هذه الرؤية في خطط زيادة الإنفاق الدفاعي الأوروبي وتطوير صناعات عسكرية مشتركة، كخطوة لتحصين القارة ضد أي تهديدات مستقبلية قد تنجم عن التسويات الأحادية بين واشنطن وموسكو، والتي قد لا تراعي المصالح الأمنية الأوروبية الكاملة.
5- إجاد مقاربة أوروبية شاملة لتعويض محدودية التسويات الأمريكية في أوكرانيا: أدى فشل الهدنة الجزئية المتعلقة بحماية البنى التحتية الطاقوية، التي تم الاتفاق عليها خلال اتصال هاتفي بين ترامب وبوتين في 18 مارس 2025، إلى تحفيز الأوروبيين على تكثيف تعاونهم مع أوكرانيا في الملفات الاستراتيجية ذات الصلة بالطاقة وإعادة الإعمار. هذه الهدنة، التي دخلت حيز التنفيذ في 25 مارس 2025لمدة ثلاثين يوماً، تعرضت لانتهاكات متكررة، حيث سجلت 29خرقاً روسياً حتى 11 أبريل 2025 وباعتراف الأمريكيين أنفسهم.
وبعدما ثبت أن الهدنة الجزئية لم تنجح في تحقيق استقرار ميداني، نتيجة غياب آلية مراقبة فعالة، سيحاول الأوروبيون سد الثغرات التي أظهرتها المقاربات الأمريكية المحدودة، والتي ركزت على تسويات جزئية لم تصمد ميدانياً، عبر محاولة بناء أرضية صلبة لأي تسوية شاملة تحمي المصالح الأوكرانية وتعزز صمودها أمام الضغوط الروسية المتواصلة
6- إطالة أمد الحرب كخيار أقل كلفة من التنازلات السيادية: قد يؤدي تعثر المفاوضات بين الأطراف المعنية بالنزاع الأوكراني إلى إطالة أمد الحرب، وهو سيناريو تتحسب له العواصم الأوروبية، لكنها تعتبره في الوقت ذاته أقل ضرراً من القبول بتنازلات تمس السيادة الأوكرانية. من منظور أوروبا، يمثل الحفاظ على المبادئ القانونية المتعلقة بوحدة أراضي الدول أولوية لا يمكن التضحية بها تحت ضغط التسويات السريعة. هذا الموقف يتجسد في رفض الأوروبيين التنازل عن القرم كجزء من صفقة سلام، رغم الضغوط الأمريكية الرامية إلى تسوية النزاع وهو ما قد يعني عملياً تثبيت سيطرة موسكو على ما يقارب 5.18% من الأراضي الأوكرانية (أي القرم وأجزاء واسعة من دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزابوريجيا. وتجد أوروبا في استمرار الدعم العسكري والاقتصادي لكييف وسيلة لمنع روسيا من فرض معادلة الأمر الواقع، ما يعزز صمود أوكرانيا في مواجهة أي ضغوط تفاوضية. ويتزامن هذا الدعم الأوروبي مع تراجع اهتمام الرأي العام الأمريكي بالقضية الأوكرانية، حيث أظهرت الاستطلاعات أن 77% من أنصار الحزب الجمهوري يعتبرون أن واشنطن لا تتحمل مسؤولية الدفاع عن أوكرانيا في مواجهة روسيا ما يعزز الضغوط على الإدارة الأمريكية للسعي نحو تسوية سريعة.
7- تهديد وحدة الموقف الغربي في أي أزمات مستقبلية: قد يساهم الخلاف الأمريكي-الأوروبي حول القرم في تعميق الانقسام داخل المعسكر الغربي، ما يُضعف وحدته في مواجهة أزمات أخرى مثل بحر الصين الجنوبي أو البرنامج النووي الإيراني. وترى العواصم الأوروبية أن التقارب بين واشنطن وموسكو، عبر لقاءات ويتكوف وبوتين المتكررة، يبعث برسائل خاطئة إلى قوى دولية أخرى، مفادها أن الغرب لم يعد موحداً. لذلك، يتمسك الأوروبيون بموقفهم الرافض للاعتراف بضم القرم كوسيلة لضمان صلابة الموقف الاوروبي مستقبلاً في وجه تحديات مشابهة.
ختاماً، رغم الضغط الأمريكي لإنجاز اتفاق سلام ينهي النزاع الأوكراني الروسي بسرعة، تصرّ أوروبا على الموازنة بين الحاجة الملحّة لوضع حد للمعاناة الإنسانية من جهة، والحفاظ على المبادئ القانونية التي تمنع مكافأة العدوان من جهة أخرى. هذا التوازن الصعب بين إنهاء الحرب والحفاظ على السيادة الأوكرانية يجعل مسار المفاوضات محفوفاࣧ بالتعقيدات، حيث يسعى الأوروبيون جاهدين إلىمنع فرض تسوية قد تنهي القتال مؤقتاً، لكنها تهدد استقرار أوروبا على المدى الطويل
المراجع:
نوار الصمد،30 .4. 2025. كيف يؤثر الموقف الأوروبي من ضم القرم على التسوية في أوكرانيا؟،انترريجونال
ندا جمال السيد حرحور،17. /10/2024، التداعياتوالآفاق.. النزاع الروسي الأوكراني في ضوء القانون الدولي العام، المركز العربي للبحوث والدراسات
