يُعدّ التعاون الاقتصادي بين دول منظمة الثماني الإسلامية النامية (D-8) أحد أبرز النماذج التي سعت من خلالها الدول النامية إلى تعزيز حضورها داخل النظام الاقتصادي العالمي المتحوّل. فمنذ تأسيس المنظمة عام 1997، مرّت منظومة التجارة البينية بمسار متدرّج شمل التأسيس والتفعيل ثم التوسّع، وصولًا إلى مرحلة جديدة من المأسسة والتأكيد على التفعيل. وتعكس اجتماعات مجلس وزراء التجارة وخاصة الدورة الرابعة في القاهرة ديسمبر 2025، اتساع نطاق التعاون التجاري وارتفاع مستوى التنسيق المؤسسي، في ظل سعي الدول الأعضاء إلى بناء شراكات أعمق، وتفعيل الاتفاقيات التفضيلية، وتنويع الروابط الاقتصادية بما يتلاءم مع تحديات المرحلة الراهنة في الاقتصاد العالمي.
تاريخ منظمة التعاون الاقتصادي للدول الثماني
تُمثّل منظمة التعاون الاقتصادي للدول الثماني الإسلامية النامية (D-8) إحدى أهم محاولات الدول النامية لإعادة هيكلة موقعها داخل النظام الاقتصادي العالمي، عبر صياغة إطار مؤسسي يهدف إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري فيما بينها. وقد أُسست المنظمة رسميًا بموجب إعلان إسطنبول الصادر في 15 يونيو 1997 عقب انعقاد قمة رؤساء الدول والحكومات، لتضم في بدايتها بنجلاديش، ومصر، وإندونيسيا، وإيران، وماليزيا، ونيجيريا، وباكستان، وتركيا، ثم انضمت إليها أذربيجان في عام 2025.
وترتكز المنظمة على مجموعة من الأهداف الاستراتيجية، أبرزها: تحسين موقع الدول الأعضاء في الاقتصاد العالمي، وتنويع الفرص التجارية، وتعزيز مشاركتها في عملية صنع القرار الدولي، ورفع مستويات المعيشة. ولا تُعد المنظمة إطارًا إقليميًا بالمعنى التقليدي، بل تُجسّد ترتيبًا دوليًا واسع النطاق يعكس التنوع الجغرافي والثقافي لأعضائها، دون أن يتعارض مع التزاماتهم في المنظمات الإقليمية والدولية الأخرى.
تعود فكرة إنشاء المنظمة إلى المبادرة التي طرحها نجم الدين أربكان، رئيس وزراء تركيا آنذاك، في إسطنبول (أكتوبر 1996)، والتي جمعت ممثلين عن الدول السبع المؤسسة. حيث شكّل هذا اللقاء نقطة الانطلاق لسلسلة من الاجتماعات التحضيرية التي أسفرت لاحقًا عن الإعلان الرسمي لتأسيس المنظمة في عام 1997. والتي تتخذ الأمانة العامة للمنظمة من مدينة إسطنبول مقرًا لها.
العلاقات التجارية بين دول الثماني
1- اتفاقية التجارة التفضيلية: تُعد اتفاقية التجارة التفضيلية لمجموعة الدول الثماني الإسلامية النامية (D-8) أحد أهم الأطر التعاقدية التي تستهدف تعزيز الروابط التجارية والاقتصادية بين الدول الأعضاء، التي تم توقيعها 2006 بقمة بالي؛ إذ تهدف الاتفاقية إلى توسيع نطاق التجارة البينية من خلال خفض الرسوم الجمركية، وإزالة العوائق غير الجمركية وشبه الجمركية، وتهيئة بيئة منافسة أكثر عدالة، بما يسهم في تنويع السلع المتبادلة وتعزيز استدامة نمو التجارة داخل المجموعة. وتشكل آلية خفض التعريفات الجمركية، بأن تُلزم كل دولة بتخفيض تعريفتها الجمركية إلى نسبة 8% من خطوط التعريفة التي تتجاوز 10%، وفق نموذج تدريجي يخفض الرسوم التي تفوق 25% إلى 25%، والتي تقع بين 15% و25% إلى 15%، وبين 10% و15% إلى 10%، كما تعتمد الاتفاقية مبادئ أساسية تُنظّم المعاملة التجارية بين الأعضاء، أبرزها المعاملة بالمثل والدولة الأولى بالرعاية، إلى جانب إلزام السلع المستوردة بمعايير قواعد المنشأ المحددة للاستفادة من الامتيازات التفضيلية. وتتيح الاتفاقية كذلك للدول اتخاذ إجراءات وقائية لمواجهة الضرر البالغ الذي قد يلحق بالصناعة الوطنية نتيجة زيادة الواردات التفضيلية، بما في ذلك تدابير مكافحة الإغراق والرسوم التعويضية وحماية ميزان المدفوعات. والجدير بالذكر، دخول هذا الاتفاق حيز النفاذ في 25 أغسطس 2011 بين إيران وماليزيا ونيجيريا وتركيا، التي أكملت عمليات التصديق الخاصة بها.
2- إعلان القاهرة: شهدت القاهرة في ديسمبر 2024، انعقاد قمة الدول الثماني الإسلامية النامية (D-8) تحت شعار “الاستثمار في الشباب ودعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة: نحو تشكيل اقتصاد الغد”. وقد أسفر الاجتماع عن صدور إعلان القاهرة الذي قدّم رؤية متكاملة لتعزيز العمل الاقتصادي المشترك، وتفعيل الاتفاقيات التجارية القائمة، وإعادة هيكلة مسارات التعاون بما يتناسب مع التحولات العالمية المتلاحقة. وأكد الإعلان ضرورة الإسراع في تنفيذ خارطة الطريق العشرية 2020–2030، مع وضع أطر تنفيذية أكثر فاعلية للتجارة البينية، خاصة عبر تنشيط اتفاقية التجارة التفضيلية، وتسهيل إجراءات الجمارك، وتطوير البنية الرقمية التي تدعم التبادل التجاري بين الدول الأعضاء. كما شدّد الإعلان على أهمية مواجهة تحديات الأمن الغذائي من خلال مشروعات مشتركة في مجالات الزراعة والابتكار الزراعي وإدارة الموارد المائية، إلى جانب توسيع التعاون في الطاقة التقليدية والمتجددة، وتطوير سلاسل القيمة الصناعية، وتعزيز قدرات الدول الأعضاء في التكنولوجيا والاقتصاد الرقمي.
الرؤية المستقبلية للمجموعة
تضمّن الإعلان دعوة واضحة لتعظيم دور الشركات الصغيرة والمتوسطة باعتبارها محركًا للنمو الاقتصادي وتوفير فرص العمل، مع التركيز على تنمية مهارات الشباب ورفع قدراتهم عبر برامج تدريبية وتبادل الخبرات، ودعم ريادة الأعمال والابتكار. كما شدّد على ضرورة تعزيز التكامل في مجالات النقل والموانئ واللوجستيات والسياحة، والعمل على تيسير انتقال رءوس الأموال والاستثمارات داخل المجموعة. وحرص الإعلان كذلك على توسيع الشراكات مع المنظمات الإقليمية والدولية، بما يضمن للدول الأعضاء حضورًا أقوى داخل النظام التجاري العالمي ويعزّز قدرتها على مواجهة التحديات المرتبطة بالتغير المناخي، وتذبذب سلاسل الإمداد، وتباطؤ الاقتصاد العالمي. وفي مجمله، عكس إعلان القاهرة توجهًا نحو بناء كتلة اقتصادية أكثر تماسكًا وفاعلية، قادرة على استغلال إمكانات التكامل بين الدول الثماني وتحويلها إلى قوة اقتصادية مؤثرة في الاقتصاد الدولي.
وتتجه الرؤية المستقبلية للمجموعة نحو رفع حجم التجارة البينية إلى 500 مليار دولار بحلول عام 2030، استنادًا إلى خارطة طريق محددة تشمل توسيع نطاق الشراكات الاقتصادية، وإطلاق مسارات جديدة للتعاون مثل مجموعة عمل اتفاق الشراكة الاقتصادية الشاملة (CEPA)، إلى جانب تعزيز الاستثمارات الإنتاجية المشتركة. ويجري كذلك الدفع نحو إنشاء البنك الإقليمي للبذور كخطوة لتعزيز الأمن الغذائي، إلى جانب مناقشة إنشاء احتياطي استراتيجي للسلع الأساسية بين الدول الأعضاء.
وتتضمن جهود تنشيط التعاون البيني تنظيم منتديات تجارية وزيارات لوفود الأعمال، بما يسهم في زيادة التفاعل بين القطاع الخاص في الدول الأعضاء وتطوير شبكات التبادل التجاري والاستثماري. ومن المتوقع أن تسهم هذه الجهود مجتمعة في تنويع هيكل التجارة، وزيادة تدفقات الاستثمار، وتعزيز القدرة التنافسية، ودعم مسارات التنمية المستدامة داخل دول المجموعة وبذلك تُمثّل اجتماعات مجلس وزراء التجارة إطارًا مؤسسيًا مهمًا لتطوير العلاقات التجارية بين دول الثماني، وتعزيز قدرتها على مواجهة التحديات العالمية، وبناء شراكات اقتصادية أكثر عمقًا وفاعلية على المدى الطويل.
اجتماعات مجلس وزراء التجارة لمجموعة الدول الثماني
شهدت منظومة التعاون التجاري داخل مجموعة الدول الثماني الإسلامية النامية تطورًا متدرجًا عبر أربع دورات وزارية رئيسية، أسهمت مجتمعةً في ترسيخ الإطار المؤسسي للتجارة التفضيلية وتعزيز آليات تنفيذها.
شكّل الاجتماع الأول في أبوجا عام 2013 نقطة الانطلاق الرسمية لمنظومة المجلس؛ حيث ركّز على تثبيت الالتزام الجماعي بتنفيذ اتفاقية التجارة التفضيلية، واعتماد مخرجات اجتماعات كبار المسئولين، وإقرار الجدول الزمني للخطوات الفنية المرتبطة بتحديث قوائم العروض الجمركية وتفعيل الاتفاقيات الداعمة مثل اتفاقية المساعدة الإدارية الجمركية.
وفي الاجتماع الثاني في إسلام أباد عام 2016، انتقل التعاون إلى مرحلة تفعيل الاتفاقية على المستوى الوطني؛ حيث أُقرت بداية التنفيذ الفعلي لاتفاقية التجارة التفضيلية، مع تكليف الأجهزة الجمركية بإتمام الترتيبات الفنية لقواعد المنشأ، وإطلاق العملية المؤسسية لتسوية المنازعات.
أما الاجتماع الثالث في دكا عام 2024، فقد اتسم بطابع توسعي؛ إذ أعاد التأكيد على الالتزام بالتحول من التجارة التفضيلية إلى مستويات أعلى من التحرير التجاري، بما في ذلك بدء مناقشة إمكان تطوير الاتفاقية إلى اتفاقية تجارة حرة مستقبلية. كما تضمّن اعتماد بروتوكول آلية تسوية المنازعات، وإطلاق استراتيجية تيسير التجارة، إلى جانب إنشاء قواعد بيانات للحواجز غير الجمركية وتكليف مجموعات عمل فنية بالتعامل مع المعوقات الفنية والتشريعية.
الاجتماع الرابع في القاهرة ديسمبر 2025 فقد جاء البيان الختامي ليُمثل مرحلة أكثر نضجًا في مسار التنظيم التجاري للمجموعة؛ إذ شهد توسعًا في العضوية بانضمام أذربيجان، إلى جانب تقدم ملموس في تفعيل الاتفاقية من قبل الدول الأعضاء، وبدء عملية مراجعة وتحديث قوائم العروض الجمركية. كما أقر الاجتماع إطلاق مفاوضات تقنية لتوسيع نطاق الاتفاقية نحو أداة تجارية أكثر شمولًا وعمقًا، سواء عبر تطوير اتفاقية التجارة التفضيلية أو التحول إلى اتفاقية تجارة حرة أو شراكة اقتصادية أوسع.
ختاماً تُعد اجتماعات الدورة الرابعة لمجلس وزراء التجارة لمجموعة الدول الثماني الإسلامية النامية (D-8)، التي استضافتها القاهرة، محطة مهمة في مسار تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري بين الدول الأعضاء. ويعكس انعقاد هذا الاجتماع في هذا التوقيت إدراكًا جماعيًا لضرورة تنشيط آليات التعاون المشترك في ظل التحولات العميقة التي يشهدها الاقتصاد العالمي وسلاسل القيمة الدولية.
وتبرز أهمية التكامل بين دول المجموعة في ضوء ما تتسم به من تنوع جغرافي وثقافي واقتصادي، إضافة إلى امتلاكها موارد طبيعية وبشرية واسعة يمكن توظيفها في توسيع الروابط التجارية وتعزيز الاستثمارات البينية. ويمنح العمل تحت مظلة المنظمة فرصة لتفعيل إمكانات جماعية واعدة، بما يسهم في فتح مجالات جديدة للنشاط الاقتصادي وتحسين مستويات التنمية.
وفي ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها النظام التجاري العالمي، وما يصاحبه من تصاعد السياسات الحمائية وإعادة رسم سلاسل القيمة على أسس جديدة، بات لزامًا على الدول وخاصة الدول النامية إعادة تقييم أدواتها وآليات اندماجها في الاقتصاد الدولي. فمرحلة التقلّبات الحالية تُبرز أهمية امتلاك الدول لمواقع تفاوضية أقوى داخل المؤسسات والمنظمات الاقتصادية التي تنتمي إليها، سواء على المستويات الإقليمية أو متعددة الأطراف، بما يضمن الدفاع عن مصالحها التجارية وحماية قدرتها التنافسية.
المصدر: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية
الكاتب : آية حمدي
التاريخ : 18/12/2025
-----------------------------------------------------------------------------------------
المصدر: صحيفة أموال الغد
الكاتب : سناء علام
التاريخ : 2/12/2025
