العدالة الانتقالية

المقدمة

تغطي العدالة الانتقالية المجموعة الكاملة للعمليات والآليات المرتبطة بمحاولة المجتمع التصالح مع إرث متفشٍّ على نطاق واسع خلّفه نزاع ماضٍ أو قمع أو انتهاكات أو تجاوزات، بهدف ضمان المساءلة وتحقيق العدالة والمصالحة ،وقد تشمل هذه العمليات كلاً من الآليات القضائية وغير القضائية، بما في ذلك تقصي الحقائق ومبادرات الملاحقات القضائية والتعويضات والتدابير المختلفة لمنع تكرار الانتهاكات من جديد، بما في ذلك: الإصلاح الدستوري والقانوني والمؤسسي، وتقوية المجتمع المدني، والجهود الرامية إلى تخليد الذكرى، والمبادرات الثقافية، وصون المحفوظات، وإصلاح تعليم التاريخ ، تهدف العدالة الانتقالية إلى الاعتراف بالضحايا، وتعزيز ثقة الأفراد في مؤسسات الدولة، وتدعيم احترام حقوق الإنسان وتعزيز سيادة القانون، كخطوة نحو المصالحة ومنع الانتهاكات الجديدة

نشأة العدالة الانتقالية

لقد تبلور مفهوم العدالة الانتقالية عبر مراحل مختلفة، أسهم كل سياق تاريخي خلالها في صياغة المفهوم لتصبح حقلا مستقلا بذاته. يشار للعدالة الانتقالية علي أنها آلية إحلال السلام والعدالة في حالات ما بعد الصراع، ويمكن تقسيم المراحل التاريخية لتطور المفهوم إلى ثلاث مراحل رئيسة

- المرحلة الأولى: يعد الكثير من الباحثين مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية هي المرحلة الأولى لتشكل المفهوم، وذلك من خلال محاكم نورمبورغ وطوكيو ؛ التي تمثل إنجازها في الاعتراف بالجرائم ضد الإنسانية، في شكل يؤسس لعدالة بعيدة عن الانتقام، ورغم كل الملاحظات التي طالت محاكم ما بعد الحرب العالمية الثانية، فلا يخفى دور تلك المحاكم في تطوير الجنائية الدولية؛ إذ تمكنت من تعزيز الوعي الحقوقي على المستوى الدولي، عبر تأسيسها للبنية القانونية والتنظيمية لفكرة حقوق الإنسان

المرحلة الثانية: ارتبطت تلك المرحلة لتطوير مفهوم العدالة الانتقالية بتسارع مرحلة الديمقراطية ، والتحول السياسي التي عاشته الكثير من الدول، خلال الحرب الباردة، وحتى نهاية الثمانينيات، والتي شهدت حالات صراع داخلي وجرائم ضد الإنسانية متأثرة بالصراع الدولي. تميزت هذه المرحلة بانتشار لجان الحقيقة، فكان أول إنشاء لها في أوغندا عام 1974م تحت اسم لجنة التحقيق في الاختفاء القسري، ثم في بوليفيا سنة 1982م، وكذلك في الأرجنتين سنة 1983م للتحقيق في مصير ضحايا الاختفاء القسري، إبان الحكم العسكري بين 1976م و 1983م

المرحلة الثالثة: عدت مرحلة تشكل مفهوم العدالة الانتقالية بعد نهاية الحرب الباردة؛ إذ شاع استخدام المصطلح بين عدد من الأكاديميين الأمريكيين، لوصف الطرائق المختلفة التي عالجت بها البلدان مشاكل وصول أنظمة جديدة إلى السلطة، ومواجهتها للانتهاكات الجسيمة للحكومات السابقة. في هذه المرحلة أضحى مفهوم العدالة الانتقالية أكثر استقرارًا؛ إذ أصبحت أهداف المفهوم ووسائله ونهجه أوسع، فتضمن دور العدالة الانتقالية في مرحلة ما بعد الصراع تنظيم العلاقات وقت السلم

كما يمكن اعتبار هذه المرحلة مرحلة التبلور للعدالة الانتقالية؛ إذ أخذت العدالة طابعا شاملا لجميع القطاعات التي تؤثر على النسق المجتمعي بعد انتهاء الصراع

آليات العدالة الانتقالية

أ‌- المحاكمات: إن للدولة التزام بمقاضاة الجرائم، وذلك وفقًا لقانون المعاهدات الدولية والقانون العرفي، حتى وإن كانت هذه الجرائم ارتكبت في ظل النظام السابق أو إن مرتكبها هو النظام السابق، وكل ذلك منصوص عليه في المادة الرابعة للعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية

إن المحاكمات هي التي تؤدي إلى التحول المعياري من حكم غير شرعي إلى حكم شرعي، وتؤدي إلى التحول إلى نظام سياسي أكثر ليبرالية

إن للمحاكمات أهمية من الناحية الجزائية؛ فهي تقوم بفرض العقاب وتصحيح الأوضاع، ومن ناحية أخرى تمنع عدم ظهور أي محاولة لانتهاك حقوق الإنسان في المستقبل، إذ إن إعفاء الأفراد من العقاب وعدم خضوعهم للمحاسبة أو فرض أي عقوبات عليهم يؤدي إلى انعدام حقوق الإنسان؛ فالإفلات من العقاب هو نقيض سيادة القانون

عدم القدرة على ردع انتهاكات حقوق الإنسان يؤثر على الضحايا المباشرين بل وإن تداعياته تمتد أيضًا إلى التأثير على العملية الديمقراطية وإرساء سيادة القانون وحماية حقوق الإنسان، فعندما تحرض الشرطة على القتل أو تيسره دون أن تتعرض لأي عقوبة فهي بذلك تكون مشاركة في الجريمة، كما إن ضعف ردع منتهكي حقوق الإنسان تمتد آثاره لتشمل المجتمع كله

إن المحاكمات تقوم بتقييد مرتكبي الانتهاكات المعروفين وتؤدى إلى إعادة إصلاحهم وتأهيلهم؛ فهي تطهر المجتمع من القادة الخطرين وتقوم بردع مجرمي الحرب في المستقبل وإعادة تأهيل الدول العاصية

تعد المحاكمات مفيدة لبناء السلام وإقرار الحقيقة بشأن أحداث الماضي، وتتم المحاكمات من خلال المحاكم الوطنية، والمحاكم الدولية، والمحاكم المختلطة، والمحكمة الجنائية الدولية


ب‌- لجان تقصي الحقيقة: تركز هذه اللجان على الماضي، لا على واقعة بعينها، فتحاول رسم صورة كاملة لانتهاكات حقوق الإنسان أو القانون الدولي الإنساني خلال فترة زمنية محددة، لا توجد بصورة دائمة وإنما لفترة مؤقتة وتنتهي بمجرد تقديمها تقرير نتائج عملها، يتاح لها قدر من السلطة حتى تتمكن من الوصول لأكبر قدر من المعلومات بالإضافة إلى الأمن حتى تتمكن من دراسة القضايا الحساس، لذلك تعد ذات أهمية كبيرة وعادة ما تتشكل في لحظة الانتقال السياسي في بلد ما


ت‌- تعويض الضحايا (جبر الأضرار): الهدف الأساسي للتعويض هو إعطاء العدالة للضحايا، وتعني الاعتراف بالضحية ورد كرامته وإعادة الثقة بين المواطنين بعضهم البعض من ناحية وبين المواطنين والدولة من ناحية أخرى

إن مبدأ التعويضات أصبح ملزمًا وفقًا للقانون الدولي، وبالرغم من اختلاف التزامات كل دولة في تفاصيلها الدقيقة، تبعًا لاختلاف المواثيق الموقعة عليها، فهي ملزمة (التعويضات) في مواجهة الدول جميعا

تأخذ التعويضات عدة معاني؛ منها التعويض المباشر، أو رد الاعتبار، أو الاسترجاع، وعند النظر إلى نوعها فإنها تنقسم إلى مادية ومعنوية، بينما من ناحية الفئة المستهدفة فقد تكون فردية أو جماعية

التعويض المادي يتم عن طريق منح أموال وحوافز أو تقديم خدمات مجانية كالتعليم والصحة والإسكان، فيما المعنوي يتم عن طريق اعتذار رسمي أو إعلان يوم وطني للذكرى


ث‌- إصلاح المؤسسات: يأتي عندما ينتهي الحكم التسلطي أو عندما ينتهي الصراع، حيث تعمل المؤسسات الكبرى على مساندة الحكم التسلطي أو الشمولي على الصراع، وتكون محتفظة بعلاقتها مع الزعماء السابقين سعيًا وراء مصالحها الشخصية، فتقاوم أي محاولة لتغيير الوضع الراهن، فتتعطل البنية الأساسية، بما يؤدي إلى عدم ثقة المواطنين في هذه المؤسسات، لذلك يجب إصلاح هذه المؤسسات حتى يتم نشر السلام وتحقيق الديمقراطية والقضاء نهائيًا على الحكم الشمولي، وتصبح المؤسسات خادمة للمواطنين بدلًا من أن تكون قامعة للأفراد، فتخدمهم بنزاهة وتحمي حقوق الإنسان


ج‌- آليات إحياء الذكرى: تعد ذات أهمية كبيرة في العدالة الانتقالية، لوجود ارتباط كبير بينها وبين عملية التصالح مع الماضي؛ حيث تجاوز الأضرار التي مر بها الأفراد في فترات الحروب والنزاع، تهدف إلى تعريف الناس بماضي ضحايا انتهاك حقوق الإنسان، وذلك لتوعيتهم من خلال تلك الآلية


يتم إحياء الذكرى من خلال النصب التذكارية الموجودة في أغلب المجتمعات من تماثيل ولوحات تذكارية، تخلد أبطال الحرب أو متاحف وطنية تهتم بالتراث الثقافي، فتجسد تلك النصب نشاطات الحكومات والأشخاص في فترة تاريخية سابقة. هذا ويؤدي إحياء الذكرى إلى استدامة التحول الديمقراطي وحقوق الإنسان

المصادر

نهى ابو الذهب ،24.11.2020 ،الابداع في العدالة الانتقالية ،موقع برو كنغز

الهلالي محمد هشام ، 11.7.2020 ،تجربة العدالة الانتقالية : دراسة في الاليات والوسائل ،المركز الديمقراطي العربي

( ب، ن ) ، 15.3.2021 ،سياسات عربية :47 تجربة في العدالة الانتقالية ، العربي الجديد

المقالات الأخيرة