الحماية الدولية للآثار أثنااء النزاعات المسلحة

المقدمة

عانت البشرية على مر العصور من ويلات الحرب وغيرها من صور النزاعات المسلحة ولم تتوقف تلك المعاناة عند حدود الإضرار بالإنسان وممتلكاته الشخصية ،بل امتدت إلى الآثار و التراث الإنساني الذي يعتبر جزءا لا يتجزأ من ذاكرة الأمة وتاريخها الثقافي، وفي أحيان كثيرة عمد الاستعمار و المعتدين إلى الاعتداء على الآثار لخصومهم ،بغية طمس معالم حضارتهم و العمل على تخلفهم، خاصة بعد تفاقم ظاهرة الحروب وما ينجم عنها من اعتداءات على الآثار باعتبار هذه الأخيرة تشكل جريمة حرب في حق الإنسانية

و أمام خطورة هذا الوضع قام المجتمع الدولي بوضع آليات و ميكانيزمات تهدف إلى ضمان حماية الآثار و المواقع الأثرية سواء كان ذلك عن طريق عقد اتفاقيات دولية أو أجهزة تعنى بحماية هذه الآثار من خلال الحد من الاعتداءات التي تطال بالآثار أثناء النزاعات المسلحة و أن يفرض التزامات الاحترام و الحماية على أطراف النزاع ولم تعد الحماية التقليدية للقانون الدولي الإنساني، كما كان عليه في القرن العشرين مقتصرة على حماية المدنيين بل امتد نطاقها لتكفل حماية دولية للآثار، وتمثلت تلك الحماية في بادئ الأمر في اللوائح الملحقة باتفاقية لاهاي الثانية لعام 1899 واتفاقية لاهاي الرابعة لعام 1907، فضلا عن اتفاقية لاهاي التاسعة التي احتوت على بعض الأحكام المتعلقة بحماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات المسلحة وفي وقت لاحق تم توقيع ميثاق واشنطن في 15 ابريل من عام 1935 الخاص بحماية المؤسسات الفنية والعلمية والآثار

الحماية العامة للآثار

تتمثل الحماية العامة للآثار في الوقاية والاحترام حيث تتطلب مسألة وقاية الآثار اتخاذ الدول الواقع على أراضيها هذه الآثار كافة الإجراءات الكفيلة لتحقيق الوقاية المنشودة ،وقد بنيت اتفاقية لاهاي 1954على متن نصوصها ما يجب على الدول اتخاذه من إجراءات وقائية لحماية الآثار أثناء السلم في المادة الرابعة وذلك بامتناع الدول عن أي استخدام لهذه الآثار لأغراض قد تعرضها للتدمير أو التلف في حال نشوب نزاع مسلح ، وبالامتناع عن توجيه أي عمل عدائي اتجاهها ،ونصت أحكام المادة الخامسة عشر من البروتوكول الإضافي الثاني المتعلق بحماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات المسلحة المؤرخ 26مارس 1999 على مجموعة من التدابير التي يمكن اتخاذها على سبيل المثال لا الحصر والمتمثلة في

قيام الدول بنقل الآثار عن جوار الأهداف العسكرية إذا كانت آثارا منقولة أو تأمين الحماية اللازمة في موقعها إذا تعذر نقلها

إعداد قوائم لحصر الآثار بحيث يتم عن طريق دليل مجهز بالخرائط اللازمة والتي توضح فيها مناطق وأماكن تواجد الآثار

إعداد المباني التي من خلالها يتم حفظ الآثار كمتاحف وغيرها بشكل يجعلها في مأمن من الحرائق أو انهيار المباني

تعيين السلطات المختصة المسؤولة عن صيانة الآثار و حمايتها

و نصت اتفاقية لاهاي لعام 1954 على احترام الآثار ويقصد به الامتناع عن استعمال هذه الآثار أو الوسائل المخصصة لحمايتها أو ما يجاورها من أماكن لأغراض عسكرية قد تعرضها للتدمير أو التلف أو السرقة و النهب في حال وقوع النزاع المسلح ؛و الامتناع عن أي عمل عدائي إزاءها إلا في الحالات التي تستلزمها الضرورات الحربية. كما أكدت المادة السابعة وأربعون من اتفاقية لاهاي الرابعة لعام 1907 على الالتزام باحترام الأبنية الرسمية المخصصة للانتفاع العام بمنع أعمال النهب والتخريب والتدمير ونصت المادة السادسة والخمسون على أنه يجب معاملة ممتلكات البلديات وممتلكات المؤسسات المخصصة للعبادة والأعمال الخيرية والمؤسسات العلمية والفنية كممتلكات خاصة حتى عندما تكون ملكا للدول ،كما يحظر حجز أو تدمير أو إتلاف عمدي لمثل هذه المؤسسات والآثار التاريخية والفنية والعلمية وتتخذ الإجراءات القضائية ضد مرتكبي هذه الأعمال

المسؤولية الدولية المترتبة عن انتهاك أحكام حماية الآثار أثناء النزاع المسلح

تتحمل الدول في حالة مخالفتها للالتزامات الملقاة على عاتقها بموجب أحكام القانون الدولي المسؤولية الدولية على نحو يشابه في مضمونه وأحكامه المسؤولية المدنية التي تقررها أحكام وقواعد القانون الخاص وتتمثل مسؤولية الدول بشكل عام في ضرورة تقديم الترضية الكافية والمناسبة لمن أصابهم الضرر والتي يمكن ان تتخذ صورة التعويض العيني أو التعويض المادي أو الترضية، وأشارت المادة واحد وتسعون من البروتوكول الأول لسنة 1954 الخاص بحماية الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات المسلحة على المسؤولية الدولية في حالة انتهاكها لأحكام البروتوكول وكذا مسؤوليتها عن كل المخالفات التي يقترفها الأشخاص الذين يشكلون جزء من قواتها المسلحة، وذلك من خلال التزام هذه الدولة بالتعويض ،كما أكدت اتفاقية لاهاي 1954على التزام الأطراف في حالة مخالفتهم لأحكام حماية الآثار برد هذه الممتلكات في حالة نهبها أو الاستيلاء عليها و دفع التعويضات اللازمة في حالة تدميرها

أولا : رد الممتلك

يقصد برد الممتلك إعادة الأوضاع التي تأثرت من وقوع العمل غير المشروع إلى ما كانت عليه ويعتبر التعويض العيني الأمثل في حالة ثبوت المسؤولية الدولية ،وقد استقر القضاء والعمل الدوليين على ضرورة رد الممتلك الذي تم الاستيلاء عليه في فترات النزاع المسلح ،وتتمثل عمليات رد الآثار التي تم الاستيلاء عليها .خلال فترة الحرب؛ عن طريق نشر بيانات وقوائم خاصة بهذه الآثار وتوزيعها على تجار التحف الآثار و المتاحف وعلى الرغم من إن مشروع اتفاقية لاهاي 1954قد خصص فصلا كاملا يتناول رد الممتلك ، والذي يكون إما بطرق دبلوماسية أو طرق قضائية، وفق ما نصت عليه المادة الخامسة من اتفاقية المعهد الدولي لتوحيد القانون الخاص بشان القطع الثقافية المسروقة أو المصدرة بطرق غير مشروعة و قد يستحيل على الدولة رد الآثار وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه لذلك استقر الرأي على إمكانية دفع تعويض مالي للدولة المضرورة بغية إصلاح الضرر ؛ وقد شهدت الممارسة العملية عدد من الأمثلة لهذا النوع من الوفاء بالتزام الدول أي بتعويض الضرر الذي يمكن أن تلحقه بالدول الأخرى والمترتب على تدمير أو نهب الآثار في فترات النزاع المسلح، حيث نصت اتفاقية فرساي لعام 1919 على تأسيس محكمة التحكيم في التعويضات المدنيين من مصادرة ممتلكاتهم أثناء الحرب بواسطة القوات الألمانية ، كما تضمنت اتفاقية برلين لعام 1921 نصا مماثلا ، تنفيذا لذلك الاتفاق تأسست في عام 1922 لجنة مختلطة للنظر في حجم التعويضات الواجب أدائها نتيجة تدمير ونهب عدد من الممتلكات الثقافية ، ولم تشر اتفاقية لاهاي لعام 1954 ولا برتوكولها الأول إلى التزام الدول التي تخالف أحكام الحماية بدفع التعويضات المالية للدول المضرورة

المسؤولية الجنائية الفردية

إن أحكام الحماية المقررة للآثار في فترات النزاع المسلح يعتمد بالدرجة الأولى على إقرار مبدأ المسؤولية الجنائية لمرتكبي الأعمال العدائية ضد هذه الآثار، باعتبار أن هذه الانتهاكات تشكل جريمة من جرائم الحرب التي تستوجب إنزال العقاب بمرتكبها ، ولما كان مبدأ المسؤولية الجنائية للدول لم يستقر بعد في القانون الدولي، فقد أصبح من المقبول إقرار المسؤولية الجنائية للأفراد وتوقيع العقوبات الجنائية عليهم حال ارتكابهم جرائم ضد الإنسانية ، وعليه جاء البرتوكول الثاني لعام 1999 مقررا المسؤولية الجنائية المقررة بموجب اتفاقية لاهاي لعام 1954 وبرتوكولها الأول 1954

أولا: قواعد المسؤولية الجنائية قبل تبني البرتوكول الثاني 1999

في أعقاب الحرب العالمية الأولى أوصت لجنة التحقيقات، التي تم تأسيسها طبقا لمعاهدة فرساي عام 1919 بضرورة المحاكمة الجنائية لجميع الأفراد الذين ارتكبوا انتهاكات واعتداءات على الممتلكات الدينية والثقافية خلال الحرب ، وذلك أمام المحاكم الوطنية أو الدولية تأسيسا على أن ما ارتكبوه بشكل مخالفة لقواعد وأعراف الحرب ،وقد أكدت المادة الثامنة والعشرون من اتفاقية لاهاي 1954 على الدول الأطراف بأن تتخذ في نطاق تشريعاتها الجنائية كل الإجراءات التي تكفل محاكمة الأشخاص الذين يخالفون القواعد والأحكام الواردة بالاتفاقية أو يأمرون بما يخالفها وتوقيع جزاءات جنائية أو تأديبية مهما كانت جنسياتهم. وجاءت المادة الخامسة وثمانون من البرتوكول الأول لعام 1977 أكثر وضوحا وتحديدا فيما يتعلق بالمسؤولية عن شن الهجمات على الآثار التاريخية وأماكن العبادة والأعمال الفنية التي يمكن التعرف عليها بوضوح ، والتي تمثل التراث الثقافي أو الروحي للشعوب متى توافرت لها حماية خاصة بمقتضي ترتيبات معينة كما لو كانت في إطار منظمة دولية مختصة ، فقد اعتبرت أن إلحاق التدمير البالغ بهذه الممتلكات نتيجة توجيه الهجمات عليه يمثل انتهاكا جسيما لأحكام البرتوكول

وبالرجوع إلى النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998 نجده متضمنا نصا يسمح بتوجيه اتهام لمرتكبي الانتهاكات ضد الآثار باعتبارها جرائم حرب فقد عددت المادة الثامنة من النظام الأساسي جرائم الحرب مثل: التدمير المباشر ،والاستيلاء على الآثار دون وجود مبرر الضرورة العسكرية ، والاعتداء المباشر على الأهداف المدنية التي لا تشكل أهدافا عسكرية ، والاعتداء المتعمد الذي ينتج عنه دمار ثانوي أو واسع الانتشار للأهداف المدنية أو ينتج عنه دمار للبيئة الطبيعة ، والاعتداء المباشر ضد المباني المخصصة للعبادة والتعليم والفنون والآثار التاريخية

ثانيا: قواعد المسؤولية طبقا للبروتوكول1999

أشارت اتفاقية لاهاي لعام 1954إلى المسؤولية عن انتهاك الالتزامات الخاصة بحماية الآثار ، إلا أن التجربة العملية أثبت عدم فاعلية هذا الالتزام ، لذا جاء البرتوكول الثاني لعام 1999 مقررا لأول مرة أحكام المسؤولية الفردية ، الأمر الذي اعتبره البعض وبحق تطورا كبيرا لقواعد المسؤولية عن انتهاكات أحكام الحماية المقررة للآثار في فترات النزاع المسلح وواحدا من الإنجازات التي حققها هذا البرتوكول في مجال القانون الدولي الإنساني

وعليه تم تعريف الأعمال التي تعد انتهاكا خطيرا لاتفاقية لاهاي لعام 1954 وبروتوكولها الثاني، وذلك في نص المادة الخامسة عشر من البروتوكول الثاني لسنة 1954 واعترافا من واضعي البرتوكول الثاني لعام 1999 أن تعداد الانتهاكات لا يضمن في حد ذاته معاقبة أي شخص يقترف أية جريمة من جرائم التي يتضمنها هذا التعداد ،وأكد البروتوكول على ضرورة أن تعتمد كل دولة طرف في البرتوكول عدد من التدابير ما يلزم اعتبار الجرائم المشار إليها سلفا جرائم بموجب القوانين الداخلية وفرض عقوبات مناسبة على مرتكبيها ، وتلتزم الدول الأطراف وهي بصدد ذلك بمبادئ القانون العامة ومبادئ القانون الدولي، بما في ذلك القواعد القاضية بمد نطاق المسؤولية الجنائية الفردية إلى أشخاص غير أولئك الذين ارتكبوا الفعل الجنائي بشكل مباشر


وختاما : يعتبر موضوع الحماية الدولية للآثار أثناء النزاعات المسلحة من بين المواضيع التي حظيت باهتمام كبير من قبل المجتمع الدولي وذلك عن خلال تبني عدة اتفاقيات دولية من بينها اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في حال نزاع مسلح وبروتوكوليها ،بالإضافة إلى الدور الذي لعبته المنظمات الدولية سواء الحكومية أو غير الحكومية في حماية الآثار أثناء النزاعات المسلحة ، غير أن الوقائع على الأرض أتبث حدوث انتهاكات كبيرة ضد الأثار والمعالم الثقافية ما يدعوا المجتمع الدولي الى مزيد من الاهتمام بهذا الجانب الهام

المصادر

فاطمة حمادو ، 1.6.2017 ، الحماية الدولية للآثار أثناء النزاعات المسلحة ، موقع مجلة الدراسات الحقوقية

فرنسوا بونيون ، 14.11.2004 ، نشأة الحماية القانونية للممتلكات الثقافيه في حال النزاع المسلح ، موقع الدولية للصليب الاحمر

المقالات الأخيرة