الصراع في العالم يتحول من التجارة إلى التكنولوجيا

انتشرت تكنولوجيات المعلومات والاتصالات (ICTs) بشكل عملي في جميع جوانب الحياة. منذ عقد من الزمان فقط، في بعض أنحاء العالم، كانت أولوية الوصول إلى تكنولوجيات المعلومات والاتصالات تعتبر رفاهية

من المعترف به اليوم على نطاق واسع أن الاستثمار في الوصول الميسور التكلفة والعالمي وغير المشروط إلى تكنولوجيات المعلومات والاتصالات ضروري لدفع عجلة التقدم نحو الأولويات العالمية، ولا سيما أهداف التنمية المستدامة (SDGs). يتبع ذلك بطبيعة الحال أن الافتراضات والنظريات والآمال وحتى الإحباطات المختلفة هي جزء لا يتجزأ من إقلاع عملية "الرقمنة" هذه

أظهرت النجاحات والإخفاقات المختلفة للإمكانات التحويلية لتكنولوجيات المعلومات والاتصالات أن التقنيات نفسها ليست إيجابية ولا سلبية ولا محايدة بالضرورة

وبدلاً من ذلك، فإن التكنولوجيات الجديدة هي دليل آخر على حقيقة أن التمكين السياسي والمدني والاقتصادي والاجتماعي تشكل جميعها اللبنات الأساسية، سواء بالنسبة للأهداف العالمية أو للرؤى الفائقة والتوقعات المتعلقة بالازدهار، فمنّذ العام 2021 والتكنولوجيا هي احدى الظواهر الرئيسية التي سوف تطغى على العلاقات الدولية في العالم، وفي موازين القوى بين الدول الكبرى وخصوصًا بين الولايات المتحدة والصين، وسوف يتحول الصراع بينهما بشكل تدريجي من صراع حول التجارة والعجز في الميزان التجاري إلى الصراع حول التكنولوجيا وتطبيقاتها

فقد اعلنت الصين في عام 2015، عن خطة صنع في الصين 2025، والتي تستهدف تحقيق تفوق عالمي في مجال الصناعات عالية التقنية، وأعلنت عام 2017، عن نيتها في أن تصبح رائدة عالمية في مجال الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030، والعديد من الخبراء الأمريكيين تحدثوا صراحة عن أن المنافسة بين الولايات المتحدة والصين تدور أساسًا حول من سيتحكم في البنية التحتية والمعايير العلمية لتكنولوجيا المعلومات، وأن الصين هي الدولة الوحيدة التي تستطيع تهديد التفوق الأمريكي في قطاع التكنولوجيا الحيوية

منافسة محتدمه

في هذا المجال ، صدر تقرير حديث عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن بعنوان: «إدارة المنافسة والفصل التكنولوجي بين الولايات المتحدة والصين»، أشار إلى تزايد المنافسة التكنولوجية بين الولايات المتحدة والصين، وحدد التقرير ثلاثة مجالات رئيسة للتنافس التكنولوجي بين البلدين؛ وهي: تكنولوجيا الجيل الخامس، والذكاء الاصطناعي، وأشباه الموصلات

وتعود أهمية تقنية الجيل الخامس إلى أنها تدعم العديد من الصناعات، بما فيها صناعة السلاح وإدارة الأصول الاستراتيجية، وقد قفزت الصين فيها قفزة كبيرة، ولا سيما فيما يسمى بإنترنت الأشياء والخدمات. وأشار التقرير إلى أن الولايات المتحدة متخلِّفة في بعض البنى التحتية للجيل الخامس، وتفتقر إلى الشركات التي لديها القدرة على بنائها، وتخشى أن تستخدم الصين معدات الجيل الخامس للتحكم فيما يمر عبر هذه الشبكات وتعطيله في النهاية؛ لذا قامت بحظر التعامل مع شركة هواوي الصينية في المشروعات الأمريكية، وضغطت على حلفائها لعدم استخدامها. أما في مجال الذكاء الاصطناعي الذي يعد محركًا رئيسًا للنمو والقدرة التنافسية وخلق فرص العمل، فالصين تتقدَّم بشكل سريع في هذا المجال، وبالنسبة لأشباه الموصلات، والذي لا يمكن فصله عن الذكاء الاصطناعي؛ حيث يعتمد الثاني على الأول، فإن الصين تسعى لسد الفجوة لتحقيق استقلالية تكنولوجية واكتفاء ذاتي فيه. مجلس النواب الأمريكي يستمع للرئيس التنفيذي لشركة جوجل أعلن «إريك شميدت»، الرئيس التنفيذي لشركة جوجل، في جلسة استماع أمام لجنة العلوم والفضاء والتكنولوجيا بمجلس النواب الأمريكي، أن الولايات المتحدة تواجه منافسًا قويًّا مُمثَّلًا في الصين، ففي غضون ثلاثة أجيال، تحولت الصين من دخل الفرد البالغ حوالي 90 دولارًا في عام 1960 إلى حوالي عشرة آلاف دولار، وتجاوزت الصين الولايات المتحدة في الناتج المحلي الإجمالي على أساس تعادل القوة الشرائية، ولدى الحكومة الصينية طموحات وخطط محددة، مع تمويل بمليارات الدولارات لتتفوق على الولايات المتحدة في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، مثل: الاتصالات، والحوسبة الفائقة، والفضاء، والدفع عبر الهاتف المحمول، ومركبات الطاقة الجديدة، والسكك الحديدية عالية السرعة، والتكنولوجيا المالية، والذكاء الاصطناعي. وقد ذكر «شميدت» أن مؤشر الذكاء الاصطناعي العالمي، والذي يقيس 150 متغيرًا، أوضح أن الولايات المتحدة هي «القائد بلا منازع» في تطوير الذكاء الاصطناعي، بحصولها على ضعف النتيجة التي حققتها الصين التي احتلت المرتبة الثانية، ولكن توقع المحللون لهذا المؤشر أنه بناءً على اتجاهات الذكاء الاصطناعي الحالية، ستتفوق الصين على الولايات المتحدة في غضون من خمس إلى عشر سنوات فقط

شميدت أضاف أن لدى الصين ما يقرب من ضعف عدد أجهزة الكمبيوتر العملاقة مقارنة بالولايات المتحدة، ولديها ما يقرب من 15 ضعف عدد المحطات البحثية المنتشرة بالولايات المتحدة، وبحلول عام 2025، من المتوقَّع أن يتفوق الباحثون الصينيون على الباحثين الأمريكيين في نسبة الأوراق العلمية الأكثر استشهادًا بها في الذكاء الاصطناعي، وبحلول عام 2030، من المتوقَّع أن تنفق الصين أكثر من الولايات المتحدة على مجالات البحث والتطوير والابتكار. «شميدت» أشار إلى أنه ما لم تتغير التوجهات والسياسات الأمريكية، فإن الولايات المتحدة مع بداية العشرينيات من القرن الحادي والعشرين سوف تنافس دولة الصين، التي تتمتع باقتصاد أكبر، ومزيد من الاستثمارات في مجال الابتكار، وأبحاث ذات جودة أفضل، وتطبيق أوسع للتقنيات الجديدة، وبنية تحتية أقوى للحوسبة، مؤكدًا أن القيادة التكنولوجية للولايات المتحدة تعد أمرًا حتميًّا ليس فقط من أجل التنافسية الاقتصادية والمصلحة العسكرية، بل أيضًا من أجل دعم النموذج السياسي الأمريكي، وإثبات مرونته في مواجهة التغيرات التكنولوجية التي يمكن استخدامها لتهديده

وقدم «شميدت» عدة اقتراحات لتحقيق الريادة التكنولوجية للولايات المتحدة منها:

 زيادة الإنفاق الحكومي على أنشطة البحث والتطوير والابتكار، وخصوصًا بالنسبة للذكاء الاصطناعي الذي يجب أن يكون حجم الاستثمار فيه عدة أضعاف المستويات الحالية

الاستثمار في البنية التحتية للتكنولوجيا، بما في ذلك دعم بديل عالمي تنافسي وآمن للتكنولوجيا الصينية الخاصة بالجيل الخامس للاتصالات، وإنشاء شبكة من المعامل ومراكز البحوث في جميع أنحاء البلاد

التعاون بين الحكومة وقطاع الصناعة والأوساط الأكاديمية، وتقديم الحوافز الضريبية للشركات لمشاركة البيانات وتوفير قدرات للمؤسسات البحثية، وتسريع الجهود لجعل البيانات الحكومية متاحة على نطاق أوسع

  تنمية المواهب، من خلال مبادرات رئيسة جديدة لتعليم العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات على مستوى المدارس والكليات والدراسات العليا، وتوسيع برامج المنح الدراسية الحالية وتصميم برامج جديدة، وجذب المزيد من الخبرات العالمية إلى الولايات المتحدة؛ حيث تكشف الأرقام أن حوالي 80 % من طلاب الدكتوراه في علوم الكمبيوتر الذين يأتون من الخارج للدراسة ينتهي بهم الأمر بالبقاء في الولايات المتحدة بعد التخرج؛ مما يزيد من القدرات التنافسية الأمريكية

 

يذكر أن الميزانية الفيدرالية الأمريكية لعام 2020، شهدت زيادة في المخصصات لمعظم وكالات الأبحاث الأمريكية؛ حيث وافق الكونجرس على منْح الوكالات ذات الصلة بالعلوم أموالًا أكثر بكثير من التخفيضات التي سعى إليها «ترامب» في طلب موازنة 2020، وعلى وجه التحديد، ارتفعت ميزانية المعاهد الوطنية للصحة بنسبة %7 إلى 41.7 مليار دولار، ونمت مخصَّصات مؤسسة العلوم الوطنية بنسبة %2.5 إلى 8.28 مليارات دولار، وارتفعت ميزانية مكتب العلوم التابع لوزارة الطاقة بنسبة %6.3 لتصل إلى 7 مليارات دولار، وعلى الرغم من الخلافات بين الديمقراطيين والجمهوريين فيبدو أن هناك توافقًا بشأن دعم التقدم العلمي والتكنولوجي

الرئيس الأمريكي بايدن ذكر في مقال له بمجلة «فورين أفيرز»، أن «الولايات المتحدة بحاجة إلى أن تكون أكثر تشددًا مع الصين»، «وإذا نجحت الصين في ذلك، فإنها ستستمر في سلْب التكنولوجيا والملكية الفكرية للولايات المتحدة والشركات الأمريكية»، وأن الصين تستخدم «الدعم لمنْح الشركات المملوكة للدولة ميزة غير عادلة وداعمة للهيمنة على تقنيات وصناعات المستقبل». وتتمثَّل خطة «بايدن» لمواجهة الصين في هذا المجال وفقًا لتصريح له في الحصول على دعم حلفاء الولايات المتحدة والتنسيق معهم بشأن الصين، وتحقيق توافق داخلي أمريكي بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري على زيادة «الاستثمارات التي تقودها الحكومة في البحث والتطوير الأمريكي والبنية التحتية والتعليم لمنافسة الصين بشكل أفضل». مما سبق، يتضح لنا أن العالم سوف يشهد تصاعدًا في التنافس التكنولوجي بين الولايات المتحدة والصين، والذي سيحتل مكانة رئيسة في التفاعلات الصراعية بين البلدين خلال سنوات العقد الجديد ، إن من يُطلّ على الفكر في عالم اليوم لا بد من أن يلوح له ما أضحى عليه عمالقة التكنولوجيا من قوة وقدرة على التحكم في مصير الأفراد والمجتمعات. وهذا أمر لا يلاقي رضا النفوس وإعجابها دائما؛ فإذا كان للتطور التكنولوجي أوجه يحسن بها، فله كذلك أوجه أخرى يسمج بها. ومن المعلوم أن الوعي بهذه الأوجه كلها يتوقف على دخول الزمن التكنولوجي، إلا أن الأفراد والمجتمعات أصبحوا لا يملكون أن يدخلوا هذا الزمن كما يريدون هم، بل يدخلونه كما يراد لهم أن يدخلوا. وهذا لعمري من المفارقات التي تستوقف العقل وتستحثّه على التدبر في سؤال الآلة في علاقته مع أسئلة العقل والثقافة والجيو -إستراتيجيا، وسؤال المعنى على وجه الخصوص




المصادر

خالد حاجي ،24.2.2022 ، فتوحات تكنولوجية وإكراهات الزمن التكنولوجي ، موقع الجزيرة نت

نانجييرا سامبولي، 16.1، 2019 ، التكنولوجيات الجديدة والأهداف العالمية ، موقع الأمم المتحدة على شبكة الأنترنت

المقالات الأخيرة